«الشغف المعلق» صورة أخرى لمرغريت دوراس

01-02-2013

«الشغف المعلق» صورة أخرى لمرغريت دوراس

بعد خمس وعشرين سنة على صدوره بالإيطالية، وجد الكتاب طريقه إلى النشر في العاصمة الفرنسية. صدر باسم «الشغف المعلق» (منشورات «لوسوي»)، وهو عبارة عن حوارات كانت أجرتها يومها صحافية إيطالية شابة (ليوبولدينا بالوتا ديللا توري) مع «سيدة الأدب الفرنسي (يومذاك)... مارغريت دوراس. كتاب يدور حول الكتابة والطفولة والأدب والسينما، وغيرها من المناخات والموضوعات التي شغلت دوراس طيلة حياتها، لتتحدث فيه بصراحة مطلقة، معطية آراءها في كل ما يشكل هذا الفضاء الذي تحركت ضمنه. والكتاب منذ صدوره قبل أيام قليلة وهو يثير التعليقات والمقالات الصحافية التي، أقل ما قالت فيه، إنه «كتاب ممتع» و«مليء بالشغف». هنا مقالة عنه معدة عن الصحف التي تناولته.
بدأت القصة العام 1987، حين قررت الصحافية الإيطالية الشابة ـ وكانت يومها تكتب في صحيفتي «لاريبوبليكا» و«لاستامبا» ـ بكتابة «بورتريه» عن الكاتبة الفرنسية، بيد أن دوراس رفضت ذلك، إلا أن ديلا توريه برهنت عن عناد كبير، إذ لم تتوقف عن الاتصال بالكاتبة لمفاوضتها ولمحاججتها وللطلب منها بدون توقف إجراء هذه المقابلة. وعند إصرار دوراس على الرفض، طلبت الصحافية الإيطالية من إنجي فلترينللي أن تتدخل لتسهيل الأمر، وهذه الأخيرة كانت واحدة من ناشري كتب صاحبة «العشيق» إلى الإيطالية. وأمام ذلك كله، انتهى الأمر بدوراس بأن تقبل وبأن تفتح أبوابها أمام الصحافية الشابة.
الجلسة الأولى استمرت لأكثر من ثلاث ساعات، مثلما تصف ديللا توريه اليوم تلك الجلسة، تقول: «طيلة الوقت الذي أمضيته في بيتها، لم تتوقف عن إخراج سكاكر بالنعناع من دُرج قربها، ولم تقرر أن تهبني واحدة إلا في نهاية الجلسة».

سارتر سبب التأخر

وإذا كانت الجلسة الأولى انتهت بحبة سكاكر، فإن اللقاء الثاني افتتح بقطعة جبن إيطالية كبيرة، (بارميجانو) أحضرتها معها الصحافية الإيطالية كهدية «للسيدة العجوز». كانت تلك الحركة فاتحة لقاءات منتظمة استمرت لمدة سنتين، قامت بها ليوبولدينا ما بين ميلانو وباريس كي تلتقي بمارغريت دوراس في منزلها (شارع سان ـ بينوا). «أمضينا فترات بعد الظهر الطويلة بالأحاديث والثرثرة، التي كانت تتناوب وراء بعضها البعض، وبحميمية تواطأنا عليها، وما ساهم في ذلك الزمن الطويل الذي أمضيناه سوياً». كانت دوراس ترفض التسجيل، لذلك كانت ليوبولدينا تعمل على تدوين بعض الملاحظات الصغيرة، لتعود مساءً وتعيد صوغ كلّ ما جرى بينهما من تفاصيل، من الذاكرة. «كان عملاً جباراً» منهكاً.
هذا «التواطؤ»، أعطى لهذه الأحاديث نبرة مختلفة عن النبرات المتعارف عليها في الحوارات المماثلة والعديدة، التي كانت دوراس أعطتها طيلة حياتها، إذ نكتشف فيها امرأة متخلصة من جميع خصالها و«عاداتها المستهجنة»، أي بمعنى آخر نجد دوراس المخلصة في أحاديثها (على ما يبدو، الصريحة، وكأننا أمام امرأة مختلفة جذرياً وعلى خلاف تلك الصورة التي رافقتها طيلة حياتها.
ما تجمع من حوارات وأحاديث، نُشرت بالإيطالية العام 1989، لكن لم تنشر أبداً في فرنسا، إذ لم يهتم بها أي ناشر يومها «ربما بسبب الشوفينية»، كما تقول اليوم الصحافية الإيطالية. وبعد ربع قرن، من هذه الحادثة، سمع الكاتب الفرنسي (من أصل إيطالي) رينيه دي شيشاتي بهذا الكتاب، فتقصى عنه، ليجد نسخة منه، وليتصل بليوبولدينا، وبعد أن وجدها أعلن عن رغبته في ترجمة الكتاب المؤلف «من أحاديث محكية»، وهذا ما حدث.
«نسيت العديد من الأشياء التي مرت في حياتي، العديد من الكتب، العديد من الأحاديث، لكن ليس بعض الأقاصيص التي روتها لنا»، هذا ما تقوله دوراس عن أمها التي تصفها «بالحكواتية المدهشة». وربما هي هذه النقطة التي تجعل من هذه الحوارات شهادة آسرة وساحرة عن حياة تلك المرأة التي لم تتوقف عن «صدم» الثقافة الفرنسية والأوروبية حتى. أما فيما يخص ليوبولدينا ديللا توريه، التي لم تكن تكتب شيئاً تقريباً حين كانت دوراس تحدثها، فقد استطاعت أن تمسك بجوهر تفكير دوراس، هذا الفكر المتفرد والاستثنائي، حيث تمتزج الحياة بالأدب. كلمات تقول أشياء كثيرة عن فعل الكتابة، الطفولة، الالتزام السياسي، الأدب، السينما، المسرح، لكن أيضاً عن الألم والشغف والحب والوحدة والكحول (التي أدمنتها والتي كادت أن تودي بحياتها في مناسبات متعددة).
وفي موازاة ذلك كله، نجد أيضاً دوراس الصريحة التي تتمتع بحس الفكاهة والدعابة، لكن أيضاً صاحبة الآراء القاطعة، إذ لا تستثني أحداً من معاصريها لتقدم فيهم رأيها بكل صراحة وبدون مواربة. عن الفلاسفة الجدد (الفرنسيين) تقول: «إنهم شبان قرويون وصلوا إلى باريسية اليسار وتكبره»، في حين أن كتّاب الرواية الجديدة هم «كثيرو التثاقف بالنسبة إليّ»، بينما تجد فيليب سولرز كاتباً «محدوداً»، وأن جان بول سارتر ـ «وللآسف» ـ هو «السبب في التأخر الثقافي والسياسي الذي عرفته فرنسا».
بعيداً عن متعة هذه الأحاديث وقدرتها على أسر القارئ، نجدها تقدم أيضاً الكثير من المفاتيح التي تدخلنا في قلب سيرورة وصيروة العمل الإبداعي عند دوراس، إذ تعرج كثيراً على ما كانت عليه حياة الكاتبة، أي الأحداث التي وسمتها، مثلما حميمية تلك الأحداث العميقة التي نجدها في قلب كل امرأة التي تصوغها عبر أدبها. كتاب يمتلك الكثير من الحسية كما العمق، ومن الأحاسيس والمشاعر التي تقربنا أكثر فأكثر من كتابات هذه السيدة التي من الصعب تجاهل منجزها على الرغم من السنين التي أصبحت تفصلنا عن موتها.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...