الحد الفاصل بين السياسة والنبوءة دليل كيسنجر لحكم الشعوب

26-07-2022

الحد الفاصل بين السياسة والنبوءة دليل كيسنجر لحكم الشعوب

أحمد شافعي:   

لم يزل في ذاكرتي منذ ثمانينيات القرن الماضي تشبيه قرأته في صحيفة "الأهرام" على الأرجح منسوباً إلى هنري كيسنجر، عندما شبه عملية السلام بين العرب وإسرائيل بشخص يصعد جبلاً على دراجة، فإما أن يستمر في التقدم بلا هوادة، أو يتوقف ولو للحظة فيتقهقر ويتراجع ويهوي إلى أسفل.

بدا التشبيه حين قرأته طفلاً للمرة الأولى شديد الذكاء، وبمرور السنين وكثرة التوقفات في عملية السلام مقرونة بالسقطات تلو السقطات، أخذ يزداد دقة، بل بداهة، ثم بدا من طول صحبته لي أنني لا أنظر من خلاله إلى عملية السلام وحدها، بل إلى الحياة بعامة. ولعل ارتباط ذلك التشبيه بأفكاري عن الحياة الإنسانية برمتها، فضلاً عن الهالة التي تحيط بكيسنجر وتغالي في وصف دهائه وحنكته السياسية وبراعته الدبلوماسية وقدراته التفاوضية، هو السبب في متابعتي على قدر استطاعتي لكل جديد له، سواء أكان الجديد حواراً أو تصريحاً حول شأن من شؤون العالم، أو كتاباً جديداً كما هو الحال هنا.

في الثامنة والتسعين من عمره لم يزل هنري كيسنجر قادراً على لفت أنظار العالم بتصريح كالذي أصدره أخيراً في شأن الأزمة الروسية - الأوكرانية فخالف فيه الغرب كله، المفتون ببسالة الشعب الأوكراني وقائده في مقاومة الهجوم الروسي قائلاً، خلال كلمة ألقاها عبر الفيديو أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، ما معناه عملياً أنه قد يكون على أوكرانيا أن تتنازل عن جزء من الأرض لروسيا في سبيل استهلال التفاوض بهدف إنهاء الحرب الجارية.

وفي الثامنة والتسعين من عمره أصدر كيسنجر كتاباً جديداً عنوانه "القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية" (Leadership: Six Studies in World Strategy) عن دار "بنغوين" في 528 صفحة. ولو أن بوسعي أن أعد من يقرأ هذا الكتاب بمتعة، فلعل أضمنها هي متعة العثور على مقتطفات بارعة أو تشبيهات ذكية ذكاء تشبيه الدراجة، أو التلذذ الذي يجده البعض من حسرة مقارنة كتابنا السياسيين بكاتب يستشهد بسلاسة بمقتطفات من "الجبل السحري" لتوماس مان، أو من قصيدة لأودن. عدا ذلك، لا أحسب هذا الكتاب ممتعاً بقدر ما هو مستفز.

ستة قادة مؤثرين وحربان

في كتابه الجديد، التاسع عشر ضمن مؤلفاته، يتناول كيسنجر ستة قادة مؤثرين هم مستشار ألمانيا الغربية كونراد أديناور، والرئيس الفرنسي شارل ديغول، والرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، والرئيس المصري أنور السادات، ورئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو، ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر. ويجمع بينهم بحسب ما يقول في مقدمته أنهم تشكلوا جميعاً في ظروف صعبة وفترات تاريخية مضطربة، وأنهم كانوا مهندسي تطور مجتمعاتهم والنظام العالمي في أعقاب تلك الفترات العصيبة، وقد أسعده الحظ بحسب ما يكتب "بمقابلتهم جميعاً في ذروة تأثيرهم، وبالعمل عن قرب مع أحدهم وهو ريتشارد نيكسون. لقد ورثوا عالماً زعزعت الحرب ثوابته، فأعادوا تحديد أغراضهم الوطنية، وفتحوا آفاقاً جديدة وأسهموا في بناء جديد لعالم في طور انتقالي".
 
يوجز كيسنجر في تقديمه الملامح العامة لقيادة كل من هؤلاء القادة فيكتب أن كونراد أديناور قاد بلده من أدنى نقطة في تاريخها، بأن جعلها تتخلى عن سعيها الطويل إلى السيطرة على أوروبا، وثبتها في الحلف الأطلنطي، وأعاد بناءها على أساس أخلاقي انعكست فيه قيمها المسيحية وقناعاتها الديمقراطية، وأن شارل ديغول أعاد بناء هيكل فرنسا السياسي مرة بعد انهيارها في الحرب العالمية الثانية، ومرة سنة 1958 إذ أحيا روحها ومنع وقوع حرب أهلية فيها، وقاد انتقالها التاريخي من إمبراطورية مهزومة مقسمة مفرطة الاتساع إلى بلد وطني يتسم بالاستقرار والرخاء. وفي حين أن ريتشارد نيكسون هو الرئيس الوحيد في تاريخ أميركا الذي استقال من منصبه إثر فضيحة "ووترغيت" المدوية لكنه في الفترة من 1969 إلى 1974 قاد الولايات المتحدة حتى أخرجها من صراع فيتنام، وجعل للسياسة الخارجية الأميركية موطئ قدم على المسرح العالمي، وأقام علاقات مع الصين، وبدأ عملية سلام غيرت من وجه الشرق الأوسط، ورسخ مفهوماً للنظام العالمي قائماً على التوازن. وبمزيج بارع من الاستراتيجية العسكرية والدبلوماسية استطاع أنور السادات أن يسترد كثيراً من أرض مصر المحتلة، وكثيراً من ثقتها بنفسها بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، وأن يضمن سلاماً مع إسرائيل قائماً على فلسفة متعالية على الوضع الراهن آنذاك. ولي كوان يو صاغ تطور ميناء فقير متعدد الأعراق يقع على حافة المحيط الهادئ، ويحيط به جيران معادون، فتحولت سنغافورة في ظل إرشاده إلى بلد ينعم بالرخاء والأمن وحسن الإدارة ويجتمع شعبه على هوية وطنية هي قوام وحدته. وورثت مارغريت تاتشر سنة 1979 إمبراطورية فقدت امتدادها العالمي وأهميتها على المستوى الدولي، فاستطاعت تجديد حيوية بلدها من خلال إصلاح اقتصادي واتباع سياسة خارجية قائمة على توازن بين الجرأة والحذر.

يجمع بين أولئك القادة أيضاً في ما يرى كيسنجر أنهم خرجوا من رحم الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين، إذ كانت بمثابة سنوات التكوين في حياتهم جميعاً، عانوا فيها بطريقة أو بأخرى إما من أهوال الحرب نفسها أو مظالم الاستعمار (فمنهم من خاضها قائداً أو مقاتلاً، ومنهم من تعرض للأسر، ومنهم من أفلت من الإعدام، أو قضى سنين في غياهب السجن) وقد خرجوا منها كل باستنتاجه للأسباب التي أدت بالعالم إلى الضلال والخراب، وبتقدير كبير للقيادة السياسية الجريئة الطامحة.

في مستهل كتابه يكتب كيسنجر أن أي مجتمع، مهما يكن نظامه السياسي، يعيش حال انتقال مستمر بين ماضٍ يشكل ذاكرته ورؤية للمستقبل تلهمه تطوره. والقيادة، التي تمضي بالمجتمع عبر هذا المسار أمر لا غنى عنه، فلا بد لقرارات أن تتخذ، وثقة أن تكتسب، ووعود أن تحفظ، وطريق للتقدم أن يقترح ويمهد. والقيادة في جميع المؤسسات الإنسانية من دول وأديان وجيوش وشركات ومدارس لازمة لمساعدة الناس على الوصول من حيث هم إلى حيث لم يكن لهم وجود من قبل. و"من دون القيادة تجنح المؤسسات وتفقد الأمم أهميتها وتنتهي إلى الكارثة".

يصعب أن يختلف أحد على هذا. لولا أن كيسنجر يسارع إلى ربط قد لا يراه البعض حتمياً بين القيادة والقادة. فلماذا القادة أصلاً؟ لماذا ينبغي أن تتجسد القيادة في شخص، بدلاً من أن تذوب في عملية؟ لماذا يتحتم أن يرتبط القرار بفرد، بدلاً من أن يتكون عبر توافق وإجماع وعصف ذهني؟ لماذا يتحتم أن ينقسم الناس إلى رعاة ورعايا ما لم نقل رعاة وماشية؟ أتصور أن السبب الذي يجعل كيسنجر يلح على أهمية القائد الفرد يرجع إن أحسنا الظن إلى أنه في نهاية المطاف يعبر عن عصر غابر، ويرجع إن أمعنا النظر إلى أنه يعبر عن مصالح جماعة أخرى غير مصالح جماعات أغلب القراء على الأرجح.

في حوار مع كيسنجر نشرته مجلة "تايم" في الثالث من يوليو (تموز) الحالي كان أول سؤال وجهته له بيلندا لسكومب هو "هل تعد نفسك قائداً؟" فأجاب، "نعم" ثم استدرك قائلاً، "لكن في المجال الفكري والمفاهيمي أكثر مما في المجال السياسي الفعلي". ولعل هذه هي الحقيقة الآن وفي السنين الماضية منذ خروج كيسنجر من دائرة الحكم الفعلي، لكنه لفترة طويلة قبل ذلك كان قائداً في ما هو أكثر من المجال الفكري والمفاهيمي، صحيح أنه لم يكن الرجل الأول الذي يتصدر المشهد الختامي وينسب القرار إليه، لكنه في كثير من المواقع التي شغلها كان فعلياً قائداً للقادة، كان صاحب الأفكار وصائغها، كان واضع الكلمات على ألسنة الزعماء. إذن فهذا كتاب عن القادة يكتبه واحد من زمرتهم، وليس دارساً لتجاربهم وحسب، لذلك يجب في تقديري أن يقرأ بقدر غير قليل من الحذر. 

يكتب كيسنجر أن "القادة يفكرون ويعملون عند تقاطع محورين: الأول بين الماضي والمستقبل، والثاني بين القيم الثابتة وطموحات من يقودونهم". القادة يحللون، يقيمون الواقع بناءً على التاريخ والأعراف والقدرات، يوازنون، يحددون الأهداف، والاتجاه، ويرسمون ملامح الاستراتيجية. ولكي تلهم الاستراتيجيات المجتمعات يجب أن يكون القادة "معلمين" يشرحون الأهداف ويبددون الشكوك ويحشدون الدعم. وبقدر يسير من الجهد يستطيع قارئ هذا الكتاب أن يعرف أنه ليس مكتوباً فقط ليعلم القادة كيف يقودون، وإنما ليعلم أيضاً الشعوب كيف تنقاد، ومن هنا استفزاز الكتاب الذي أشرت إليه في صدارة هذه السطور. ومن هنا يمكن النظر إليه باعتباره مقلوباً لكتاب الأمير لمكيافيللي، أو هو نسخته الحديثة المبهرجة بالرطانة الأكاديمية.

يحدد كيسنجر خصلتين أساسيتين في أي قائد يمثل "جسراً بين الماضي والمستقبل" هما الشجاعة والشخصية، فالشجاعة لاختيار الوجهة من جملة خيارات صعبة معقدة، والشخصية القوية للبقاء في مسار العمل الذي لا يمكن التحقق في لحظة اختياره من كامل منافعه وأخطاره. والكتاب يلفت أنظارنا إلى أن القادة يعملون في ظل قيود ومحددات منها منافسة لاعبين آخرين قد يكونون حلفاء أو شركاء أو خصوماً، ومنها ضغوط الموقف الذي قد يرغم القائد على اللجوء إلى حدسه وغريزته، ومنها ندرة المعلومات في لحظة اتخاذ القرار. والاستراتيجية هي الكلمة المفتاحية التي تصف ما يصل إليه القائد في ظل هذه القيود، فمن خلالها يستطيع اتخاذ القرار في الوقت المناسب. وينقل كيسنجر عن ونستون تشيرشل قوله إن "اللجوء إلى رجال الدولة لا يكون من أجل تسوية القضايا اليسيرة، فهذه كثيراً ما تسوي نفسها بنفسها، ولكن حينما يختل التوازن، وتختفي الأحجام في الضباب، تسنح الفرصة لاتخاذ قرارات إنقاذ العالم". فـ"القائد الحق أشبه بفنان ينحت من خامات الحاضر تمثالاً للمستقبل"، والقادة الاستراتيجيون بحاجة إلى خصال الفنانين للانطلاق من الواقع المبتذل إلى آفاق المستقبل.

جدل السياسة والنبوءة

يفرق كيسنجر بين نوعين من القائد: رجل الدولة والملهم (أو النبي إن شئتم فالكتاب يستعمل على أية حال كلمة Prophet). ويرى أن أغلب القادة ليسوا أصحاب رؤى بل هم إداريون، وأن كل مجتمع بحاجة إلى من يديرون شؤونه اليومية المعتادة، لكن في أوقات الأزمات من حروب إلى تغيرات تكنولوجية سريعة إلى خلل اقتصادي أو اضطراب أيديولوجي يقتضي الأمر وجود قادة قادرين على إحداث التغيير.

القادة من رجال الدولة هم الذين يحللون الموقف القائم راغبين أن يحققوا في حدوده أقصى الممكن، موازنين بين الرؤية والمخاطرة. أما الملهمون في ما يرى كيسنجر فلا يقبلون هذه التفرقة أصلاً، وإنما يعتقدون أنه لا بد من إعمال رؤاهم بأسرع ما يمكن، وأن هذه الرؤى هي التي تحدد أهمية دورهم السياسي. والرؤية الملهمة هي في الغالب الرؤية الأكثر رفعة والأقدر على تحقيق التحولات التاريخية، ولكنها لا تقيم وزناً لحكم المعاناة البشرية أو لقدرة الجيل الراهن على التكيف مع التغيير الجذري.

وعلى الرغم من الخط الفارق بين الفئتين، فإن من الممكن للقائد أن يتنقل بينهما، فيكون منتمياً إلى إحداهما لكنه يستعير من سمات الأخرى، فالخط الفاصل بين الفئتين لا يمنع النفاذ بينهما. يقول كيسنجر مثلاً إن تشيرشل في ما بين 1929 و1939، وهي السنوات المعروفة بـ"سنوات البرية"، وديغول في مرحلة قيادته لفرنسا الحرة، والسادات في ما بعد 1973 كانوا ينتمون إلى فئة الملهمين، و"عملياً، كل قائد من القادة الستة الذين يتناولهم هذا الكتاب هو مركب من النزعتين، مع ميل ما إلى طبيعة رجل الدولة".

وتوشك جميع المقالات الأميركية التي استعرضت كتاب "القيادة" هذا أن تجمع على استنكار تناول ريتشارد نيكسون ضمن "القادة"، في ضوء الطريقة التي انتهى بها حكمه، بسبب فضيحة "ووترغيت". ولعلي في ما أكتبه هنا أحذو حذو هذه المقالات، مع استبدال أنور السادات بنيكسون، لكن ليس بسبب الطريقة التي انتهى بها حكمه.

يرى كيسنجر أن السادات يختلف عن بقية القادة الواردين في الكتاب، فعلى الرغم من أن الخمسة الآخرين أثاروا ولا يزالون جدلاً كبيراً في بلادهم، لكنهم حظوا باعتراف الأجيال التالية من مواطنيهم، أما السادات فـ"كانت طبيعة انتصاراته بالدرجة الأساسية مفاهيمية (شأن طبيعة قيادة كيسنجر المفاهيمية المزعومة)، ثم إن تنفيذها تعرض للبتر باغتياله، والذين ورثوه في المنطقة على ضآلة عددهم لم يتبنوا إلا الجوانب العملية لا الرؤيوية من جهوده، ولم يظهروا مثل شجاعته وتصميمه، ونتيجة لذلك لا يتذكر أعظم إنجازاته وهو السلام مع إسرائيل إلا القليلون، ويتجاهل الجميع تقريباً هدفه الأخلاقي العميق على الرغم من أنه كان الأساس لاتفاق أوسلو بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وللسلام بين إسرائيل والأردن، وللتطبيع الدبلوماسي بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب".

واضح من العنوان الفرعي للكتاب وهو "ست دراسات للاستراتيجية العالمية" أن كيسنجر معني في المقام الأول بل الوحيد بأداء أولئك القادة على الصعيد العالمي وليس على الصعيد الداخلي، فلا يعنيه مثلاً أن يكون أحدهم قد كذب على شعبه، أو ضلله، أو انتهك قوانينه، حتى إن ستيف دوناغيو في استعراضه الغاضب للكتاب في موقع "أوبن ليترز"، 17 يونيو. يقول إن "هنري كيسنجر قد لا يستطيع (في سنه هذه) أن يصعد الدرج من طابق إلى طابق، لكنه لم يزل قادراً على أن يكذب قبل أن يكمل كتابة الفهرست"، ويصف القادة الذين يتناولهم في كتابه بـ"الوحوش" غير مستثنٍ إلا أديناور. ويقول إن كيسنجر يقبل من "قادته" أي شيء كأن يخونوا القسم، أو أن يستعملوا السلطة للتوحش على الفقراء والضعفاء، أو أن يجيزوا لأتباعهم الفحش في انتهاك القوانين، ما داموا يتسمون بالحسم.

ولعل مثل ذلك الغضب متوقع من قارئ مصري إذ يطالع الفصل الطويل المخصص لدراسة السادات أو للثناء عليه بالأحرى، فمن الصعب أن تجد مصرياً يقر كيسنجر على اعتبار السلام مع إسرائيل "أعظم إنجازات" السادات، وبخاصة إن قورن مع حرب أكتوبر 1973 وعبور قناة السويس واسترداد أرض سيناء بعد ست سنوات من هزيمة مخزية، لكن لعل الأصعب من ذلك أن تجد من المصريين من يصف السادات بالعظمة أو حتى بالدراية بأوليات الاقتصاد في قراره بالانفتاح الاقتصادي الذي لم تزل مصر تدفع ثمنه غالياً إلى اليوم، ومما يقارب المستحيل أن تجد من يصف بالعظمة وهم الديمقراطية (ذات الأنياب) التي ظل الرئيس الراحل يتغنى بها في حياته، ولم تكن إلا ديكوراً متهافتاً لم يستطع أن يخفف من حقيقة الحكم الاستبدادي لمصر في عهده ناهيكم بأن يخفيه، ولكن كيسنجر لا يكتب إلا من موقعه، وموقعه في حالتي السادات ونيكسون هو موقع الشريك المغموسة يداه في ما انغمست أياديهما فيه.

لا أحد يختلف مع كيسنجر على أن الحضارة الإنسانية والمجتمع الإنساني بحاجة دائماً إلى قيادة، لكن السؤال المشروع يتعلق بما إذا كنا لم نزل بحاجة إلى قادة، ناهيكم بحاجتنا إلى قادة "معلمين" أو آباء وكأننا لم نزل في طور الطفولة. في تقديري أن ما نحتاج إليه حقاً بدلاً من القادة الأفذاذ الملهمين هو موظفون أكفاء، أجراء بدرجات رؤساء تقاس كفاءتهم ونجاحهم بدقة تنفيذهم لما تجمع الشعوب على احتياجه. وفي تقديري أننا بحاجة إلى من يضعون في آذانهم سماعات عملاقة تمكنهم من الإنصات إلى أوهى همسات شعوبهم والانصياع لها، لا إلى من يمسكون مكبرات صوت تمطرنا بما يتوهمون أنه الحكمة المصفاة.

يتساءل كيسنجر عما لو أن الفرد يحدث فارقاً في التاريخ؟ ويجيب، "إن معاصراً لقيصر أو لمحمد، للوثر أو لغاندي، لتشيرشل أو لفرانكلين روزفلت، ما كان ليفكر في طرح هذا السؤال. وإن صفحات هذا الكتاب تتناول قادة أحدثوا الفارق لأنهم تعالوا على الظروف التي ورثوها وحملوا مجتمعاتهم إلى أقصى حدود الممكن".

ولعل في هذه الفقرة جواب كثير من الأسئلة التي قد تصاحب قارئاً لهذا الكتاب. بالفعل، ربما ما كان لرجل معاصر لأولئك القادة أن يتساءل عن دور الفرد العبقري في التغيير، ولكن قارئ هذا الكتاب ليس مومياء من الماضي، وهو على الأرجح يؤمن بأهمية الفرد، لكن تعريف الفرد لديه يختلف بل يناقض تعريفه المسيطر على كيسنجر: فهو الفرد العادي، الفرد الذي لن يمسك مطلقاً عصا يشير بها إلى توزيع القوات على خريطة مجسمة، لكنه يمسك ورقة مطوية ويقترب من صندوق اقتراع معتزماً تغيير واقعه البسيط، لأنه ببساطة واقعه هو، ولأنه يفهمه أكثر من غيره، ولأن مصلحته فيه أكبر من مصلحة أي شخص سواه، مهما امتلك ذلك من صفات العباقرة أو كاريزما الزعامة.

اندبندنت عربية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...