النظرية السياسيةالرابعة لألكسندر دوغين.

02-09-2022

النظرية السياسيةالرابعة لألكسندر دوغين.

لم تحظَ أفكار فيلسوف أو مفكر خلال العقدين الماضيين بالنقاش و الجدل، كما حظيت بها أفكار دوغين، و لا أعتقد أنه كان لفيلسوف أو مفكر خلال القرن الحالي من تأثير و فعالية كما كان له.
ينتمي ألكسندر دوغين إلى صنف الفلاسفة و المفكرين الذين صنعوا التاريخ، بكل ما في الكلمة من معنى. نتحدث هنا عن مارتن لوثر، فرانسوا فولتير، بينجامين فرانكلين، فريدريك نيتشه، كارل ماكس، فريدريك أنجلز، ليو شتراوس، صاموئيل هينتنغون، جان جاك روسو، يوشي هيرو فوكاياما وغيرهم.

قيلَ عنه الكثير وبأنه عقل بوتين، وأشيعَ عن علاقة وطيدة بالكرملين، لكنها أخبار الغرب الذي بتنا لا نُصدّقُ منها حتى الصحيح. صيغ خبر إغتيال ابنة دوغين على أنه اختراق أمني كبير  وضربة قاسية جداً لموسكو وزعيمها، عِلماً أنها عملية إرهابية عادية، يستطيعُ أيّ إرهابي وضع قنبلة أسفل سيارة مواطن في أكثر الدول أمناً. دوغين وابنته مواطنان عاديان يعيشان دون حماية أمنية ويسهل اغتيالهما، وبالتأكيد الاغتيال جريمة قذرة وليست بطولة.

أفكار الفلاسفة تصنعُ التاريخ

عرف التاريخ الكثير من الفلاسفة والمفكرين. بعضهم كان تقليدياً آخرون كانوا ناقدين لمَنْ سبقوهم، القلة كانوا مُبدعين خلّاقين لرؤىً ونظريات لم يسبقها إليهم سَلفهم. قد نتفقُ أو نختلفُ أو يكون لنا تحفّظ وربما رفض تام للأسماء الواردة، لكن لا يُمكن تجاهل حقيقةً هي أنّ نظرياتهم غيّرت مجرى التاريخ وصنعت أحداثاً كبيرة، وعلى أفكارهم بُنيت سياسات اجتماعية وسياسية ودينية قادت أنظمة حكم و وضعت دساتير بل صنعت دولاً والبراهين لا تُحصى.

أفكار مارتن لوثر هزت أركان روما، وأحدثت إنشقاقاً هو الأكبر في الكنيسة الكاثوليكية، وتسببت بحروب طاحنة حمل ظاهرها الطابع الديني، فأنتجت كيانات سياسية سيطرت على دول كان المذهب أحد أعمدتها. تلك الحروب التي عرفتها أوروبا في القرون الوسطى كانت حصيلتها انقسامات طائفية بين فرنسا و إسبانيا و إيطاليا الكاثوليكية، ألمانيا و هولندا و بريطانيا البروتستانتية. حتى ضمن الدولة الواحدة كان هناك اقتتال طائفي كما في إيرلندا.

أفكار فولتير  وجان جاك روسو كانت المرجعية الفكرية للثورة الفرنسية 1789، و كتاباته في الإصلاح الاجتماعي لعبت دوراً رئيسياً في الاضطرابات و الثورات التي عرفتها أوروبا حتى عام 1848. دفاعهُ عن الحريات العامة وحقوق المواطن والمطالبة بالعدالة والمساواة كان وقود الثورة الفرنسية، لتتدحرج نحو الليبرالية ثم الليبرالية الحديثة، وصولاً إلى الليبرالية المتوحشة، حيث الفرد الآلة أو بالأحرى الفرد الشيطان. فُرّغت الحرية من معناها الحقيقي ليتم إلباسها ثوب “حرية الفرد” بصيغة الأنانية ويصبح هذا الفرد يُشبهُ أيّ شيء إلا الإنسان الذي تحدث عنه فولتير ومعه جان جاك روسو.

يعتبرُ كثيرون أنّ أفكار فريدريك نيتشه مسؤولة إلى حدّ كبير عن نشوء النازية، وهذا كلام صحيح وخاطئ بنفس الوقت، تبعاً لتفسير ما قصدهُ نيتشه أو نُسِبَ إليه. شقيقتهُ أليزابيث حرّفت جزءاً من أرشيفه بعد وفاته نحو فكرة النازية، فكلامهُ عن حلمه برؤية مجتمع من المتفوقين فقط، تمّ تأويله بشكل خاطئ مما أوحى لهتلر  بفكرة تحسين النسل البشري، فبدأ يقضي على المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصّة واضعاً “العرق الآري” في القمة. أليزابيث كالت المديح لهتلر متحدثة عن تنبوءات شقيقها بقدوم رجل خارق: (السوبرمان هذا هو الذي تنبأ به فريدريك نيتشه).

الكنيسة الكاثوليكية ضد النازية

رغم كلّ ما أشيع عن الكنيسة الكاثوليكية أنها وقفت بجانب هتلر، إلا أنّ الحقيقة مغايرة لذلك. فهتلر الكاثوليكي فشل في الحصول على تأييد الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا في انتخابات 1933، فكان الردّ إغلاق المدارس الدينية والصحافة ومصادرة ممتلكات الكنيسة وقتل العشرات من رجال الدين، في عملية الطائر الطنان 02 تموز 1934. كما وقفت الكنيسة الكاثوليكية ضد فريدريك نيتشه وأفكاره، خاصة بعد كتابه “نقيض المسيح” ومهاجمته الدين المسيحي واعتقاداته.

يشكل الكاثوليك 31,2% من الشعب الألماني، وينتشرون على الأغلب في الجنوب قرب الحدود مع النمسا، بينما يشكل البروتستانت بطوائفهم الأخرى 31,8% وينتشرون في الولايات الشمالية والغربية.  ما نلمسهُ في مركز فيريل للدراسات هو التقارب الكبير بين النمساويين والألمان أصحاب اللغة والتاريخ والأصل الواحد. رغم هذا التقارب تقف أطراف داخلية ألمانية ودول غربية بروتستانتية عديدة ضدّ
هذا التقارب، لأنه قد يُنتجُ دولة واحدة ذات أغلبية كاثوليكية “خطيرة”…

أنطون سعادة وزكي الأرسوزي

أسماء كثيرة كبيرة كان لها تأثير  واسع في صناعة التاريخ، أصحابها فلاسفة ومفكرين قبل أن يكونوا سياسيين، فأنطون سعادة الفيلسوف والمفكر قبل أن يكون زعيماً سياسياً لم ترَ أفكاره النور والتطبيق على الأرض. بالمقابل؛ أفكار آخرين كانت وبالاً على بلادهم وبلاد أخرى، ففُسرت خطأً أو كانت فعلاً أفكاراً تدعو للعنف والقتل والاحتلال. لا يمكننا التوسع أكثر هنا وسنتركها لمقالة أخرى.

ألكسندر دوغين، أخطر فيلسوف في العالم

هو ألكسندر جليفيتش دوغين، وُلِدَ في 07 كانون الثاني عام 1962 في موسكو لأب يعملُ جنرالاً في جهاز المخابرات العسكرية السوفيتية، قيادة الأركان. فيلسوف ومفكر وعالم سياسي وعالم اجتماع ومترجم. يحملُ شهادتي دكتوراه في علم الاجتماع والعلوم السياسية، كما درس الطيران. يتحدث الإنكليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والبرتغالية ويُلمُ بالعربية بالإضافة للغة الروسية. أستاذ جامعي و زعيم الحركة الأوراسية الدولية. له 60 كتاباً ويُحاضر في عدة جامعات حول العالم. مؤلف النظرية السياسية الرابعة، وتنصُّ على نهاية سابقاتها الثلاث؛ الإشتراكية والفاشية والليبرالية. تقوم آراؤه السياسية على هدف رئيسي هو إنشاء قوة عظمى أوراسية، سواء بالرضى أو بالقوة ودمج كافة الدول التي تتحدث الروسية في اتحاد أوراسيا الجديد (EAU). 

ينتمي ألكسندر دوغين إلى الطبقة الأولى من المفكرين والفلاسفة صنّاع التاريخ. لقّبهُ الغرب بأخطر فيلسوف في العالم، وهذا ليس عبثاً، لأن النظرية السياسية التي يطرحها تُعارضُ وتنسفُ فكر الليبرالية المتوحشة في مختلف المجالات، السياسية والفنية والثقافية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية.

لا تقوم نظرية دوغين السياسية الرابعة على الفرد أو العرق أو القومية، إنما على الوعي الإنساني الذاتي الذي همشته التكنولوجيا، وبقدر ما هي معقدة هي سهلة، إذ تُعيد للفرد إنسانيتهُ وتتخذُ من القيم الإنسانية السامية أساساً لبناء الدول ومبدأً لعلاقاتها.

صنّفَ الغرب دوغين عام 2014 حسب فورين بوليسي الأميركية، ضمن أفضل 100 مفكّر عالمي في العصر الحديث، وتحدّثَوا عنه باحترام وتقدير منقطع النظير. فجأة؛ وبعد شهور قليلة من هذا التصنيف، أصبح دوغين يمينياً متطرفاً يحمل أفكاراً خطيرة تدعو لهدم “قيم” الغرب كونه يقف ضد الليبرالية الحديثة، ويكفي أن نعرف أنه يُعارضُ أفكار عرّاب الربيع العربي الفرنسي برنار هنري ليفي. فيريل. هنا وضع اسم إلكسندر دوغين ضمن قائمة العقوبات الغربية بعد تأييده ضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم.

 مختارات من آراء ألكسندر دوغين

أحد أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي اعتماده على “حضارة اليابسة”، بينما اعتمد الأميركييون والأوروبيّون على حضارة البحر.

الليبرالية، وزعيمتها الولايات المتحدة الأميركية، القائمة على توفير الحرية الفردية والسوق الحرة، انتصرت على الفاشية عام 1945 وعلى الشيوعية عام 1991، لكنها تعاني “أزمة قاتلة” تهددها بالأفول الآن.

يختلف الوعي الذاتي من إنسان لآخر، لهذا لابد للعالم أن يكون متعدد الأقطاب وليس كما تحاول جعله الولايات المتحدة الأميركية “حكومة عالمية” تقودها نخبة معينة ومديرو أعمال عالميون، وتستهدف الناس لمصالح شركاتها الخاصة.

الصراع بين روسيا و الولايات المتحدة الأميركية صراع “جيبوليتيكي” (جغرافي سياسي) وليس كما كان سابقا “صراعا أيديولوجيا” بين الليبرالية والشيوعية.

الخصم الحقيقي للاتحاد “الأوروآسيوي”، هو حلف شمال الأطلسي المؤسس على يد 12 دولة بينها الولايات المتحدة الأميركية، والذي أنشئ بهدف وقف تمدد الاتحاد السوفياتي عام 1949.

النظرية السياسية الرابعة هي نظرية الثورة وتصفية الاستعمار بالنسبة للمجتمع الروسي. تدافع عن “أصالة الحضارة الروسية وعن حقوق الإنسان”، ولكن ليس وفقاً للقيم الغربية.

 القيم الغربية؛ مرفوضة في روسيا والعالم الإسلامي والصين، ومن حق الحضارات الأخرى أن تكون لها قوانينها وسياساتها الخاصة بها والمستندة لقيمها هي، لا على القيم الغربية.

روسيا إمبراطورية بعقيدتها وتصورها. أصيبت بتغييرات جذرية بدأت بعد قيام الثورة البلشفية على إثرها تغيرت الهوية الروسية عام 1991، مما جعل روسيا جزءاً من العالم الغربي حتى جاء بوتين وأعاد القوة للبلاد مدافعاً عن القيم المحافظة الخاصة بها.

ألكسندر دوغين وأوكرانيا

في كتابه “أسس الجغرافيا السياسية”: (أوكرانيا كدولة ليس لها معنى جيوسياسي.  على روسيا أن تستوعبها وتترك المناطق الغربية من أوكرانيا منها).

تحدّث دوغين عدة مرات عن أوكرانيا قبل بدء الحرب، مؤكداً أن وقوع الحرب معها “حتمي” وقد أطلق عليها اسم روسيا الجديدة أو نوفو روسيا.

بعد بدء الحرب قال: (هي حرب على الدمى الغربية التي تحاول السيطرة على العالم، حرب على النازيين الجدد الذين انقلبوا على إرادة الشعب الأوكراني في 2014. وليست حرباً على الدولة أو الشعب الأوكراني).

ألكسندر دوغين وسوريا

سوريا هي خط دفاعنا الخارجي الأول، بعدهُ تأتي أراضي روسيا والاتحاد الأوراسي. التدخل الروسي في سوريا هام جداً لوقف التمدد الأميركي المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، هذا التنظيم إنتاج أميركي يهدد الأمن القومي الروسي بشكل مستمر.

حل الأزمة السورية موجود داخل سوريا نفسها، بالتعاون مع روسيا وإيران وقطر والإمارات والسعودية، والليبرالية بأديولوجيتها يجب ألا تكون حاضرة في الملف السوري.

انهيار سوريا سيؤدي لانهيارات متتالية في الشرق الأوسط، وسيخلق فوضى في المنطقة. فتزداد هجرة نحو أوروبا، مما سيُعيدُ الدول الأوروبية إلى الوراء سياسياً.

بعد كل هذه الأفكار من الطبيعي أن يسعى الغرب للتخلص منه، لكنّ الأقدار شاءت أن تفديه ابنتهُ داريا بروحها، وربما كانت هي المقصودة أصلاً بالتفجير الإرهابي لأنها ببساطة؛ الاستمرار والمستقبل.

ألكسندر دوغين وزينون الرواقي

يُشبهُ دوغين في فلسفته إلى حدّ كبير الفيلسوف السوري زينون الرواقي، وربما كان لأفكار الفيلسوف السوري الفينيقي العظيم، تأثير كبير عليه.

الفيلسوف السوري زينون الرواقي، المتوفي 263 قبل الميلاد هو برأي العالم المتحضر من أعظم الفلاسفة عبر التاريخ، وأول مَنْ نادى باللاسلطوية قائلاً: (البشر حكماء لا حاجة للسيطرة عليهم). ساوى بين الأفراد وبين الرجال والنساء، ونادى بالقيم والأخلاق والعدالة والحبّ  قدمك خير من أن يزلّ لسانك). العالم يذكرُ زينون الرواقي ووطنهُ سوريا لا ترى فيها شارعاً باسمه!

ختاماً
صحيحٌ أنّ الصراع الحالي بين روسيا والغرب، صراع نفوذ وسيطرة واقتصاد ظاهرياً لكنه يتجاوز الأيدلوجيات والمصالح إلى كونه صراع قيم وأخلاق، في زمن تبدلت فيه تلك القيم بل انقلبت رأساً على عقب.... إ

 مركز فيريل للدراسات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...