«تراتيل الليل» لنوفاليس: بداية لرومانسية الشعر والموسيقى

04-08-2013

«تراتيل الليل» لنوفاليس: بداية لرومانسية الشعر والموسيقى

في أواخر القرن الثامن عشر، ماتت في شكل غير متوقع شابة رائعة الحسن، لا تتجاوز سنها الخامسة عشرة، تدعى صوفي فون كوهن. حدث ذلك في إحدى مدن مقاطعة ساكسونيا البروسية. كان يمكن ذلك الموت أن يمر مرور الكرام، فتدخل تلك الآنسة بالتالي غياهب النسيان، مثلما هو حال ملايين البشر في كل زمان وأوان، من الذين لم يقيّض لهم أن يبدعوا فيواصلوا «حياتهم» حتى بعد موتهم ويتحولوا إلى أساطير وحكايات تُروى. لكن ذكرى صوفي لم تمت، بل إنها بقيت في خواطر الشعب الألماني، وربما في خواطر قراء الشعر عموماً، حية حتى يومنا هذا. وذلك بالتحديد لأن حبيبها الذي افتقدها كثيراً حين موتها كان يدعى نوفاليس. وكان نوفاليس شاعراً مطبوعاً من الذين تأثروا بالنزعة الرومانطيقية، وبدأوا يكتبون الشعر والأفكار والأدب عموماً متحلقين من حول أفكار وفلسفات أولئك المبدعين الكبار الذين عرفتهم الحياة الفكرية الألمانية بغزارة مدهشة في ذلك الحين من أمثال شليغل وفيخته. ونعرف دائماً ولا سيما بالاستناد إلى التجربة الألمانية أن الشعراء الرومانطيقيين كانوا يعتبرون الموت، سواء كان موتهم المرتقب أو موت أحبائهم، أحد دوافعهم الرئيسة لكتابة الشعر في ذلك الحين، بالتالي واحداً من المواضيع الأساسية التي يعبّرون عنها. هكذا، بعد عام أو أقل من موت الصبية المنكودة الطالع، أصدر نوفاليس مجموعة شعرية جعل لها عنواناً ذا دلالة حاسمة هو «تراتيل الليل». ومن نافل القول هنا أن «تراتيل الليل» جاءت حافلة بذكريات حب نوفاليس صوفي وألم موتها المبكر، ليبدو من خلال أشعار ذلك الشاعر المبدع الشاب وكأن في سياق التراتيل تعبيراً عن ألم البشرية جمعاء، ألم وجودنا كله على الأرض، وأمارة انتهاء عالم بأسره ها نحن أولاء نراقبه يرحل من دون أن يعدنا بأي جديد حقيقي.

> وقصائد «تراتيل الليل» هذه سرعان ما اشتهرت منذ صدورها في عام 1800 وراحت تترجم إلى الكثير من اللغات الأوروبية، وكان نوفاليس قد نشرها للمرة الأولى في العدد الأخير لمجلة رومانطيقية/ أدبية - ألمانية تدعى «اثينايوم». صحيح أن المجلة لم تكن واسعة الانتشار حقاً، غير أن تلك القصائد ساعدت في ذلك اليوم على نجاح ذلك العدد بالذات، إنما من دون أن تتمكن من إنقاذ مستقبل المجلة فكان ذلك العدد هو العدد الأخير. وانطفأت المجلة لكن شعر نوفاليس، فيها لم ينطفئ... ذلك أنه كان شعراً أتى، على رغم منبعه الخاص، يؤسس لجديد، إن على صعيد الشكل أو على صعيد المضمون.

> في هذه الأشعار التي أتت على شكل رابسوديات نثرية - شعرية مزروعة بالكثير من القصائد الوجدانية، سعى نوفاليس - كما يجمع نقاده ودارسو حياته - إلى أن يجدد من نواحٍ عدة ومع هذا نراه وقد ظل أميناً لأسلوبه الشعري الذي كان عرف به سابقاً، في القصائد القليلة التي كان عمره السريع قد أتاح له نشرها في أماكن أخرى. وكان ذلك الأسلوب أسلوباً جمالياً، أعطى فيه نوفاليس الأفضلية للموسيقى على التعبير العقلاني عن العواطف. أما من ناحية مضمون ذلك الشعر فإنه - كما أسلفنا - كان على علاقة أساسية بموت الصبية صوفي. ذلك أن نوفاليس كان يعتقد جازماً أنه لا محالة سيلحق بها إلى دنيا الخلود، ولكن ليس من طريق الانتحار، بل عبر فعل إرادي واضح، يوصل صاحبه إلى الموت من دون أن يتعمد ذلك لأن مثل هذا الموت بترك النفس تتلاشى تدريجاً هو وحده الذي كان يبدو بالنسبة إلى الشاعر، قادراً على أن ينقل إليه الشعور بأنه محاط في الوقت كله بـ «الوجود الحقيقي والفعلي لتلك الفتاة الراحلة»... وبالتالي الشعور بأنه إنما يتلقى في كل لحظة «دعوات اللامرئي العذبة» إلى العالم الآخر، العالم الذي سيكون مفعماً بالسعادة الدائمة والحقيقية التي لم يعد الحصول عليها في الحياة الدنيا ممكناً. والحال أن الحكاية تقول لنا إنه بعد ثلاثة أشهر من موت الصبية، ظهرت هذه الأخيرة للشاعر الملتاع ظهور اليقين وكان ذلك يوم 13 أيار (مايو) 1797. ومنذ ذلك الظهور قرر نوفاليس أن يعيش منذ تلك اللحظة حياة راء، يغتذي من نزعة التقوى التي تزعمها المفكر زنزدورف، كما من فلسفة سبينوزا ومثالية شيلنغ. صحيح أن نوفاليس عاد وتزوج بعد شهور قليلة بحسناء جديدة تدعى جوليا فون شاربونتييه، لكن الأخرى الميتة صوفي ظلت، كما يبدو، تعيش في داخله. ومن أجلها بالتالي كتب المقاطع الستة الأساسية التي تكوّن «تراتيل الليل». والحال أن الليل هنا ليس سوى التعبير الشاعري عن «البركات اللانهائية» وهو شعور تحرر، وامتزاج شيق في الحب وفي الله.

> في المجموعة، تأتي التراتيل الثلاث الأولى متمركزة حول لازمة نشوة الحب المطلقة، والعنوان العام هنا هو «ديمومة ليل الزفاف». أما الترتيل الأول فيقدم الليل بصفته «الطريق الأولي المفضي إلى الحياة العميقة»، ويأتي الترتيل الثاني تنويعاً على فكرة «النعاس الأبدي»، أما الترتيل الثالث فيتحدث عن صوفي وظهورها يوم 13 أيار من ذلك العام. وأما التراتيل الثلاثة الأخيرة ففيها يختار الشعر لوناً دينياً للتعبير عن ذاته، في الوقت الذي يبدو الترتيل الرابع - في هذه المجموعة - عبارة عن مقطوعة يمتزج فيها الموضوعان الرئيسان: الحب والدين، شغف لصوفي وعبادة للسيد المسيح. وذلك في الوقت الذي يحتفل الترتيل الخامس بالكشف عن حياة أرفع مستوى ومكانة موجودة هناك في صرح الله. وأخيراً، يأتي الترتيل السادس الملحن على شكل مقطوعة للكورس تحمل عنوان «حنين إلى الموت» وهو تعبير شاعري بحت يبدو قريباً من «التراتيل المقدسة» التي كان سبق للشاعر أن نشرها، كما يقول باحثو سيرته وشعره.

وفي شكل إجمالي تبدو الموضوعات والأفكار ضئيلة الحضور في هذا العمل، أما الطغيان فهو لتلك الموسيقى التي كانت لا تزال غير ذات حضور في الأعمال الأدبية الألمانية حتى ذلك الحين، وتميزت لدى نوفاليس هنا ببساطتها واحتفائها حقاً بالحياة.

> لقد أشار النقاد والدارسون مراراً وتكراراً إلى أن نوفاليس اقتبس، في الحقيقة، من الشاعر يونغ صوراً وأساليب، غير أن هذا لم يمنع نوفاليس من أن يحمّل شعره هذا رنة شخصية ذاتية، أتت موسيقية بمقدار ما أتت شاعرية. وحول هذا كله يقول أحد دارسي «تراتيل الليل»، إن التمازج الأسمى بين الشعر والموسيقى، ذلك التمازج الذي كان كبار منظري الرومانطيقية يتطلعون إليه، إنما تحقق هنا للمرة الأولى في تاريخ الشعر. ولن يتوقف الأمر معه على ذلك النحو، إذ إنه سرعان ما سيصبح المنبع الخصب الذي منه نهل فن الموسيقي فاغنر، ما يعني أنه أغرق الرمزية كلها وظل مغترباً في الزمان حتى الوصول إلى ريلكه.

> ولد فريدريك ليوبولد فريهر فون هاردنبرغ المعروف باسم نوفاليس، في مدينة أوفر فايدرشتادت عام 1772، وجعل من نفسه باكراً صاحب تلك الأعمال والنظريات التي سرعان ما ستلهم الرومانطيقيين في ألمانيا وكذلك في فرنسا وإنكلترا. ودرس الفلسفة والحقوق وعلوم التعدين بين عام 1790 وعام 1794... لكن مساره الدراسي توقف حين توفيت خطيبته صوفي وهي في ريعان الصبا، هو الذي كان يخطط لنفسه للحصول على مستقبل كبير، فإذا به الآن يكتفي بأن يكون واحداً من الشعراء المتجمعين في يينا، عند بدايات عصر الرومانسية، حول كبار أقطاب هذه الأخيرة. ونوفاليس لم يعش طويلاً بعد موت صوفي، إذ رحل عام 1801، وقد خلف عدداً من القصائد جمعها في «تراتيل الليل» كما في «شذرات»، إضافة إلى رواية «هاينرش فون أوفتر دنغن»، التي تركها غير مكتملة فأصدرها شليغل مطبوعة في عام 1802. كما ترك كتاباً فلسفياً عن «المسيحية وأوروبا» أتى في الحقيقة دراسة في فلسفة الحضارة، غير أن هذا الكتاب لم يطبع إلا في عام 1826 أي بعد ربع قرن على موت صاحبه.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...