منذر مصري يوثق أكاذيب الشعر

15-02-2008

منذر مصري يوثق أكاذيب الشعر

«من الصعب أن أبتكر صيفاً» هو عنوان الديوان الجديد الأخير للشاعر السوري منذر مصري، والذي كان ذريعتنا إلى هذا الحوار. إنه مجرد ذريعة بحق، لأننا نودّ أن نستمع مجدداً إلى صوت المصري المرح، البعيد والوحيد على شاطئ يعتبره بوابة هائلة لزنزانة اختار بملء إرادته أن يتنفس هواءها.
في هذا الحوار يتحدث المصري مجدداً عن علاقة الرسم والشعر عنده، وأي مسارات تأخذها القصيدة عنده، علاقته بالمدينة، وبالآخرين الذين يملأون قصائده. نتردد قليلاً في سؤاله إن كان جيل السبعينيات، الجيل الذي ينتمي إليه، يستحق الرثاء، فلا يتردد بالقول إن جيل السبعينيات، كما جيل الألفية الجديدة، كما مختلف الأجيال تستحق الرثاء. بل يضيف »إن المنجز الإبداعي السوري برمته يعلن عن نفسه بدون التباس كمرثية».
كيف أعددت نفسك لتكون رساماً؟ وكيف أفسد الشعر ذلك؟ ألا يمكن القول إن الرسم كان جزءاً من عدة الشعر، إذا سلّمنا أن الكتابة ليست تجربة لغوية قدر ما هي تجربة حياة وصور وثقافة بصرية وسواها؟
÷ أعددت نفسي بكل ما تعني كلمة إعداد.. أي قمت بتوهم كامل أني رسام! ثم رحت أرسم في كل وقت وفي كل مكان، في البيت وفي السوق وفي الحديقة العامة وفي مركز البريد والهاتف وفي بيوت الدعارة! بعدها رحت أهتم، وأشتري كتباً وأطلع، وأحضر معارض وو... أصادق الرسامين، أجلس معهم في الكافيتريات، وأسهر معهم في المطاعم والبارات. حصل هذا في حلب خلال دراستي الجامعية. بسام جبيلي الذي قمت معه بأول عرض لرسومي في بهو كلية الاقتصاد بحلب، تعرفت فيه على رسامي حلب كمأمون صقال وسعد يكن، ولؤي كيالي.. وكذلك صادقت يوسف عبدلكي ونزار صابور وآخرين. ثم بعد تخرجي مباشرة كحامل إجازة جامعية في العلوم الاقتصادية، أقمت معرضي الفردي الأول في اللاذقية، ثم في حمص ودمشق وهكذا!؟ بعدها جاء الشعر، الذي لم أكن على أي قدر من الاستعداد له، سوى ذلك التصديق الأخرق بالذات! تصديق أنني أستطيع أن أكتب، من الباب للطاقة، قصائد خاصة بي. حصل هذا وأنا في قاع انغماسي في الرسم وإقامتي للمعارض هنا وهناك، أي في تلك الفترة، من أول السبعينيات إلى أول ثمانينيات القرن الماضي، كنت أرسم وأكتب معاً، في 8791 أصدرت أول مجموعة من أشعاري «آمال شاقة» التي إضافة الى أني كاتبها، كنت طابعها وراسم ومصمم غلافها وموزعها على الأصدقاء، وفي 9791، صدر لي »بشر وتواريخ وأمكنة« عن وزارة الثقافة، لكن ذلك لم يوقفني عن الرسم، بقيت أرسم وأقيم معارض فردية كل سنة أو سنتين حتى آخر معرض لي سنة .3891 توقفت عن الرسم بصورة جدية بعد 4891، حين رسمت /08/ عملاً بأحبار مختلفة عن موضــوع واحد هو الشجرة، ثم قمت بإعداد رسوم مجموعــتنا الشعرية المشتركة، أختي مرام مصري وأنا، كاملة!؟ ولم أعد له حتى سنة 3991، حين رسم مجموعة «ساقا الشهوة» و«طيور ليلية»، متخذاً من إحدى غرف فندق راميتا في اللاذقية مرسمــاً لي بجانب مرسم نزار صابور. فكنت كلما أنهــيت لوحــة، أحملها لعنده وأقول له: «لتعرف من هو بيــكاسو بينـنا»، فكان يجيب مستسلماً: «أنت .. أعترف بأن بيكاسو بيننا هو أنت». لكن نزار صابور كان هو!
قلت مرة: «جاء الشعر وأفسد عليّ كل شيء» لأني، حتى بعودتي المتكررة للرسم، صرت أعود له وكأني غريب، أعود مرتبكاً، أعود كخائن! أما باعتبارك أن الرسم جزء من عدة الشعر، وأن الكتابة تجربة حياة وثقافة بصرية، فأنا لا أجد بدّاً من الموافقة! نعم أوافق بهذا الاعتبار على أن تجربتي كرسام كانت رديفاً لتجربتي كشاعر. لكن ما كنت أقصده هو تكريس كامل الوقت، تكريس الحياة، أنت تعلم لا يمكن أن تكون رساماً أو شاعراً ما لم تعط هذا أو ذاك كل وقتك. كل منهما يطالبك بأن تكرس له كل أفكارك كل عواطفك كل هلوساتك، كل .. دمك!
تمضي وقتاً طويلاً في كتابة القصيدة، تقول إن ذلك قد يستمر لسنوات. أين تذهب بها، أي مسارات تأخذ؟ كيف تولد القصيدة؟ وماذا عن رحلتها إلى القارئ؟
÷ هناك قصائد أكتبها بدقائق، وقصائد تخمّ عندي وتعفن قبل أن أنتهي من كتابتها. لكن يوسف عبدلكي اكتشف أنه يستطيع كل مرة إعادة السمكة إلى الثلاجة، كل سمكاته تلك التي يرسمها فاتحة عينيها وأفواهها إلى الفراغ، أسماك مجمدة. جثث أسماك من هنا يهبط عليها هذا العدم ويلفها. كان بوعلي ياسين يقول لي: »لم أكن أتوقع في حياتي أن يكون هناك شاعر يعذب قصائده وتعذبه قصائده مثلك«. أنا من أولئك الذين يرون أن المزيد من العمل في القصيدة يؤدي لتحسينها! خبرت هذا العديد من المرات. لكني أيضاً أفسدت قصائد كثيرة بمزيد من العمل عليها، كما يحصل دائماً في الرسم، الذي من الصعب العودة فيه عن الخطأ، أقول من الصعب، وربما من الصــعب جداً ولكن ليس من المستحيل. أمّا الشعر فأنـت بسهولة تعود لما كنت قد كتبته سابقاً، ولكن، مرات كثيرة، يستحيل ذلك رغم سهولة العودة لما كانت عليه القصيدة.
أعرف شعراء أكن لتجاربهم كل التقدير أبطلوا الشعر ولم يصدروا كتاباً، وشعراء طبعوا كتاباً أو كتابين على حسابهم الخاص، وراحوا يوزعونها أينما وجدوا وكل من يلتقون معه، بالمقارنة بهم لا ريب أني الأسعد حظاً، حتى وإن كان هناك جزء كبير من شعري، لم يتح له أن ينشر بعد، فالجزء الأول من أعمالي الشعرية: «المجموعات الأربع الأولى» 6002، لم يكن قد صدر منه سوى المجموعتين اللتين ذكرت، أما «كن رقيقي ـ الحب يرى الكره أعمى» و«دعوة خاصة للجميع» فلم تصدرا من قبل، حتى أني قلت بالمناسبة: «يشبه ذلك ما يحدث للموتى».
منذ «مزهرية على هيئة قبضة يد» صارت مجموعاتي تصدر عن واحدة من أهم دور النشر في الوطن العربي، وصار شعري يصل إلى أبعد ما يمكن لشعر عربي أن يصل.. هذه حقيقة. إلاَّ أن الأمر يبدو على نحو ما مخيباً للأمل، لأني كنت أظن عندما صدر «الشاي ليس بطيئاً» أن على الشعراء أن يضعوه على مسند من خشب الصندل، ويصمدوه أمامهم على رف، ثم يشعلوا على جانبيه شمعتين، ويصلوا له! لم يحصل ذلك، للأسف. غير أنه لم يثبط من عزيمتي، فرحت أركب فوق فكرة النشر، فكرة حاجة شعري أيضاً للزمن، وإنه مع الزمن لا ريب سيصل وسيفوز بالاعتراف والتكريس. هذا الظن، الذي حدس مرة عباس بيضون أني أركن إليه، حين لا أجد مانعاً من نشر شعري القديم في مجموعات جديدة. وهو ذات الاستنتاج الذي توصل إليه كل من حسين عجيب وجميل حلبي ومحمد حورية عندما أجروا حواراً معي عن مجمل تجربتي الشعرية، واكتشفوا أني على هذه الدرجة من التصالح مع شعري ومع نفسي.
قصيدة مزاجية
لكنك كنت دائماً تشكو من تعطل برنامج نشر أعمالك، ومنع «داكن» وتمزيق صفحات بعض قصائدك عندما نشرت!؟ ماذا تقول الآن بعد أن تبدل الأمر رأساً على عقب، وراحت أعمالك تصدر عن واحدة من أهم دور النشر العربية؟ كما صدرت أعمالك الشعرية، المجموعات الأربع الأولى، المزية التي لم يحصل عليها أي من أترابك، ما عدا نزيه أبو عفش ولقمان ديركي؟
÷ لم أكن أشكو من تعطل نشر كتبي ولا من منع كتبي أو قصائدي. كنت أبرر، كنت أجد لنفسي الأعذار. إن لم أقل إني كنت ولو بطريقة ملتوية، أتفاخر وأتباهى! أما الآن فعلي أن أتباهى بخلاف ذلك، بعكسه، بكوني أنشر كما قلت في شركة رياض الريس، وكون اسمي صار مألوفاً في أغلب الدوريات والصفحات والمواقع الالكترونية الثقافية، وصرت أدعى للمهرجانات والمؤتمرات الشعرية العربية والعالمية. والحقيقة أن كلا الأمرين لا يصلح للتباهي. أما ما أفكر به الآن فهو متابعة نشر أعمالي الشعرية، هذا دين لها علي. وأظنها ستبلغ بمجموعها أربعة أجزاء، كل منها من حجم المجموعات الأولى الأربع تقريباً.
طبعتَ أربع مجموعات شعرية في مجلد، تقول عنه إنه الجزء الأول من أعمالك الكاملة. ألا تخشى من اكتمال الدائرة؟ والأهم؛ أي وقفة نقدية تطلَّبَها الأمر؟ هل وجدت نفسك مضطراً للتهـذيب والتنقيح والتعديل والحذف؟
÷ بل أسعى، ما أمكنني، لاكتمال دائرتي. نعم أريد لدائرتي أن تكتمل حولي، أن تنغلق، أن يتصل طرف نهايتها بطرف بدايتها، ماذا أريد أكثر. وكما قلت لم أتعامل مع نتاجي السابق بروح ناقدة على الإطلاق! تعاملت معه كدين مستحق على أن أوفيه. وقد قمت بالتأكيد أثناء إعداد المجموعات للطبع بالقليل من التعديل والحذف، والزيادة أيضاً، ولكن ليس تهذيباً بأي معنى كان.
أنت من جيل السبعينيات في سوريا، وهو شكّل حراكاً سياسياً وثقافياً لافتاً، ولكنه، وحسب واحد من أترابك هو يوسف عبدلكي، جيل يستحق الرثاء. كيف تجد اليوم موقعك بالنسبة إلى هذا الجيل، إذا ذهبنا أبعد قليلاً من جيل السبعينيات الشعري؟ هل توافق على مرثية عبدلكي؟
÷ لن أختلف مع يوسف على شيء كهذا، جيل السبعينيات في سوريا وجيل الثمانينيات وجيل التسعينيات وأول جيل في الألفية الجديدة، جميعهم يستحق الرثاء! المنجز الإبداعي السوري برمته يعلن عن نفسه بدون التباس كمرثية. إلاّ أن جيل السبعينيات على ركاكته استطاع تحريك المياه الراكدة للقصيدة السورية. بعد السبعينيين تغير المشهد الشعري السوري كثيراً، لا بل انقلب رأساً على عقب (هذا التعبير على قدمه يعجبني كتركيب لغوي، وكصورة أيضاً). قصيدة الستينيات السورية بامتياز، بكل ادعاءاتها اللغوية والفكرية، بكل وحدة مواصفاتها وتكراراتها، تراجعت للصف الثاني. وحلت بدلاً منها تلك القصيدة المزاجية والاعتباطية والضائعة التي تركها رياض الصالح حسين لنا، ومضى. الكلام عن جيل السبعينيات، يحتاج كتاباً لتوضيح إشكاليته، وقد تناهى لي أنه من الممكن، بمناسبة احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، أن يوكل لي بكتابته! للآن لم يصلني شيء رسمي، ولا أدري ما إذا كنت سأقبل تكليفي به أم لا.. لأني، رغم كوني من هذا الجيل، لدي عنه آراء لا تقل قسوة عن انطباعاتي عن الجيل الذي سبقة أو الذي تلاه! بالتأكيد لكل هذا ظروفه ومعطياته.
لست من الشعراء الذين شكلت دمشق إغواء لهم. الذين جاؤوا أوائل السبعينيات قالوا إنها «مدينة بلا قلب» (عنوان ديوان عبد المعطي حجازي)، ونسجوا قصائد وكتابات بالنبرة ذاتها. أنت لم تأت إلى دمشق، ولكنك قلت أخيراً «دمشق ليست لي». أي إغواء شعري شكّلت لك المدينة، حضوراً أو غيابا؟
÷ لم أقل عن دمشق ذلك، لست رومانسياً لهذا الحد. لم أذهب وأحطّ في دمشق حتى أتهمها بأي شيء من هذا. ولكن مرة كتبت عمن نسجوا تلك القصائد، وكتبوا بتلك النبرة، ووصفتهم بسلالة الغزاة. في اعتقادي أن سوريا قدمت في الستينيات حالة لا مثيل في جلائها عن حالة التماهي بين المثقف والسياسي. شعراء الستينيات السوريون غزوا منابر دمشق الثقافية على أنواعها، غزوهم لنسائها ومقاهيها وملاهيها. أما من جاء إليها بعد الستينيات فلم يكن لهم مثل هذه السطوة. جاؤوا كشذاذ آفاق، جاؤوا كصعاليك، جاؤوا كهاربين من ضيق المدن السورية الأخرى وانغلاقها. ولم يكن لدى دمشق بمواجهة هؤلاء وأولئك سوى الصبر، لأنه، وكما قلت مرة، ليس في مقدور الأماكن أن تتجنب الأذى، وليس لها أن ترد الصاع. كل ما تستطيعه دمشق هو أن تعول على الزمن، أن تنتظر «هزة من القدر» كما يقول بوب ديلان في أغنية ذكرها سركون بولص في إحدى قصائده. بالنسبة لي لم تغوني المدينة حتى آتي إليها، أنا ولدت وعشت وسأموت في مدينة اسمها اللاذقية، ربما يقول قائل إن صفة مدينة بمعنى الكلمة لا تنطبق عليها، باعتبار المدينة مركزاً مستقطباً ومذيباً، لكنها بالمقارنة مع القرى والبلدات والعديد من المدن السورية، تمتاز بكثير من صفات المدن الساحلية المتوسطية ذات التقاليد المدنية البسيطة والمانحة لقدر لا بأس به من الحريات الفردية، فأهلها يمتازون بتنوع غني. كان محمد كامل الخطيب يجلس في مقهى السويس ويقول: «اللاذقية مدينة بحق، فيها تستطيع أن تطلب بيرة وتشربها أمام الناس على طاولة في مقهى رصيف». اللاذقية التي كان فيها /41/ دار سينما في نهاية الستينيات، والآن ليس فيها سوى سينما «الكندي» العائدة للدولة، وسينما «الأهرام» المشرفة على الإغلاق! ولكن في اللاذقية الآن جامعة بمختلف الاختصاصات، كما فيها سوق ذهب كبير وسوق تجار يكاد يحتل كل الطوابق الأرضية لأبنية المدينة، وعشرات وكالات الثياب ذات العلامات العالمية، واحتلت شارع بغداد وحي الأمريكان وحي الزراعة والكورنيشين الغربي والجنوبي عشرات المطاعم ومقاهي الرصيف والكافتريات.
قدّمتَ كتابك الأخير «من الصعب أن أبتكر صيفاً» بإخراج وتصميم لافت في كتابة القصيدة وزخرفتها، هل يكون الشكل حقاً جزءاً من القصيدة؟
÷ أعود وأكرر: «ما ليس له شكل ليس له وجود». عادة أنا من يصمم أغلفة كتبه، من «بشر وتواريخ وأمكنة» إلى آخر كتبي، أنا من يرسم لوحة الغلاف. وأنا من يكتبها ويخرجها، «الشاي ليس بطيئاً» والمجموعات الأربع الأولى طبعت كما نسقت قصائدها على الورق تماماً. أما «من الصعب أن أبتكر صيفاً» فقد اضطروا لتغيير نوع الحرف لا غير. أكتب قصائدي على صفحات بحجم مخصص، وباعتبارات شكلية كثيرة، كأن تبدأ قصيدتي من السطر الذي يسمح أن ينتهي المقطع الأول في نهاية الصفحة الأولى، وتنتهي القصيدة بأكملها في السطر الأخير للصفحة الأخيرة، دائماً. ثم اني أنهي كل مقطع بنقطة واحدة، أما نهاية القصيدة فبنقطتين، مفرقاً بين المقاطع بفاصل مائل (/) وبين القصائد بخط طويل على عرض الصفحة، معتبراً كل هذه الشكليات جزءاً من العناية، وليس الزخرفة آمل، التي أخص بها قصائدي في حلتها النهائية!؟ في «من الصعب أن أبتكر صيفاً» يحتل كل مقطع صفحة كاملة!؟ وهذا ما لم أفعله من قبل، ولا أزال أشعر ببعض الحــرج منه، ولكني رغبت هذه المرة أن أخفف من الدلق والإسهاب الذي كانت توحي به صفحات كتبي وهي مدروزة بكاملها بالكلمات.
الآخرون
مرة أخرى يحضر الآخرون في قصائدك بشكل ساطع، هذه المرة صبحي حديدي ومحمد دريوس ونوري الجراح. أي معنى لحضور الآخرين بهذه الكثافة؟ هل يكون الشعر وثيقة؟ شاهداً؟
÷ ربما، ولكن ليس كما سبق. ليس كما في «دعوة خاصة للجميع» الذي كل قصيدة منها مهداة، أو أصلاً مكتوبة عن، صديق ما. في «من الصعب أن أبتكر صيفاً» هناك قصيدة واحدة عن محمد دريوس، كما فعلت في «الشاي ليس بطيئاً» عندما كتبت عن أسامة منزلجي وعباس بيضون و.. ريلكه: «أنا ريلكه .. منذر مصري شخص آخر». وكما تقول هناك قصيدة «قمر نهاري يذوب في ضوء قوي» مهداة لنوري، وقصيدة «هل تحبينني أكثر إذا أحببتك أقل» مهداة لصبحي حديدي. ويعود سبب إهدائي هذه القصيدة لصبحي، كون عنوانها هذا هو ربما أهم سؤال يستحق أن يسأل لصبحي بالذات. علماً بأنه أبدى لي أول مرة سمعه عدم استساغته له. حسناً، أقول إن حضور الآخرين، الأصدقاء، في «من الصعب أن أبتكر صيفاً» ليس بهذا السطوع الذي يبهر، أو الذي يسمح لي بالاختباء خلفه كما فعلت حين كتبت عن محمد سيدة أو مصطفى عنتابلي «على وجهك علامات براءتي» و«تفوقت علي في كل شيء دون أن تقوم به»، وهذا يقربني من فكرتك بأن الشعر يكاد يكون وثيقة عن حقيقة أو واقعة ما، وبأني أحضر الآخرين كشهود عليها. قلت لعباس في الشاي: «الشعر توثيق دقيق للأكاذيب» وبما أن التوثيق لا يكفي فلا بد من شهود زور، يحلفون كذباً وأيديهم على الكتب المقدسة.
ـ تقول إنك ترفض أن تفكر في ما تكتب، ويقول آخرون «الشعر حلم يُحلم بحضور العقل». هل يكون الشعر لديك تجربة محض حسية؟ أي حضور للعقل؟
÷ إذا قلت هذا، فأنا لا أعني كل ما يمكن أن يعنيه. ربما أرفض أن أحكم العقل في آليات شعري الأساسية ولا حتى في معانيه. لكني أعمل التفكير في كتابتي حقاً. أفكر وكأنني أحلم، كما قلت في قصيدة باكرة: «أنام كالشعراء وألتقط الوقت» وألتقط أيضاً الخواطر والصور والأفكار. الشعر تجربة لحضــور كل شــيء. ولكن تستطيع أن تعتبرني في أفضل أحوالي عندما أكون حسياً ما أمكنني! أرى وأسمع .. وألمس: «أنا لا أكتب عنك على الورق، أنا أرتمي عليك على الورق».
أغلب قصائدك الأولى كتبت في خندق على الجبهة، تأخذنا الصورة إلى صموئيل بيكيت منتظراً إلى حدّ الضجر قدوم الأعداء، ليكتب من ثم «في انتظار غودو». ماذا ألهمتك الحرب؟
÷ قصائدي في «بشر وتواريخ وأمكنة» كتبت في خندق على الجبهة أثناء وبعد الحرب. ولم أكن حينها ضجراً على الإطلاق. يؤسفني أنني لا أملك موهبة الضجر. رغم أني أدعيها أحياناً كما في قصيدة «الدرس» فالضجر يكاد يكون ثيمة في الشعر الحديث، وهذا آخر ما يهمني. أجد في أي ظرف ما يلهيني ويسلو عني: «الذبابة التي قتلت الوقت/ وحومت في جثته الصاعدة/ إلى السقف» كان هذا في «آمال شاقة». ثم اني أيضاً لا أملك القدرة على العــداوة، ولا أشعر بأن أياً كان عدو لي، أما الحروب فقــد «حصَلَت في الغالب/ نتيجةَ رداءةِ الطـَقس/ وصُعوبةِ التفاهُم»، بينما كان بوعلي ياسين يعيد سبب كل خلاف بيني وبينه بكونه يؤمن بالصراع الطبقي أمّا أنا فلا.
أكره الحرب، أكره كل أنواع الحروب حتى العادلة والتحريرية منها. بؤس البلاد التي تحتاج أن يضحي أبناؤها بأرواحهم لأجلها. ولا أظن شيئاً يستحق أن تبدد لأجله حيوات البشر ومصائرهم مها يكن. في الحرب التي حضرتها لم أطلق رصاصة واحدة، ولكني رأيت كيف راحت الرصاصات الخطاطة والمضيئة ترسم خطوطاً وأقواساً في سماء الليل عند طرفي الجبهة، عندما أعلن وقف إطلاق النار. تلك الأيام التي عشتها في في الخندق تحت السماء أراقب جحافل الغيوم في النهار، وعيون النجوم في الليل، خلال حرب 3791 وما بعدها، ألهمتني أفضل قصائدي «دروس الوحدة» و«المقاطع الخمسة» و«تواريخ» وغيرها. القصائد التي جعلت الآخرين يصدقون أني شاعر، وربما لولا ذلك لما كان لي يوماً أن أصدق نفسي.

راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...