الإسلام والغرب بعد 11 أيلول

18-09-2007

الإسلام والغرب بعد 11 أيلول

أصبح الإسلام، في الغرب بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، موضوعاً «مثيراً»، يحتل موقــــعاً يومياً في أجهزة الإعلام، وتأخذ منه عامة الناس مــــواقف مختلـــفة. صــــدر هذا الاهتمام غير المسبوق عن أسباب عدة بينها: صعود المظـــــاهر الديــــنية في «المجتمعات الإسلامية»، منذ ربـــع قـــــرن من الزمن وأكــثر، صــــعوداً مدوّياً، والربط، إعلامياً، بين الإســـــلام والإرهاب، من دون تدقـــيق ولا موضوعية، بعد أن استثمر الإعلام الــــغربي، أو جزء منه، ممارسات بعض الحركات المنـــتسبة إلى الإســـلام. يضاف إلى هذين العنصرين تزايد عدد المسلمين المهاجرين إلى الغرب، وحرص بعضهم على التمسّك بـ «هويته»، بأشكال مخــــتلفة. لعبت «القضية الفلسطينية»، كما غزو العراق وأفغانستان، دوراً كبيراً في تأجيج «الصراع بين الغرب والإسلام»، ذلك أنّ ســــياســـة الغرب صنعت قضايا حارقة جديدة، تاركة القضــــايا القديمـــــة تراوح مكانها وتزداد تأزّماً. ومهما تكن الأسباب التي اســــتولدت موضوع «الإسلام والغرب»، فهي ناجمة عن عوامل سياسيــــة، عالمية أو محلية، وعن سياسات إعلامية متنوعة، وعن أزمات اقتـــصادية وثقافية متعددة. تعطي «كاتالوغات» دور النشر الأوروبــــية والأميركية، الصادرة حديثاً، صورة عن تحوّل الإسلام، إلى «موضوع أكاديمي» تعالجه وجهات نظر مخـــتلفة، ويتحدّث فيه المخــــتصون وغير المختصين في آن.

هذا الكلام تعليق على ملحق جريدة اللوموند الثقافي الذي حمل عنوان: «الإسلام – الغرب: «صدمة» أو لقاء بين الحضارات» (الجمعة 7 أيلول 2007). ليس اللقاء، أو الفراق، بين الغرب والإسلام موضوعاً جديداً. كانت هناك «الحروب الصليبية» التي أخذت، ولا تزال، في المتخيّل المسيحي، كما الإسلامي، صوراً متنوعة. وكان هناك «عصر النهضة»، الذي وضع المسلمين أمام الاستعمار الأوروبي وأتاح، في الوقت ذاته، ســــجالاً، بين أفراد مسلمين وعقول غربية. فقد دخل الأفغاني، حين كان في باريس في ثمانيــــنات القرن التاسع عشر، في سجال مع رينان، الذي قرّر أنّ العلم والإســــلام لا يلتقيان، وأنّ «العلم الإسلامي» الــــقديم مجرّد استطالات لثقافات غير عربية ولا إسلامية. ردّ عليه الأفغاني بما سيردّ به الشيخ محمد عبده على فرنسي آخر هو هوناتو» الذي أعلن بدوره عن عجز الإسلام مع التكيّف مع المدنية الحــــديثة. وبداهة، فإنّ سياق الحديث الجاري اليوم عن الإسلام مختلف عن الســــياق السابق، فقد كان السجال يدور بين «أفراد» ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين، وكانت غاية المساجليْن الإسلامييْن النهضة والارتقاء، بعيداً من الحاضر الراهن، الذي أعلن عن إخفاق «النهضة» وكل ما يرتبط بها، ودفع جماهير محبطة إلى بعث هوية قديمة، يرون فيها ملاذاً وحصناً ومســـتقبلاً منتصراً، يعوّضهم عمّا يقاسونه اليوم من فقر وذل وإهانة.

عبّر صعود الهوية الإسلامية المتشددة عن مجتمع مأزوم، ليس له من أمجاد ماضيه المفترضة شيء، وليس له شيء من رفاه المجتمعات الغربية، أكان الرفاه حقيقياً أم زائفاً. فبعد عقود من إفقار «المجتمعات الإسلامية»، أو بعضها، إفقاراً شديداً في المجالات جميعاً، لاذت هذه المجتمعات بهوية حقيقية، أو متخيّلة، ترد بها على كل ما تعتقد أنّه نقيض للإسلام وعدوّ له. ولم تكن صورة الإسلام الجديدة إلاّ ترجمة للسياق تكاملت فيه عناصر القهر والفقر والتجهيل والغطرسة الغربية والظلم الصهيوني الذي لا يحتمل. وعلى رغم توافر العناصر الموضوعية، محلياً، لتوليد هوية إسلامية جديدة، فإنّ السياسات الإعلامية، في أشكالها وجهاتها المختلفة، أنتجت تصوّرات إسلامية تأتلف مع «التصوّرات الاستشراقية» المعادية للإسلام. وما تعبير «الإسلام والعولمة»، وقد غدا رائجاً مع توسع العولمة الجديدة، إلاّ آية على «استشراق إسلامي»، تصنعه جهود إسلامية، إذ الإسلام والديموقراطية لا يلتقيان ، بما يجعل الإسلام لا يقبل بـ البرلمان» والأحزاب السياسية، وإذ بين الإسلام والعقل فراق أكيد، ذلك أنّ الإيمان يفوق العقل ولا يحتاج إليه، وإذ العلم والتقنية ترف يسيء إلى الروح. أعلى هذا التصوّر من شأن «الخصوصيات»، التي توزع على المسلمين ما يلائمهم سياسة واقتصاداً وحكّاماً، وتوزّع على الغرب ما لا يحتاج إليه المسلمون. وعلى رغم «أصالة» المقولات الإسلامية الجديدة، فهي لا تحمل من الأصالة شيئاً كثيراً، لأنها تبرهن، عن غير قصد، عن صحة مزاعم رينان وهوناتو، التي حاول أن يردّ عليها الأفغاني ومحمد عبده وتلاميذهما.

لا غرابة في أن تلبي الهوية الإسلامية المسيطرة فكرة «صراع الحضارات»، التي جاءت من جهات غير إسلامية، متحوّلة لدى البعض إلى «صراع الأديان»، التي يترجمها الوعي الفقير في المجتمعات الفقيرة إلى «صراع الطوائف». يصبح الصراع، في هذا التصوّر، بين دين ودين، وبين دين سماوي وآخر سماوي بدوره، بعد أن يجعل الوعي الفقير أحد الدينين أكثر تفوّقاً وتكاملاً واعتدالاً من غيره. وواقع الأمر أنّ صراع الحضارات، أو صراع الأديان، محمّل بأبعاد الثقافة التي تقول به. فالوعي الفقير، الذي ينشره بعض «الدعاة الإسلاميين»، يبشّر باقتراب هزيمة «الدين الزائف» وانتصار «الدين الحق»، ناسياً أنّ قوّة الغرب جاءت من ثوراته العلمية والصناعية والمعلوماتية، وأنّ إسرائيل تبدأ من «العقيدة العسكرية» لا من تعاليم رجال الدين، وناسياً أيضاً أنّ نصرة الإسلام تستلزم قراءة الأسباب الموضوعية، التي تجعل المجتمعات المنتسبة إلى الإسلام لا دور لها في التقدّم العلمي الإنساني. أكثر من ذلك أنّ هؤلاء الدعاة لا يرفضون من الحضارة الغربية إلاّ الوجوه التي سمحت بقيامها وصعودها، مثل فكرة القانون، الذي هو أساس الدولة القوية، وأفكار التسامح الاجتماعي وحب المعرفة والاعتراف بتغيير الحياة وتبدّل حاجاتها... مهما تكن أغراض هؤلاء الدعاة، وبعضها خيّر وغيّور، فقد أسهمت، في النهاية، في تحقيق شعار «صراع الحــــضارات»، الذي تحوّل إلى «صراع الأديان»، وصولاً إلى ما أصبح يعرف اليوم بـ «الغرب والإســـلام والحرب الشاملة»، الذي هو عنوان كتاب للفرنسي لوران دوبلسيس.

إنّ «الحرب الشاملة»، الممهّد لها إعلامياً وأيديولوجياً (أنظرْ كتاب كارل إرنست «السير على هدي محمد») هي ليست تلك التي سيشنها «المسلمون» على غيرهم، فليس لهم من القوّة والتقنية والخبرة ما يسمح لهم بذلك، إنّما هي تلك الحرب التي يفكّر فيها غيرهم، لأسباب لا علاقة لها بالأديان على الإطلاق. لعلّ الفرق بين حرب دينية متــخيّلة منتصرة وحرب أخرى حقيقية لها علاقة بالمصالح الدنيوية هو الذي يفسّر دعوات «حروب الحضارات»، التي يمدّها فقر المجتمعات الإسلامية بما تحتاج إليه من مبرّرات. يصبح تزايد عدد المسلمين، هنا إشــــارة إلى حرب ضرورية مقبلة، ويغدو إظهار «عدوانية الإسلام» المتزايدة عنواناً للخراب المقبل.

وفي الحالات جمــــيعها، فإنّ شعار «صراع الحضارات» اليوم هو شعار الطرف القوي، إن لم يكن شعاراً انتصارياً، على خــــصومه أن يردّوا عليه بممارسات تشتق من جهات مغايرة له. فمن المفــــترض، نظرياً، أن يستبدل بشــــعار «الإسلام والعولمة»، الذي يطرد الإسلام من الأزمنة الحديثة، شعار «عولمة الإسلام»، الذي يعني الحوار مع معطيات التقدّم الإنساني، ذلك أنّ «تحديث الإسلام» لا يعني التعامل مع البضائع الغربية، ولا الإقبال على دراسة الكومبيوتر وتعلّم بعض التقـــنيات الجديدة، إنّما يعني اندراج المسلمين في «روح العصر» كي تلعب حضارتهم اليوم الدور الذي لعبته في الماضي. فـ «النيات الطيبة» هي التي تعترف بوحدة حاجات المجتمع الإنساني، وترى إلى «الفرد المـــسلم» كإنسان يحق له أن يتمتع بحقوق «الإنسان الكوني» وواجباته. كان التاريخ ولا يزال، هو تاريخ العلم والتقنية، وتاريخ الحياة الاجتماعية التي تستبدل بالحاجات والتصوّرات القديمة حاجات وتصوّرات جديدة.

فيصل درّاج

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...