«رماد البنفسج» لسامر عمران.. الجنون السوري

12-11-2013

«رماد البنفسج» لسامر عمران.. الجنون السوري

مغامرة مع الجنون يخوضها الفنان سامر عمران في عرضه الأخير «رماد البنفسج» على مسرح المعهد العالي للفنون المسرحية، محققاً تعاوناً لافتاً مع الكريوغراف نورا مراد لصوغ فضاء مسرحي يطل على اللحظة السورية الراهنة؛ حيث عمل كل من «عمران» و«مراد» على تحقيق مسرحية استوحيا حكايتها من مشفى الأمراض العقلية؛ فالعرض يبدأ من لحظة خروج الممثلين إلى باب المسرح، تلك اللحظة التي يتردد فيها نداء موظفة المشفى بأن الجمهور ما هو إلا عائلات المرضى الذين جاؤوا لزيارة أقربائهم في الجنون! افتتاحية وضعت المتفرج وجهاً لوجه مع عشرة مرضى- ممثلين من أمراض الفصام المزمن. ففي لحظة نهائية وحاسمة من هذه المجابهة بين الممثل والجمهور يصبح الجميع مجنوناً، أو قابلاً للجنون، إذ ليس ثمةَ ما يفصل تماماً بين عالم الأصحاء والفصاميين، كون العرض يستنفر طاقات جديدة للتلقي والمشاركة منذ اللحظة الأولى التي يتورط فيها المتفرج مع ما يشاهده. حكايات تتلوها ثنائيات تكشف عن حجم المفارقة الهائلة بين مجانين المشفى ومجانين الإبداع المسرحي.
هنا نتعرف على لاعبة دمى أحرقت يدها بعد أن وُجِدتْ عارية بالقرب من الماريونيت التي كان والدها قد صنعها لها، مثلما نكتشف قصة النحات الذي استبدل منحوتاته بالرسم في الهواء، وتباعاً ندخل أكثر فأكثر إلى حكاية «سعيد» الشاب الذي فقد ثقته بالأشياء والأشخاص والوقت والمرأة، كما نطل على حياة «نظيرة» الأستاذة الجامعية التي اخترعت علاجاً مخصّباً للأحصنة، ومن ثم كوفئت على اختراعها بإيداعها مشفى المجانين. حكايات أكثر صدامية تتراءى في «رماد البنفسج» مع شخصية الموسيقي الشاب الذي منعه والده من دراسة الموسيقى، فأصبح مجرد شخص خائف من الأصوات، كل الأصوات، كذلك يمكن اكتشاف ذلك الرجل الذي فقد ثقته بالعالم ويريد البحث عن كوكبٍ آخر لا يوجد فيه فروع للأمن ولا قتل على الهوية، على عكس زميله الرجل المريض بضرورة إبلاغ القيادة بمعلومات خطيرة للغاية، معلومات جعلته ممسوساً تماماً، جنباً إلى جنب مع الفتاة الصحافية التي تريد مقابلة الرئيس لإطلاعه على وثائق بخصوص قصتها مع الفساد وحكام المكاتب.
على مستوى آخر تتوضح لجمهور «رماد البنفسج» حكاية الفتاة التي اطلعت على سرقة تماثيل ذهبية من المتاحف السورية، ونقلها عبر مافيات الآثار إلى متحف «اللوفر»، ليصار بعدها إلى التخلص منها ووضعها في مصحٍ عقلي كي لا تكشف صفقة بيع الآثار؛ قصة توازيها حكاية الشاب الذي يتعاطى المخدرات وشراب السعال؛ شخصيات تذكّر برائعة بيتر بروك «ميراساد» ومسرحية « العنبر رقم ستة» لتشيخوف، إلا أن عالم الجنون هنا يأخذ منحى طريقة التفكير الواحدة، فالتفكير فجائعي بالضرورة، ساخر ولاذع ومؤثر، لا سيما بحضور شخصية «الطبيب» الذي لا نراه، بل نسمع صوته على شاشة توسطت عمق الخشبة، الطبيب الذي يحلم المرضى بقتله، والتخلص منه كان تورية ماكرة من مخرج العرض الذي آثر الاشتغال على مشروع الارتجال الجماعي، الارتجال بوصفــه مساحة لكتابة جماعية تتقاسم أنانياتها عبر رسم كل ممثل لشخصيته وتصوّره الخاص لمأساتها الفردية، فعالم الفُصام معقد وكثيف وخطر، يستوجب مهارات خاصة لدى الممثلين الذين تفوقوا على جنونهم الإبداعي بمقاربة الجنون كحالة مرضية نفسية؛ ليحقق العرض معادلة صعبة وحساسة للغاية تمثلت في كتابة الجنون السوري مسرحياً؛ لا بل البحث في إمكانية السؤال عن الفوارق المحدودة بين جنون الدم والعنف والقتل العبثي، وبين جنون المصحات النفسية الذي يمكن اعتباره في هذا المقام جنوناً إبداعياً بامتياز، لا سيما إن تمت مقارنة «الأسوياء» بمرضى العنف وشهوة الدم.

سامر محمد إسماعيل

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...