رعب المحرقة وتقسيم العراق

22-12-2006

رعب المحرقة وتقسيم العراق

ربما تكون نتائج استطلاع الرأي العام العراقي عن الأوضاع العراقية قبل وبعد الاحتلال الأميركي والتي بثتها فضائية الجزيرة صباح 14/12/2006 تقترب من خطوط التماس الحقيقية في العراق أكثر من كافة التوقعات والاحتمالات.

فحينما يعرب ما بين 85 و95% من العراقيين عن اعتقادهم بأن الأوضاع الأمنية والاقتصادية المعيشية في العراق هي أسوأ مما كانت عليه قبل الاحتلال بكثير، فإن هذه النتائج تكون أبلغ شهادة على حقيقة المحرقة الكارثية التي يجري نحتها في المشهد العراقي.
وبالتالي ليس من قبيل المبالغة والتهويل حينما نثبت بداية أن بلاد ما بين النهرين باتت مثخنة بقسوة لا نظير لها في التاريخ العربي بجملة حقائق مروعة تتحرك ما بين المحرقة أو المحارق اليومية التي يطفح بها المشهد العراقي, وما بين تلك البلدوزرات الأميركية الصهيونية التي تعمل على مدار الساعة بلا كلل أو ملل من أجل تقسيم العراق إلى دويلات طائفية مذهبية سياسية وصولا إلى تجريف عروبته في الحصيلة الإستراتيجية عبر تدمير وتفكيك الدولة العربية العراقية الواحدة الموحدة القوية السيادية إلى أبد الآبدين وفقا للوثائق المبيتة للعراق!

ولعل أشد المشاهد وطأة على النفس والوعي هي تلك المجازر والمسالخ اليومية المفتوحة في ميادين العراق وعلى امتداد خريطته الجغرافية والسياسية على حد سواء.

ولعل أبلغ وأخطر رسالة في هذا الصدد تحملها تلك التقارير التي نشرتها مجلة "لانست" البريطانية التي تحدثت عن أن 655 ألف عراقي لقوا حتفهم منذ اجتياح العراق في مارس/آذار 2003.

أي بعد ثلاث سنوات وستة أشهر من الغزو الأميركي, فهي ترسم أمام العالم صورة سوداء للعراق أقرب إلى أن تكون كارثية هولوكوستية بكل ما تحمله هذه المصطلحات من مضامين وتداعيات واستخلاصات إجرامية لم يشهدها التاريخ.

وعلى نحو مكمل ومما يعزز هذه الصورة الكارثية، أن الأمم المتحدة أكدت بدورها "أن ثلاثة ملايين عراقي نزحوا داخليا أو إلى خارج البلاد جراء الأوضاع الأمنية" (الوكالات 14/10/2006).

وما يفاقم المحرقة/الكارثة العراقية أن هذه الأوضاع لن تتوقف وفقا لرؤية الخبراء والمحللين, إذ أكد المحلل الإستراتيجي في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن أنتوني كوردسمان "أن حظوظ الجيش العراقي الذي تعول واشنطن على بنائه في حفظ الأمن والاستقرار في العراق لا تتجاوز 50%".

و"استبعد أن تستقر الأوضاع في البلد المحتل قبل عام 2012 إن لم يكن 2015". وهو ما ذهب إليه أيضا رئيس أركان الجيش الأميركي الجنرال بيتر شوميكر الذي أكد أن مستوى القوات الأميركية في العراق سيبقى كما هو إلى حين حلول عام 2010، والتواريخ متحركة متغيرة بطبيعة الحال بلا شعارات أو حدود!

وهذه الحقائق أعلاه ليست الوحيدة, بل هي وفق ممارسات قوات الاحتلال بعض من كم هائل من حقائق مرعبة تمس صميم المشهد العراقي وجرائم الاحتلال الأميركي ضد كافة بنى ومقومات وجود الوطن العراقي والحياة العراقية.

وجرائم قوات الاحتلال هناك كما هي واضحة ملموسة مبثوثة بثا حيا ومباشرا إلى حد كبير، طافحة بالمجازر الدموية الجماعية والفردية بحيث أن القتل بات هناك بالجملة، وبصورة يومية وفي كل أنحاء العراق.

وممارسات قوات الاحتلال هناك على أرض بلاد الرافدين، لم تترك مجالا من مجالات الحياة العراقية إلا وألحقت به الأذى والخراب والدمار، ولم تترك بيتا إلا وألحقت به الضرر، ولم تترك أسرة عراقية إلا ونكلت بافرادها قتلا واعتقالا وتعذيبا.

كما لم تترك لا الشجر أو الحجر، إذ تقوم آلة الحرب الأميركية بالتدمير الشامل ضد المدن والقرى والمؤسسات والبنية التحتية المدنية من مصانع ومنشآت وغيرها، في الوقت الذي تقوم فيه بالتجريف والتدمير الشامل لبيارات ومزروعات العراق.

ناهيك عن قيام تلك القوات هناك بفرض العقوبات الجماعية على الشعب العراقي وتحويل مدنهم وقراهم إلى معسكرات اعتقال وإرهاب جماعية، تماما كما تفعل قوات الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة.

وفي العراق أيضا تتكرس وتتبلور جرائم الحرب الأميركية اليومية لتصبح فيه عقلية ونمطية يومية تهيمن على جنرالات وجنود الاحتلال هناك، بالضبط كما هي مهيمنة على جنرالات وجنود الاحتلال الصهيوني.

- والحقيقة الكبيرة أن تلك العقلية وتلك الجرائم كما يثبت عبر كمٍ هائل من الوثائق مبيتة، وتقف وراءها ليس فقط أجندات وأهداف إستراتيجية أميركية، بل وهذا الأبرز والأخطر، أجندات وأهداف إستراتيجية إسرائيلية إلى جانبها.

وأبعد من ذلك أهداف توراتية تتعلق بـ"أرض إسرائيل الكاملة من النيل إلى الفرات"، وأهداف عسكرية أمنية تتعلق بإزالة التهديدات الإستراتيجية لوجود "الدولة الصهيونية" وتتعلق بفرض الهيمنة والأجندة السياسية الإسرائيلية على المنطقة.

ونأتي هنا في هذا السياق أيضا إلى تلك النوايا والمخططات الأميركية الإسرائيلية المشتركة الرامية إلى تقسيم العراق وتحويله إلى دويلات طائفية وإثنية وسياسية موالية، وكمْ الوثائق والخطط التي تتحدث عن تقسيم العراق وأهداف التقسيم لا حصر لها.

ولعل الدعوة التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر لتقسيم العراق إنما تبين لنا كذلك عمق النوايا والمخططات التفتيتية المبيتة ضد العراق والعرب، فقد أعلن كيسنجر في حديث لشبكة CNN: "أنه لا مصلحة لأميركا في إبقاء العراق موحدا.. ومن الأفضل أن نترك كل مجموعة إثنية متنافسة تشكل حكومتها الخاصة".

- وعلى نحو مكمل في الجوهر، دعا العديد من الباحثين "الإسرائيليين" مؤخرا الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها إلى تشجيع تقسيم العراق على اعتبار أن ذلك أفضل وسيلة لخدمة الأهداف الأميركية و"الإسرائيلية" في المنطقة.

وقال جاي باخور الباحث في مركز هرتسليا المتعدد الاتجاهات في معاريف 13/11/2006 "إنه إذا لم يسفر الاحتلال الأميركي للعراق عن تقسيم هذا البلد فإنه يمكن اعتبار الحرب الأميركية ضده فاشلة من أساسها ولم تحقق أهدافها"، واعتبر باخور في ندوة إذاعية بثتها إذاعة الجيش الإسرائيلي أنه "يتوجب القضاء على الوحدة الجغرافية للعراق وتسهيل إقامة دويلات طائفية في البلد".

ومن ناحيته قال عاموس مالكا الرئيس الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية "الإسرائيلية" إن "غياب العراق عن خريطة المنطقة بمساحته الحالية ووحدة أقاليمه سيكون أحد العوامل المهمة في تقليص المخاطر الإستراتيجية على إسرائيل"، مضيفا "أن العالم العربي من دون العراق الموحد هو أفضل لـ"إسرائيل" من العالم العربي بوجود العراق الموحد".

وفي المقابل قال الجنرال داني روتشيلد الذي تولى في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إنه "يتوجب على إسرائيل أن تحاول تطوير علاقات مع الكانتونات التي تنشأ في العراق الجديد"، مستذكرا أن علاقات تاريخية جمعت بين الكيان وقادة الأكراد في شمال العراق.

ولم تتأخر المصادر الإعلامية الإسرائيلية عن كشف حقيقة كبيرة صارخة وهي أن فكرة تقسيم العراق لأربع ولايات مستقلة فكرة إسرائيلية, فقد كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" النقاب عن "خطة لتقسيم العراق إلى أربع ولايات مقسمة على أسس جغرافية وعرقية وطائفية".

وقالت الصحيفة "إن اجتماعا ضم ممثلين عن الإدارة الأميركية للعراق ومدير التخطيط في السفارة الأميركية في بغداد وعددا من الخبراء الأميركان عرض فيه على الطرف العراقي تقسيم العراق إلى أربع ولايات وأقاليم لها برلمانها المحلي الخاص وموازنتها المستقلة وإدارة شؤونها الداخلية. فيما ترتبط جميعا بالإدارة المركزية في قضايا الدفاع والأمن والخارجية والنفط والإعلام".

وأوضحت أن "الأقاليم المقترحة هي ولاية وإقليم الشمال ويضم كركوك والموصل وتكريت وأربيل والسليمانية ودهوك وسيكون المركز الإداري له الموصل، وإقليم الوسط ويضم بغداد والرمادي والكوت وديالي ويكون مركزه بغداد عاصمة الفدرالية العراقية, وإقليم الفرات ويضم الحلة والديوانية والنجف وكربلاء ويكون مركزه الإداري النجف, وإقليم الجنوب ويضم البصرة والعمارة والناصرية والسماوة ويكون مركزه الإداري البصرة".

وأشارت الصحيفة بوضوح إلى "أن فكرة تقسيم العراق إلى أربع ولايات كانت من ضمن المقترحات التي تقدم بها وفد إسرائيلي للإدارة الأميركية من أجل تعزيز الاستقرار في العراق من جانب، ومن جانب آخر لإضعافه من ناحية التحرك الخارجي مستقبلا".

وفي سياق وثائق ومخططات تقسيم العراق، أكدت مسؤولة مركز الدراسات الفلسطينية في جامعة بغداد الدكتورة هدى النعيمي: "أن الكيان الصهيوني يعتقد أن تقسيم العراق سيؤدي إلى تقسيم الدول العربية المجاورة وفي الصدارة سوريا والسعودية".

ليتبين لنا في الخلاصة المكثفة لهذا الكم النوعي من الوثائق والخطط الأميركية الإسرائيلية المبيتة، وهناك غيرها الكثير والكثير، أن هناك قرارا إستراتيجيا أميركيا إسرائيليا مشتركا بتقسيم العراق وتفتيته وتحويله إلى دويلات طائفية تسهل عملية السيطرة عليها، لصالح الحفاظ على التفوق الإستراتيجي الإسرائيلي على المنطقة كلها في نهاية الأمر.

وليتبين لنا في المحصلة الإستراتيجية أن كل بلدوزرات التآمر والهدم والتدمير تعمل معا وتتكامل في اقتراف المحرقة العراقية وفي تجريف عروبة ووحدة العراق العربي, ولكن في ظل غياب وتغييب عربي مذهل صاعق لا يصدق في هذا النطاق.
وكل هذا تترتب عليه جملة استحقاقات كبيرة وملحة على الإدارة الأميركية أن تدفعها إن عاجلا أم آجلا، وفي مقدمتها: فاتورة المجازر وأنهار الدماء العراقية المتراكمة، وفاتورة اغتيال الدولة العراقية والوطن العراقي وتدميره تدميرا شاملا، وفاتورة عمليات السطو المسلح والنهب والسلب للنفط والخيرات العراقية التي تجري في وضح النهار على مرأى من العالم كله، وفاتورة رحلة المعاناة والقهر والفقر والعذاب التي أخذ الشعب العراقي يعانيها منذ تحركت قوات الشر والإجرام من وراء البحار لغزو بلاد ما بين النهرين.

فيا للعدالة الحديدية الأميركية! ويا للحرية والديمقراطية المحمولة على ظهر آلة القتل والتدمير الشامل الأميركية!

هذه هي العناوين الرئيسية الصارخة للعدالة والحرية والديمقراطية الأميركية, فالوطن العراقي برمته بأرضه وشعبه وسيادته وحرمته ومقوماته وتراثه وحضارته وراهنه ومستقبله يتعرض إلى أوسع وأقذر وأبشع مجزرة عبر التاريخ.. إنها المحارق العراقية تتدحرج وتتضخم بأبشع صورة أمام العرب والعالم..؟!

ونتساءل في الختام: ألا تستدعي مشاهدة كل هذه البلدوزرات الاستعمارية الإجرامية، التي تصول وتجول زارعةً المحارق والمسالخ والهدم والتدمير والتقسيم في جسم العراق ووحدته وعروبته، وقفةً عربية عروبية قومية وتاريخية مسؤولة من العرب على كل المستويات؟!

نواف الزرو

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...