تقنيات الإخراج في مسرح بيسكاتور

01-09-2011

تقنيات الإخراج في مسرح بيسكاتور

الثورة الصناعية منعرجا هاما في تاريخ الإنسانية لما أفرزته من بنى إجتماعية عوضت تلك التي سبقتها و ما أنتجته من تسارع في جل الميادين .

و غير بعيد عن ذلك كان المسرح يشهد هو الآخر تغيرا سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو البنية و التركيبة الداخلية، فكان أن أفرز النظام الطبقي الحديث المبني على صراع الطبقات بين طبقة مالكة لرأس المال و وسائل الإنتاج و أخرى كادحة مستغلة مسارح طبقية حاملة لهواجس و أفكار و أهداف الطبقة التي تنتمي إليها لتتحول إلى إحدى أشكالها التعبيرية و هكذا كان بروز أول مسرح بروليتاري حقيقي في بدايات القرن العشرين .

كما كان للتطور التقني الذي أفرزته الثورة الصناعية تأثير عميق على المسرح حيث بدأنا نشهد تركيزا على تطوير التقنيات الركحية و تسارعا في التجارب على الأركاح الأوروبية خاصة مع كل من إدوارد غوردون كريج في لندن، مايرهولد في موسكو وماكس رينهارت في برلين .

في هذه الأجواء التي أضفت إليها كل من الثورة البلشفية و الحرب العالمية الأولى أوجها أخرى من أوجه الصراع و محاولات التحرر، تحرر الطبقة الكادحة و التسابق نحو تكديس الثروة بشتى الطرق كان ميلاد مسرح إروين بيسكاتور أملا في إيجاد لغة مسرحية جديدة يمكن أن تعبر عن الطبقة المستغلة و ترتقي بوعيها و تنظيمها، و كان لا بد لهذا المسرح أن يتخلى عن البنى المسرحية المترهلة و إيجاد لغة و شكل جديدين يعبران عن الوظيفة الجديدة للمسرح التي أناطها بيسكاتور بعهدة مسرحه، فكان أن توجهت تجارب بيسكاتور المخرج نحو إيجاد سمات مسرحه الخاصة.

في محاولة البحث هذه سنجعل من تقنيات الإخراج لدى إروين بيسكاتور محورا للعمل جاعلين من تعريفه و تعريف مسرحه و استخلاص اهم مميزاته مفاصل في ذلك.

إروين بيسكاتور :
ولد إروين بيسكاتور في17ديسمبر 1893بأولم بألمانيا نسب إليه العديد من النقاد أصولا يهودية خاصة في العشرينات و الثلاثينات من القرن الماضي مشهرين عبر ذلك بسقوط المسرح البرليني في أيدي اليهود عانين بذلك كل من "ماكس رينهارت" و بيسكاتور و هو ما يذكره في مؤلفه "المسرح السياسي" و ينفيه .

و المؤكد أن بيسكاتور ينحدر من عائلة للواعظين و المبشرين البروتستانت لم يقطع معهم سوى والد بيسكاتور الذي تحول إلى تاجر .

في صغره كان يشاهد العديد من العروض كما إهتم بالقراءة لكل من نيتشه و أوسكار وايلد و تولستوي و رامبو حيث كان النفس الثوري المبثوث في كتاباتهم أكثر ما يجذبه فيهم .

درس بيسكاتور بجامعة مونيخ الألمانية إلا أنه إنقطع عنها جراء الحرب العالمية الأولى التي أسدلت ستارها ممثلة منعرجا حاسما في مسيرته و هاهو يعلن في مؤلفه أن مسيرته الحقيقية إنطلقت من 1914تاريخ إندلاع الحرب و بالتحديد في الرابع من أوت .

إلى حدود هذه اللحظة لم يكن بيسكاتور سوى شاب لعائلة برجوازية لم يهتم بعد بالإشتراكية غير أن الحرب إهتمت بغرس وعي سياسي لديه و تتعدد الحوادث المؤثرة في تكوين شخصيته و التي تميزت في غالبها بالعنف المتزايد و هي التي ألهمته كتاباته الأولى كقصيدة جنود الرصاص و كانت منطلقا لتجربته المسرحية بالجندية .

هذه التجربة المريرة كانت كفيلة بتحويل وجهة نظر بيسكاتور، كيف لا و هو الذي يعلن أنها غيرت نظرته للأشياء فبعد أن "كان ينظر للعالم عبر مرآة الأدب أصبح ينظر له عبر مرآة الحياة و تجاربها"، تغير توازى زمنيا مع تقلد البلاشفة للسلطة في روسيا إثر ثورة أكتوبر، لتتزامن عودته إلى برلين مع الثورة و التضاهرات السبارتكية ومعارك الشوارع .

كان للقائه بمجموعة من الدادائيين أمثال جورج غروسز و وولتر مهرينغ و الإخوة هرزفيلد تأثير كبير عليه حيث كان لمشاركته في نقاشاتهم حول الفن و السياسة وتحويل الفن إلى أحد الوسائل التي يمكن إستعماله في الصراع الطبقي دور في إنضمامه للحركة السبارتكية .

في الخريف الممتد بين سنتي 1919و1920يفتتح بيسكاتور مسرح التريبونال بكونسبيرغ حيث "يمكن إعتبار هذا الحدث التاريخ الفعلي لانطلاق مشروع بيسكاتور المسرحي"[1] رغم أن هذه التجربة لم تعمر طويلا بسبب الراديكالية التي ميزت بيسكاتور .

إثر هذه التجربة و بين سنوات1920_1929 تاريخ نشر كتابه "المسرح السياسي" قدم بيسكاتور عدة عروض مسرحية كان فيها ممثلا و مخرجا، مستخدما آليات ملحمية من خلال توجهاته الماركسية محاولا خلق آلية مسرحية جديدة إعتقادا منه أن الفن الثوري لا بد أن يتخلى عن الشكل المسرحي الموروث آخذا بعين الإعتبار العلاقة العضوية بين المسرح الذي هو بصدد تأسيسه و التغيير الثقافي و الفكري و السياسي في المجتمع

تعدّ الفترة الممتدّة بين نهاية الحرب العالميّة الأولى و صعود هتلر إلى الحكم فترة خصبة في حياته، طوّر فيها وظيفة المسرح في كحامل للإيديولوجيا من خلال أعماله المقدّمة على مسرح الشعب Volksbuhme و على مسرحه الخاص Piscator-Buhme.

بالإضافة إلى ذلك قام بيسكاتور بتكوين لجنة عمّالية تهتم بالدّعاية للمسرح البروليتاري داخل مسرح الذي أنشأه هيرمان شوللرHerman Schuller  .

غير أن الراديكالية التي تميز بها مسرحه أثارت حفيظة العديدين إلى حد طلب تعديل أو حذف بعض المشاهد, و هو ما رأى فيه بيسكاتور نوعا من الرقابة الفنية على الإنتاجات المسرحية التي ألغيت في ألمانيا سنة 1918، مما اضطرّه إلى تقديم استقالته من مسرح الشعب في 27 مارس 1927 ليؤسس مسرحه الخاص Piscator Buhme"" معلنا أن المسرح موجّه للشعب في كل أرجاء ألمانيا و أن ما يقوم به ليس تثقيف الطبقة المضطهدة فحسب بل الرغبة في تحويل مجموعات الشعب كلها إلى بروليتاريين، و ذلك بتقديم أعمال بروليتارية بحتة، وهو بذلك لا يقدم مسرحا بروليتاريا كمذهب سياسي لإيضاح تعاليمها و لربط العالم البروليتاري الجديد بفكر ثوري سياسي.

انشأ بيسكاتور بمسرحه الخاص Piscator Buhme، مكتتبا مستقلّا، مخصّصا للتأليف المسرحي تشكّله مجموعة متآلفة، سبق لها أن تعاملت معه حين كان مديرا لمسرح الشعب و أغلبيتهم يحملون نفس المرجعية أو الخلفية الفكرية الإديولوجية مما جعل العمل في هذا المكتب واضحا حيث كان أول عمل أخرجه و قدمه بيسكاتور من تأليف ارنست توللر بعنوان " هكذا الحياة . لتليها مسرحية مسرحية "راسبوتين" .

ليبلغ ذروة تجاربه حسب العديد من النقاد بتقديمه مسرحية الجندي الشجاع شفايك " المأخوذة عن الروائي جاروسلاف هاسك ، مسرحية تصوّر الحرب بطريقة ساخرة, تظهر الجندي وهو في طريقه إلى الجبهة ، من خلالها نتبين كيف أنّ هذا الجندي دفع إلى الحرب وهو لا يعرف سبب اندلاعها فيهلك دون أن يعلم عن سبب دعوته للحرب.

ما تحيله هذه المسرحيّة على حقائق واقعيّة تاريخيّة حول الحرب العالميّة الأولى عندما أزهقت أرواح الملايين من البشر نتيجة صراعات أطراف سياسية لتحقيق مصالحهم،

لتليها مسرحية " حقول النفط " حيث أظهر بيسكاتور الإتحاد السوفياتي على عكس الإيديولوجيا التي تحكمه، إذ يحرّض في هذه المسرحية على الثورات للاستيلاء على أسواق النفط ممّا تسبّب في تأجيل العرض لأنّ إظهار الإتحاد السوفياتي على هذا الشكل يعد أمرا محرجا بالنسبة للقائمين على مسرح بيسكاتور .

يتلقى بيسكاتور سنة 1931 دعوة من الإتحاد السوفياتي ليخرج فيلما عن رواية "لآنا سجهر" تحت عنوان "ثورة صياد سانت باربارا" .تحتم الظرفية التاريخية على بيسكاتور البحث عن مستقر جديد كالكثير من الفنانين الآخرين، رحلة تقوده إلى باريس و من ثم إلى الولايات المتحدة حيث يبدأ العمل في السينما فيخرج فيلم " الحرب و السلام " للمؤلّف تولستوي بمساعدة " ألفريد نيومان " و يؤسس قبل عودته إلى ألمانيا الغربية سنة 1951 مركز الأعمال الدرامية في المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي ليتوفى بها سنة 1966 .

المسرح السياسي :
أول ما يشدنا إلى المسرح السياسي كونه مسرح دعاية و تحريض و إثارة رافضا للواقع الموجود بمختلف تناقضاته في دعوة مستمرة و محاولة دائمة لتغييره، و قد ساعدت الظروف التي نشأ فيها سواء على بلورة مضمونه أو المساهمة في تطوره لعل من أبرزها الظرفية المحلية و العالمية حيث كان لتواتر الأزمات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية مساهمة كبرى في خلق نوع من التضاد بين وظيفة المسرح كقيمة جمالية و بين حالة الإنسان المتأزمة داخل مجتمع ساده البؤس و مظاهر التفاوت الطبقي بطريقة صارخة في أعقاب الحرب العالمية الأولى حيث " كان لزاما إيجاد طريقة جديدة للتطرق إلى هذه الإشكاليات"[2] فليس من الغريب إذن أن يظهر المسرح السياسي بألمانيا إبان انتهاء الحرب العالمية الأولى و يصدر إلى الولايات المتحدة الأمريكية متزامنا مع أزمة الثلاثينات الإقتصادية حيث كان الوعي السياسي الهاجس الأول الذي يحركه .

أما المسرح السياسي بمفهومه الضيق تاريخيا فيعود إلى المسرحي الألماني اروين بيسكاتور إذ يعد أول من اعتنق و مارس و نظر لهذا المسرح حيث أن المحيط السياسي بجميع مكوناته و دلالته تحول إلى مجال اهتمام و عمل للمسرح ذلك، فكان العامل السياسي عاملا ممتدا مؤثرا في جميع المجالات إقتصادية كانت أم إجتماعية و حتى الثقافية منها فتناول المسرح السياسي لهذا العامل هو منطلق شامل حول طبيعة الإنسان في ظل تدهور الوضع السياسي الراهن الواجب تغييره، ف"هذه الحقبة المليئة بالتناقضات الإجتماعية و الإقتصادية أقصت الإنسان من إنسانيته دون أن تهديه إنسانية أرقى لمجتمع آخر و مهدت لظهور بطل جديد،  ليس الفرد بمصيره الأوحد و إنما المجتمع موحدا…."[3]

تمثل عناصر كالثورية و التحريض و التعليم العناصر الأساسية التي يرتكز عليها هذا المسرح ليتحول الفن إلى أداة ناجعة للإرتقاء بالوعي و بثه و ترسيخ قيم بديلة في محاولة متواصلة لتغيير الواقع فيكون أن يتخطى المسرح الوظائف التي كانت مناطة بعهدته إلى وظائف أخرى جديدة فاعلة متجذرة في الواقع الإجتماعي حاملا لما يسميه جون دوفينيو ب"الإرادة البروميثية " .

تبنى المسرح السياسي على الشاكلة التي صاغه بها بيسكاتور قضايا الإنسان دارسا أسباب تدهور وضعيته متطرقا إلى اندثار القيم باندثار الحرية بسبب التشتت الفكري وتواتر الأزمات السياسية و تفشي الحروب و الصراعات، فكان أن إلتزم هذا المسرح بإشكاليات هذا الإنسان من خلال العمل على معاناته و إدراجها فنيا مع إبراز أسبابها ونقدها محاولة لتكوين وعي سياسي جماهيري بها تحريضا له على المطالبة بعالم أفضل .

و من الملاحظ أيضا في دراستنا للمسرح السياسي من خلال وظيفته غلبة الخلفية الإيديولوجية التي يتضمنها و يدافع عنها في شكل مسرحي يتحول إلى بروباقاندا"Propagande"  سياسية صارخة جعلت من الفكر الاشتراكي مسارا لها حيث نادى بيسكاتور في أكثر من مسرحية إلى تقويض النظام الرأسمالي و محاربة نتائجه الوخيمة على الإنسان و إرساء مبادئ الاشتراكية .

لقد تمحور مسرح بيسكاتور حول الإنسان في مواجهته للمجتمع المحكوم بالطبقية الصارخة مختلفا، معارضا، رافضا في رهانه هذا رهان المسرح البورجوازي الذي يكرس الفرد بينما يراهن بيسكاتور في مسرحه على مواجهة الإنسان السياسي لعصره و عدم اقتصار المسرح كانعكاس للواقع بل ضرورة في تغييره كما يقول :"نحن لا نفهم المسرح فقط على أنه مرآة للعصر بل نفهمه على أنه وسيلة لتحويله" [4]

من خلال ما قدمه بيسكاتور في المسرح السياسي يؤكد فهمه لحاضره السياسي والاجتماعي و محاولاته الفنية في خلق صياغة جديدة تخدم التحريض من أجل الوعي والإفصاح عن الحقيقة السائدة. ويحدد وظيفة المسرح الحقيقية على أنها :

•وظيفة تعبوية و تتمثل في تعبئة الجماهير و تثو يرها و التأثير في تحركاتها و توجهاتها.

•وظيفة توعوية تهدف إلى بث الوعي للجماهير بالمشاكل التي يعانيها مع خلق وعي يصوغ الأفكار التي تقدم له و مجادلتها ماديا ليصبح المتقبل إيجابيا فاعلا.
 تتغير وظيفة المسرح إذن بالنسبة لإروين بيسكاتور و ذالك من خلال تغير الخلفية التي ينبني عليها كل نوع مسرحي فنلاحظ أن المسرح السياسي في تبنيه للمرجعية الماركسية يجعل من وظيفة المسرح تغييرا و تحويلا للعالم مثلما تشير الماركسية لوظيفة الفلسفة فنجد تكامل مكونات البنية الفوقية في وظيفيتها و رؤيتها للعالم في جدل مع البنية التحتية لتعي بمعاناتها لتأسس الهدف الأسمى للماركسية و هو الوصول إلى المرحلة الشيوعية و كان من الضروري لمثل هذا المسرح إيجاد تقنياته الخاصة وسماته المميزة حتى يؤدي الوظيفة المناطة بعهدته .

المسرح الملحمي :
رغم أن العديد من الباحثين يذهبون إلى إعتبار بريشت صائغا للمسرح الملحمي إلا أن العديد من البحوث و من أولها "بيسكاتور و المسرح السياسي" لكل من "ماريا بيسكاتور" و جون ميشال بالمييه تؤكد أن بيسكاتور هو الصائغ الأول و لتجاوز الجدل يمكن إعتبار بيسكاتور أول مخرج للمسرح الملحمي و بريشت الدراماتورج الأول .

ليست المسألة لدى بيسكاتور مجرد فتح للركح و تحطيم النموذج الكلاسيكي و رفض القوالب الكلاسيكية التقليدية فقط، و إنما أيضا وضع أشياء جديدة بطريقة جديدة، مسرح جديد يغلب الفكري الواعي على الإحساس و التهيآت حيث يقع وضع الواقع على الركح بمختلف تمظهراته، واقع العالم الإجتماعي و التاريخي، هو دعوة للتفكير و النقد و التحليل هو في اللآن معنى جديد للمسرح و الحياة مجتمعين بالتنصيص على مبدأ التغيير الذي يحكمهما و إمكانية التأثير، مسرح علمي لعصر علمي يحاول ملامسة الحقيقة و نقلها للمتفرج في قالب تسوده الدعوة المتجددة للنقد و التساؤل و الإجابة عن الإشكاليات المطروحة، و حسب بيسكاتور فإن المسرح الملحمي مجعول لإفهام المتفرج، أنه بمقدور الإنسان أن يتغير و يثور على المجتمع .

مسرح في خدمة المجتمع :
أراد بيسكاتور لمسرحه أن يكون في خدمة الحركة الثورية متجذرا في هواجس العمال والكادحين محاولة لإتاحة حياة حرة كريمة تمكنهم لا فقط من حقوقهم سياسية كانت أم إقتصادية و إجتماعية و إنما أيضا من "إنسانيتهم المستقبلية" لذلك جعل من تجسيد مأساة البروليتاريا و مصيرها هدفه الأول عبر الإرتباط السياسي العضوي بين الفرد والمجموعة في إطار إيديولوجي يخضع الفني للسياسي من ناحية و من ناحية أخرى يبرز السياسي من خلال الفني .

على مستوى المضمون يذهب بيسكاتور إلى أن المسرح السياسي يجب أن لا يكتفي بعرض الأحداث و إنما يجب أن يتجاوز ذلك إلى تحليل تجلياتها و إنعكاساتها الإجتماعية و الإقتصادية و إدراك الضرفية التاريخية المحيطة بها و ذلك عبر الإعتماد على الوسائل التوضيحية الممكنة كالأفلام التسجيلية و المعلقات و اليافطات و البيانات والإحصاءات و الشرائح الزجاجية و ذلك لربط الأحداث الدرامية بالأحداث التاريخية .

الأعمال و التقنيات المستخدمة فيها: 
تثير مسألة الإخراج في مسرح بيسكاتور بمختلف مراحله إشكالية كبرى سواء في محاولة إيجاد نسق متكامل خاص به من ناحية و من ناحية أخرى لتركيزه الأساسي على العنصر السياسي أكثر من تركيزه على العنصر الفني و هو ما سبب في رأي العديد من الباحثين عدم تواصل المسرح السياسي على شاكلته البيسكاتورية بعد وفاته على خلاف المسرح البريشتي مثلا الذي لا يزال مرجعا إلى اليوم حاضرا في العديد من الأركاح في العالم، لذلك سأحاول في هذا العنصر تبيان أهم التقنيات الإخراجية التي ميزت بعض أعمال بيسكاتور الإخراجية محاولة لاستخلاص أهم التقنيات المميزة لمسرحه .

بدءا من سنة 1919 مر بيسكاتور بالعديد من التجارب البديلة خاصة منها الفكرية فكان أن انتمى إلى الحركة السبارتكية و توازى ذلك بافتتاح أولى مسارحه، ألا و هو مسرح التريبونال حيث أخرج مسرحيات لستريندبرغ و ويدكيند و سترانهايم .

ينتقل بيسكاتور إثر هذه التجربة إلى برلين حيث بدأت الحركات التقدمية حربها السياسية و مواجهتها للفن البرجوازي، في هذه الأجواء حاول بيسكاتور سنة 1920 تأسيس المسرح البروليتاري الذي أراد من خلاله لا إنشاء " مسرح للبروليتاريا و إنما مسرحا بروليتاريا بأتم معنى الكلمة " مبني أساسا على مبدأ التحريض السياسي دون إثارة للأحاسيس التي تنتفي لغرض إثارة الوعي و التفكير و هو ما كان بمثابة خطوة أولى نحو إدماج المسرح كأحد الطاقات الحية لعصره، ليكون وسيلة للتعبير في خدمة الحركة الثورية .

تثمر محاولات بيسكاتور حيث يفتتح مسرح السنترال كخصم شرعي لمسرح الشعب "الفلكسبوهن" مواصلا في نفس مسار المسرح البروليتاري و لكن بهدف التوجه لجمهور أعرض فكان أن شملت المدونة مسرحيات لمكسيم غوركي و رومان رولان و تولستوي حيث تميزت عروض هذه الفترة بالحضور الوثائقي، ,

إثر ذلك يتحول بيسكاتور إلى مسرح الشعب، "مؤسسة أبعدت لمدة طويلة أي برنامج سياسي أو ثقافي ليتحول إلى مصنع للعروض الإستهلاكية ".

أولى أعمال بيسكاتور بهذا المسرح كانت مسرحية "أعلام" ل"ألفونس باكي" حيث حاول فيها المراوحة و المزاوجة ما بين الفني و الوثائقي و هو ما يعتبر معطى جديدا نظرا لأن جل التجارب السابقة كانت تقيم فصلا يكاد يكون قطعيا بين هذين العنصرين، كما وقع إلغاء العناصر البسيكولوجية محاولة لعرض الصراع في شكل ملحمي مما خلق نوعا من التوازن بين الفني و السياسي و هو " العنصر الوحيد القادر على إعطاء اللعب الدرامي بعدا تعليميا توعويا" .

على المستوى التقني إستعمل بيسكاتور العروض السينمائية التي قامت بفتح المجال خارج إطار الركح الضيق و قامت بوضيفة التنصيص على الأفعال الدرامية .

يمكن إعتبار مسرحية " رغم كل شيء" التي أخرجها بيسكاتور سنة 1925 بشوسبيلهاوس بمناسبة مؤتمر الحزب الشيوعي أول الأعمال التي تمكن فيها بيسكاتور من تطبيق تصوراته حيث إستعان بصورة كبيرة بالشاشة السينمائية لعرض مشاهد مصورة من الحرب كما صاحبت الأحداث أشرطة وثائقية سواء كانت أجزاء من خطب أو معلقات أو مقالات صحفية، كما حول فضاء اللعب إلى ركح دوار بالإضافة إلى الإستعانة بالسلالم .

يواصل بيسكاتور عمله بمسرح الشعب، في سنة 1926 يقوم بيسكاتور بإخراج مسرحية "اللصوص" في أزياء حديثة و يبرر بيسكاتور العودة إلى النصوص الكلاسيكية أو التاريخية بوضعها في علاقة مباشرة مع الحاضر .

في "عاصفة على غوتلاند"، دراما تاريخية تدور أحداثها في القرن 15، إستعمل بيسكاتور عرضا سينمائيا يبرز ثورة الحمالين بشنغهاي خالقا نوعا من التوازي في الأفعال مما يطور الإيحاءات الدرامية . أثار هذا العمل العديد من ردود الأفعال العدائية و المعارضة مما دفع ببيسكاتور إلى الإقتناع جذريا بضرورة العمل بمسرحه الخاص حيث يتوفر له القدر الكافي من الحرية لتطوير تصوراته، غير أن حلمه في "المسرح الشامل" الذي أعد غروبيوس تصميماته لا يتحقق، غير أنه يؤسس مسرحا خاصا باسم "بيسكاتور بوهن" أو "مسرح بيسكاتور" حيث يشتغل به في مرحلة أولى بين سنوات 1927 و 1929 و في مرحلة ثانية بين 1931 و 1932 .

كان العمل الإفتتاحي لهذا المسرح " هوب لا، نحن نعيش " لإرنست طوللر حيث وقعت الإستعانة بالمقاطع السينمائية المعدة خصيصا لهذا العمل بالإضافة إلى عروض تجريدية محاولة لخلق ما أسماه ب"الموسيقى الحركية".

في مسرحية راسبوتين لألكسيس تولستوي، مخطط نصف كروي مقسم إلى أجزاء تفتح للتمكين من رؤية اللوحات المختلفة . على اللوحة التي تغطي الصقالة يقع عرض أفلام لغرض ديالكتيكي درامي، من ناحية محاولة لإعطاء معطيات موضوعية و من ناحية أخرى لوضع المشاهد مباشرة في الحدث .

في مغامرات "الجندي الشجاع شفايك" المأخوذة عن رواية ل"جاروسلاف هاسك" يعمد بيسكاتور إلى نوع من الهجاء أو النقد الملحمي حيث قام جورج غروسز بتخيل صور متحركة و عرائس، و لإعطاء فكرة الحركة بمختلف تمضهراتها أدخل بيسكاتور تقنية البساط المتحرك حيث يضل الممثل متوسطا الركح فيما تمر المشاهد المختلفة بسرعة .

فيمسرحية تاجر برلين ل"ولتر مهرينغ" و التي عرضت سنة 1929 يقع التعبير على الصراع بين الطبقات عبر ثلاث حاملات للكشافات الضوئية تصعد و تنزل و تضيء حسب تطور الفعل.

المسرح الشامل:
تعود الجذور الأولى للتفكير في هذا المسرح سنة 1926 حيث تبنى أحد الأثرياء إنشاء مسرح خاص لبيسكاتور فكان مخطط غروبيوس تنفيذا لرغبات بيسكاتور و رغم أنه لم ينفذ نظرا لاعتلاء النازيين دكة الحكم في ألمانيا إلا أنه يظل من أهم أفكار بيسكاتور حيث أراد فيه إنشاء الثلاثة أركاح التي عرفها المسرح إلى تلك اللحظة مما يسمح بتحويل الحركة بينها و استغلالها في ذات الوقت مما يسمح بنقل الفعل و يقطع تماهي المتفرج خاصة إذا ما أضيف إلى ذلك الإستغلال الكامل للتقنيات الممكنة التي تسمح بتغيير الديكور و ربط هذه الأركاح ببعضها البعض و الإعتماد على الإضاءة و الشاشات السينمائية و الأفلام السينمائية و غيرها من التقنيات التي إستعملها بيسكاتور في عروضه كما أن مثل هذا المسرح يمنح المخرج إمكانيات و حرية أكثر في التعامل مع الفضاء المسرحي .

و رغم أن هذا المشروع لم ينجز إلا أنّ بيسكاتور حافظ على المبدأ الذي أراده عليه، فقام بخلق أكثر من فضاء للعب كما عمد إلى إستغلال الوسائل السينمائية و التكثيف في إستغلال الآلات و الكشافات الضوئية تماما كما خطط له في مشروعه المسرحي .

السينما في مسرح بيسكاتور :
بالعودة إلى مؤلفه المسرح السياسي، يبدو أن بيسكاتور لم يعر إهتماما كبيرا للسينما في علاقتها بالمسرح حيث لم تمثل أكثر من عنصر مقرب من الواقع كالعديد من العناصر الأخرى، غير أن إهتمامه تزايد بإزدياد الإهتمام بالعنصر الوثائقي حيث أن التعليق الذي تقدمه الوثائق المعروضة تساهم في زيادة تركيز المتفرج و هو ما لاحظه في سياق حديثه عن مسرحية "راسبوتين" .

غير أن الإستعمال الأول للسينما كان في مسرحية "أعلام" بالفلكسبوهن حيث أراد وضع السينما في خدمة الدراما" و يعتبر ذلك أولى محاولات قطع التسلسل الحدثي في أعمال بيسكاتور، كما ساهمت في فتح مجال الموضوع و إضاءة مؤخرة الركح ليهتم بيسكاتور بتطوير هذه التقنية و يجعل منها في مرحلة متقدمة وسيلة تحريضية ليحول منها بيسكاتور إلى علاقة عضوية جاعلا من السينما رافدا من روافد المسرح و هو ما وجد فيه بيسكاتور ضالته، وسيلة لخلق مسرح جديد متجذر في المادية التاريخية و هو ما تسمح به السينما عبر نقل صور من الواقع و وثائق منه عبر وضعه في علاقة مع الشخصيات و مصيرها.

بالإضافة للصبغة التوثيقية و التفسيرية للأحداث فإن السينما تساهم في التعليق على الأحداث و مخاطبة الجمهور و جذب إنتباهه و خلق صورة مسرحية جديدة .

و يمكن أن نستخلص ثلاثة أنواع من الأفلام التي إعتمد عليها بيكاتور و قسمها بنفسه وهي :

 الفيلم التعليمي : و هو عبارة عن ناقل للواقع من أحداث و أماكن و شخصيات و هو يفتح الموضوع على الإطارين الزماني و المكاني .

 الفيلم الدرامي : حيث يكون تواصلا للفعل يقوم بوظيفة تفسيرية مختصرة للفعل الركحي و الحوار في بعض الصور .

 الفيلم التعليقي : و يكون موازيا للفعل يتوجه إلى الجمهور يحث وعيه، يسائله يجذب إنتباهه إلى ما يحصل على الركح .

 أهم النقاط التي يمكن إستنتاجها :
مما ورد ذكره يمكن أن نستنتج مجموع النقاط التالية :

- حاول بيسكاتور تحطيم الدراما بنماذجها التقليدية بالإعتماد على تقنيات سينمائية كالتقطيع و التنويع و التركيب أخضع لها النص و العرض على حد السواء .

-توسع بيسكاتور في إستخدام العروض السينمائية و الفانوس السحري و العناوين الفرعية في إخراجه للمسرحيات التاريخية كما توسع في إستخدام الوسائل الآلية الكهربائية و هو ما ساهم في خلق صورة جديدة، ووظف لأغراض مسرح بيسكاتور الدعائية و التحريضية و التوعوية و التفسيرية و التعبوية .

- اللجوء المتكرر إلى الوسائل التوضيحية الممكنة كالأفلام التسجيلية و المعلقات واليافطات و البيانات و الإحصاءات و الشرائح الزجاجية محاولة لربط العنصرين الدرامي و التاريخي .

- أحدث بيسكاتور في سبيل خلق مسرحه العديد من التغييرات على الركح بجعل الأرضية تتحرك مما خلق منظرا متحركا بكامله مبرزا تتابعا في الأحداث و الأماكن كما قام بإستخدم التوازي في الأمكنة و الأفعال عبر إحداث أكثر من منصة مسرحية .

- قام بيسكاتور باستبدال مؤخرة الركح بشاشة تعرض عليها صور متحركة و أفلام مما سمح له بتجاوز الحدود التي يسمح بها الركح .

- عمد بيسكاتور أيضا إلى إستعمال التقنيات و الآلات الحديثة من مصاعد و شرائط و مشاهد متحركة و دوارة .

-كل هذه التقنيات تدل على الإهتمام الكبير لبيسكاتور بالمنظر المسرحي الذي مثل إحدى وسائل كسر الإيهام فما المسرح العاري أو شبه العاري و تغيير الديكور أمام الجمهور و استخدام تقنيات سينمائية و هدم الجدار الرابع سوى وسائل في ذلك كما أن المقاطع التوضيحية بما تفضيه من تقطيع و قطع لحدث الدرامي و تطور الشخصيات والمراوحة بين اللغة العادية و اللغة المسرحية و بين المسرح و السينما تقطع التماهي مع ما يحدث على الركح، و قد بوأ هذا الإستعمال المكثف للتقنيات بيسكاتور ليلقب بالمهندس و هي تسمية ستتواصل فيما بعد دلالة على المسرح البروليتاري .

حاول بيسكاتور إيجاد لغة مسرحية جديدة عبر الإعتماد على مجموعة من التقنيات غير أنها في مجملها تخدم العنصر الإيديولوجي أكثر منه الفني حتى لا نقول أن بيسكاتور ابتعد عن الجانب الفني للمسرح ليسقط في خطاب سياسي لا أكثر، و ربما يكون ذلك السبب في عدم تواصل تجربته المسرحية على خلاف بريشت مثلا.

و لعل أبرز دليل على ذلك الغياب الكامل لتصور لأداء الممثل في مسرحه و هو الحامل و الوسيط بين المخرج و المتقبل و الذي كان محور بحث غالبية المخرجين الذين لمع نجمهم في القرن الماضي، غير أن التقنيات السينمائية، ونظريته للمسرح و الأسس التي دعا إليها ستمثل في مرحلة لاحقة مادة للعديد من المخرجين لبلورة أفكارهم وتجاربهم الخاصة .

--------------------------------------------------------------------------------

1- Maria Piscator et Jean-Michel Palmier،  Piscator et le théâtre politique، ed payot, paris 1983, p. 25


[2] Erwin Piscator،  le théâtre politique،  traduction d’Arthur Adamov،  Paris،  l’Arche, 1962,P135-136

[3] Erwin Piscator،  le théâtre politique،  traduction d’Arthur Adamov،  Paris،  l’Arche, 1962,P137

[4] اريك بنتلي،المسرح الحديث ،ترجمة محمد عزيز رفعت ،القاهرة الدار المصرية للتأليف و الترجمة ص:493.

سيف

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...