سياسية العقوبات الاقتصادية وتأثيرها على البلدان النامية

16-01-2007

سياسية العقوبات الاقتصادية وتأثيرها على البلدان النامية

الجمل:   أصبحت العقوبات الاقتصادية واحدة من أدوات ووسائل السياسة الخارجية المعاصرة، كذلك أصبح لمصطلح عقوبات اقتصادية مكانته المركزية البارزة ضمن مفردات الخطاب السياسي الإقليمي والدولي.
وراح خبراء العلاقات الدولية يقدمون تعريفاً خاصاً لمفهوم عقوبات دولية، يختلف بقدر كبير عن التعريفات التي يقدمها خبراء القانون، والاقتصاد، والعلوم السياسية. ويشير التعريف العام للعقوبات الاقتصادية الدولية باعتبارها: (المنع الفعلي أو التهديد بالمنع للعلاقات الاقتصادية مع البلد أو البلدان المستهدفة بواسطة بلد أو مجموعة البلدان الفارضة، وذلك للتأثير في سلوك وتوجهات البلد أو البلدان المستهدفة، على النحو الذي يتماشى ويحقق رغبة البلد أو البلدان الفارضة للعقوبات).
إن استخدام الجانب الاقتصادي في الصراعات الدولية والإقليمية، لا يمكن اعتباره أمراً جديداً، فقد أشارت معطيات الخبرة التاريخية إلى عمليات الحصار الحربي البحري والجوي، وقيام الجيوش بقطع الإمدادات، كذلك هناك العديد من حالات المقاطعة الاقتصادية التي تكرر حدوثها بين الدول المتصارعة. أما العقوبات الاقتصادية الدولية بشكلها الحالي المعاصر، فتعتبر ظاهرة دولية متميزة بسبب خصوصية طبيعتها النوعية.
وقد بدأت العقوبات الاقتصادية الدولية أول ما بدأت في تشرين الثاني 1979م، عندما أعقب أزمة الرهائن الأمريكيين في إيران، قيام الإدارة الأمريكية بفرض العديد من العقوبات ضد الحكومة الإيرانية. على النحو الذي تضمن حظر واردات بعض السلع الإيرانية إلى الولايات المتحدة، وأصبح نطاق العقوبات الأمريكية يتسع تدريجياً، وفي عام 1995 أصدر الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الأمر التنفيذي رقم 12957 القاضي بحظر الاستثمارات الأمريكية في قطاعات النفط الإيرانية.. ثم  أعقب ذلك بعد عدة أسابيع، بإصدار الأمر التنفيذي رقم 12959 القاضي بوقف التجارة والاستثمار وكل التفاعلات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وإيران.
كانت عملية استخدام الوسائل الاقتصادية في الصراعات تهدف إلى دعم وإسناد الجهد العسكري، ولكن في الوقت الحالي أصبحت هذه العملية، وفق ما  أطلق عليه تسمية العقوبات الاقتصادية تهدف إلى كسر إرادة الخصم أو الطرف المستهدف دون الحاجة إلى استخدام الوسائل العسكرية ضده.
الدولة، أي دولة، لها كيان أشبه بالجسد الحي، فلكي تعمل الدولة بحيوية لابدّ لها من التفاعل مع البيئة الدولية الخارجية المحيطة بها، وعملية التفاعل هذه تتم عن طريق المدخلات والمخرجات، أي عن طريق تبادل المنافع بينها وبين دول العالم الأخرى.. ومن ثم نجد أن فرض العقوبات الاقتصادية في حد ذاته يشكل عملية تهدف إلى إيقاف تبادل المنافع، أي وقف المبادلات مع العالم الخارجي، تماماً مثل عملية قطع المبادلات بين جسم الإنسان والبيئة الخارجية عن طريق منع الهواء والغذاء والكساء والخدمات الأخرى عنه.
تأثير العقوبات الاقتصادية يتمثل على النحو الآتي:
• على النحو الوظيفي: تؤدي إلى حرمان الاقتصاد من القطع الأجنبي، وذلك بسبب توقف حركة الصادرات، وهو أمر يؤدي إلى تراكم السلع والخدمات داخل الدولة، بشكل يؤدي إلى ركود المنتجات، بما يؤدي لاحقاً إلى توقف القطاعات الإنتاجية بسبب تراكم مخزون الإنتاج.
كذلك نجد أن إيقاف الواردات من الناحية الأخرى يؤدي إلى حرمان الاقتصاد من المعدات التكنولوجية وقطع الغيار، ومن ثم تصبح عملية إصلاح الأعطال التكنولوجية أمراً صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
• على المستوى الهيكلي: تؤدي الاختلاطات الوظيفية التي أشرنا إليها إلى اختلاطات هيكلية.. وذلك لأنه عندما تتعطل القطاعات الرئيسية عن العمل، يصبح هيكل الاقتصاد الوطني مصاباً ب الشلل، ومن ثم يؤدي ذلك إلى القضاء على حيوية هياكل الدولة الاقتصادية والاجتماعية، وتصبح تماماً مثل جسد الإنسان الذي يعاني من سوء التغذية وانعدام التروية.
تأثيرات العقوبات الاقتصادية:
بعد فرض وتطبيق عملية العقوبات الاقتصادية، قد لا يبدو تأثيرها واضحاً للوهلة الأولى، ولكن بمرور الزمن تتراكم تأثيراتها ومضاعفاتها المدمرة، وهي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل تتعدى ذلك إلى الجوانب الأخرى، بشكل يبدأ التأثير فيه اقتصادياً، ثم يتحول ليصبح اجتماعياً، وبعد ذلك سياسياً.
- من الناحية الاقتصادية: تؤدي العقوبات الاقتصادية إلى الركود، والبطالة، وتدهور خدمات الصحة والتعليم وغيرها، وانخفاض سعر العملة... وغير ذلك من الاختلالات الاقتصادية الكلية التي تمثل المؤشرات الدالة على مرض واعتلال الاقتصاد الوطني.
- من الناحية الاجتماعية: تؤدي حالة الركود الاقتصادي إلى تدهور مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات الهجرة والنزوح، على النحو الذي تحدث فيه موجات هجرة ضخمة إلى الخارج، بشكل يؤدي إلى تفريغ الاقتصاد الوطني من الكفاءات والمهارات.
الجدير بالملاحظة أن القوة الاجتماعية للبلدان النامية المعاصرة تتكون من كتلتين، هما سكان الريف، وسكان الحضر، وبسبب عملية الاكتفاء الذاتي التي يتميز بها سكان الأرياف خاصة في الاعتبارات المتعلقة بقدرتهم على إنتاج احتياجاتهم من الأكل والشرب، وإمكانية استغنائهم عن الكثير من السلع المستوردة من الخارج، فإن سكان الحضر (المدن) تكون معاناتهم أكبر، وذلك بسبب ارتباط الحياة المدنية بالسلع المستوردة، وبالتالي فإن انقطاع تدفق السلع الأجنبية من الخارج يؤدي إلى تدهور الأوضاع المعيشية والحياتية.
- من الناحية السياسية: تؤدي عملية التدهور والضغوط الداخلية الناشئة في الدولة بسبب الضغوط الخارجية إلى عملية تذمر اجتماعي ومعارضة سياسية كبيرة داخل الدولة، وتنشط الحركات والقوى والفصائل السياسية المعارضة للنظام.
إن تداعيات العقوبات الاقتصادية الدولية، على النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تمثل كلاً مترابطاً لا يتجزأ، بحيث نجد أن التأثيرات السلبية على الاقتصاد تؤدي إلى تعميق التأثيرات السلبية على الجوانب الاجتماعية والسياسية، وأيضاً فإن التأثيرات السلبية الاجتماعية تنسحب على الجوانب الاقتصادية والسياسية، والشيء نفسه بالنسبة للتأثيرات السلبية السياسية، بشكل يعمل ضمن مكونات (حلقة التأثيرات الدائرية الخبيثة) التي تغذي بعضها بعضاً.
حالياً تتبنى الإدارة الأمريكية متذرعة بانتهاك حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية وغيرها، عملية فرض العقوبات الاقتصادية الدولية ضد الكثير من الدول النامية، وعلى هذه الخلفية نجد أن الكثير من جماعات المجتمع المدني المعارضة لحكومات بلدانها، تتعاون مع الإدارة الأمريكية في عملية فرض العقوبات وممارسة الضغوط على حكومات بلدانها ظناً منها أن ذلك سوف يؤدي إلى فتح مجال المشاركة واسعاً أمام منظمات وزعماء حركات قوى المجتمع المدني، على نحو يمكّنها من السيطرة على السلطة والحكم.
وانطلاقاً من القول السائد (البيان بالعمل) يمكن أن نقول بأن التجربة العراقية قدمت المثال والبرهان النموذجي لهذه العملية:
• تدافعت فصائل المعارضة السياسية العراقية إلى التعاون مع أمريكا وبريطانيا ضد النظام العراقي السابق.
• تم فرض العقوبات الاقتصادية الشاملة ضد العراق.
• أدت ضغوط العقوبات إلى توليد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
• تدهورت مستويات الحياة الاجتماعية والمعيشية.
• غادرت الملايين العراق إلى دول الجوار، ثم إلى أمريكا وأوروبا تحت غطاء عملية اللجوء السياسي الذي وفرته لهم أمريكا والدول الغربية.
• أيد الكثير منهم الغزو الأجنبي، بل وشارك الكثير منهم في قوات الغزو والاحتلال بعد أن حصلوا على الجنسية الأمريكية والبريطانية وغيرها.
• سقط الوطن العراقي تحت الاحتلال وانهار المجتمع المدني بالكامل.
وأخيراً نقول: برغم أن العقوبات الاقتصادية تؤدي إلى تدمير بنيات الحياد الاجتماعية المدنية وبالتالي إلى تقويض الأساس الذي يقوم عليه المجتمع المدني، فإن الكثير من دعاة المجتمع المدني في البلدان النامية يفترضون أن تطور بلدانهم لابدّ أن يتم بتطبيق النموذج الغربي الانجلوساكسوني للتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويذهب بعض قادة المجتمع المدني في بلدان الشرق الأوسط النامية بعيداً غير منتبهين إلى الخطر الذي يحدق ببلدانهم من جراء التعامل مع المنظمات الأمريكية مثل مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية (DDF)، ومنتدى الشرق الأوسط (MEF)، وغيره.
إن النتيجة الحتمية لتعامل عناصر المجتمع المدني مع المؤسسات الأمريكية هي أن تقوم بالاستعانة بهم في عملية السيطرة على بلدانهم (تماماً مثلما حدث مع النخبة المدنية العراقية) ثم ينقلب السحر على الساحر، وتقوم أمريكا وحلفاءها بالانقلاب عليهم، وتلقينهم جزاء سمنار.

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...