أسرار الخؤولة في الرواية العربية

12-11-2010

أسرار الخؤولة في الرواية العربية

الخؤولة: صلة القرابة الأنثوية، ظاهرة فريدة وشائعة في الفن الروائي العربي. لا تكمن فرادتها في شيوعها وتفشيها في النصوص فحسب، بل تكمن أيضا في شيوع إهمال وجودها وندرة تشخيصها كظاهرة أدبية أو ثقافية خاصة. لا تنحصر هذه الغفلة أو ضعف الملاحظة في القارئ العادي، بل تتعداه الى نقّاد الأدب ودارسيه. في هذين الحدين المتناقضين ظاهريا - الشيوع وشدة الإهمال - تكمن أهمية الخؤولة كموضوع للبحث والتحليل والمناقشة.
من مظاهر فرادة هذه الظاهرة أنها تتحرك على مساحة جغرافية واسعة، على امتداد الأرض العربية، تناولها وانتفع بها كتّاب من أجيال مختلفة، وصوّرها هواة ومحترفون من اتجاهات ثقافية وبيئات أدبية متنوعة؛ فقد وجدت في الرواية التاريخية وفي الاتجاه الواقعي والرومنطيقي والعاطفي والاتجاهات النفسية والاجتماعية. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد وجدت لدى أبرز ممثلي الأدب الروائي العربي في بيئاته الأكثر تطورا والأكثر تخلفا على السواء، ولم تتوقف عند هذا الحد، إذ تجاوزت الظاهرة حدود الأديان أيضا. فما سر هذه الظاهرة؟
أسرار مشاعة
إن ضعف ملكة القارئ النقدية أمر طبيعي لا يقلق الباحث في شؤون الثقافة؛ فربما يعود ذلك الى أن القارئ لا ينظر الى الظاهرة المقروءة باعتبارها موضوعا مستقلا عنه، وإنما يشاهد فيها ملمحا حياتيا مألوفا، خاليا من الخصوصية، لأنه يحيا فيه منذ أن ولد، من دون أن يضعه في قائمة الاستثناءات أو المثيرات المميزة. هذا الضرب من التفكير غير النقدي، ينتسب الى المعايشة الطبيعية اليومية، ويندرج ضمن المسلّمات الاجتماعية. فالموضوع هنا جزء عضوي غير منفصل عن العين الرائية. لكن إغفال النقد والبحث العلمي للظاهرة يضعنا أمام أسئلة عسيرة، لا يمكن تفسيرها بيسر، أو ردّها الى غفلة العيش والحياة، وما يرافقها من مسلّمات. وربما يكون بعض أسباب هذه الغفلة عائدا الى أن النقد، في شقّيه "المدرسي" والمتحرر من القيود المدرسية، مال الى تفسير بعض الظواهر الأدبية تحت تأثير النقد الأوروبي، لذلك غابت هذه المسألة الخاصة عن أعينه، لأنها لم تكن موضع بحث في ثقافات الأوروبيين. يلاحظ هنا أن بعض الباحثين الأوروبيين يخلطون أحيانا بين العمّ والخال عند بحثهم في النص الروائي العربي، وهذا اللبس ناشئ عن أمرين: الأول، الترجمة وخصوصية مفردة خالة وعمة العربيتين، والثاني عدم وضوح الدرجات والمميزات في الاختلافات العاطفية والأخلاقية الملازمة للعلاقات الأسرية العربية لدى بعض الأوروبيين. فقد جعلت ترجمة نص روجر الن في كتابه "الرواية العربية" من ابنة الخالة شوشو في رواية ابراهيم المازني "الدكتور ابراهيم" ابنة عم، وأضحت منيرة، شخصية رواية "الرجع البعيد" عمة مغتصبها عدنان في كتاب "النثر العربي الحديث" للمستشرقة الأسوجية مارينا ستاغ، في حين أن منيرة كانت خالته. ولم يكن تعامل الكتّاب العرب مع تعابير الخؤولة عادلا دائما في درجة دقته الاصطلاحية وتجاهله اللاشعوري، فقد عدّ طه وادي في كتابه "صورة المرأة في الرواية العربية" عصاما، ابن خالة ليلى في "الباب المفتوح" جارا، وسمّى سلام ابراهيم في مقالة له عن رواية "الغلامة" لعالية ممدوح ابن خالة صبيحة قريبا، أما فؤاد التكرلي فقد استخدم وصفا شديد الالتواء للتعبير عن ابنة الخالة، جاعلا إياها ابنة أخت الأم. أما النقد الصحافي فلا يختلف في محتواه عن وعي العامة للمشكلة، أي لا يختلف عنه في غفلته. ولكن، لماذا غابت ظاهرة كهذه عن أعين كتّاب الرواية أنفسهم، خالقي الظاهرة أدبيا؟ هذا سر من أسرار هذه الظاهرة الفريدة.
التناقض بين الغرائز وقوانين الأخلاق
لو نظرنا الى موضوع الخؤولة تاريخيا، وتابعنا الجدل الدائر حوله في إطار الثقافة العربية، لوجدنا أنه يتمحور حول نقطتين رئيسيتين: الأولى، أن الخؤولة، سواء أكانت من ناحية الأب أم الأم، رابطة أسرية تحمل في طبيعتها صفة المحرم، أي الشخص الذي لا تجيز الشرائع الاقتران به جنسيا. هذا التحريم موجود في الشرائع الدينية كافة. ثانيا: إن هذا التحريم ضرب من العصمة الأخلاقية والسلوكية الشرعية، التي تبيح للأفراد الاتصال بموضوع التحريم من دون حرج أو موانع خارجية (اجتماعية)، أو داخلية (عاطفية، نفسية، أخلاقية). وهي حالة شديدة التعقيد والالتباس، وأحد إشكالات علم النفس التحليلي الكبرى.
إن فهوم المحرم في الشرائع كافة، الدينية وغير الدينية، ينطوي على تناقض شعوري كبير، غير مدرك. فكلما كان المحرم أكثر قربا (أب وأم، أخ وأخت، عم وعمة، خال وخالة)، اتسعت دائرة الإباحة، أي عدم الاستتار. وهو تناقض عاطفي عظيم من الناحية النفسية تحديدا، وليس من الناحية الأخلاقية، كما يظن المرء للوهلة الأولى. لأن الغرائز عمياء، لا تجيد قراءة الأنساب؛ أمّا الأخلاق، والتكوين النفسي للأفراد (الانفعال والإثارات الغريزية والعاطفية) فتكتسب تطبّعها وتكييفاتها مع قوانين الوسط الاجتماعي تاريخيا بمرور الأيام؛ حتى الأحاسيس والمشاعر والمعتقدات تأخذ بالتتلمذ والتدرب والاعتياد على الحالة المتناقضة هذه، الى أن تغدو مبادئ التحريم بنية سلوكية، وفعلاً ذا استقلالية نسبية، يفعل فعله في الاستجابات الخاضعة لإرادة الوعي، وتحت اللاوعي أيضا.
كل تلك المقدمات تقودنا الى حقيقتين متعارضتين: شمولية القدسية التحريمية للخؤولة من جهة، واستسهال اتخاذها منفذا للدخول الى وسط محرم أو وسط لا يتم اختراقه بيسر، من جهة أخرى.
من ضمن تعقيدات هذه الظاهرة أنه كلما تشدّد المرء في موضوع التحريم، تعاظمت اضطراباته النفسية، وازدادت التناقضات في داخله عمقا. هذا ما يحدث لدى الفئات التي تميل الى التفكير السلفي المتزمت. لأن التحريم، مهما يكن مانعا وصارما لديهم، لا يحل مشكلة كون المرأة في نظرهم، قربت أم بعدت، عنصر إغواء شيطاني عظيم، لا مهرب منه ولا عاصم.
إذا وسّعنا دائرة الخؤولة اجتماعيا لوجدنا مجموعة كبيرة من الأفراد المحرّمين يدخلون فجأة في محيط الحلال، أو المباح. لأن التحريم من ناحية الذكور في إطار العائلة الأبوية الواحدة مطلق: الأم والأخت، ومن ناحية الإناث: الأب والأخ. لكن التحريم في إطار الخؤولة والعمومة أضيق، لأنه لا يخص سوى الأعمام والأخوال أنفسهم، أما أبناؤهم وأزواجهم فهم خارج دائرة التحريم، أي هم في عين الوقت خارج دائرة شرعية "عدم الاستتار"، أي هم جزء من منظومة الإثارة الجنسية المباشرة، حالهم كحال أي شيطان غريب، جاهز لممارسة سحر الاغواء ومكيدة التدنيس. هذا يعني أن رابطة القرابة (الخؤولة) توفّر ضمنا للأفراد المشمولين بصلة القرابة: أبناء العمات وأبناء الأخوال والخالات، فرصا أكبر للقاء الشرعي، المبرر اجتماعيا وأخلاقيا، الذي قد يفضي الى العلاقات الجنسية المتكاملة والشرعية: الزواج، وربما يفضي الى علاقات غير شرعية.
من هنا، من هذه الزاوية المتناقضة والخفية، انسلّت ظاهرة الخؤولة الى الرواية العربية. ولكن لماذا اكتسبت الظاهرة قوة وثقلا خاصين في النص والمشهد الأدبي؟ هذا السؤال هو محور بحثنا.
إن ضيق أفق الواقع، الذي يسلب من الرواية جزءا حيويا من عناصر بنائها (نقص عنصر المرأة على سبيل المثال)، دفع بالروائيين الى ايجاد "حيل" فنية لغرض التغلب على نقص الواقع، في مجتمع رجولي عظيم الكلية. لذلك ظهرت الخيّاطة الفرنسية ماريانا، التي سهّلت لقاء همام وسارة في رواية "سارة" لمحمود عباس العقاد. وظهرت الخيّاطة ماري وابنتها فيكي- عائلة "خواجات أجنبية"- اللتان سهّلتا لأمينة سبل لقائها بشبان غرباء في "أنا حرة". وفعلت سانتي اليونانية الأمر نفسه في "البيضاء" ليوسف ادريس، وكثرت مشاهد الزواج في قصص الحرب العراقية، على الرغم من مأسوية الحرب وصدامها النفسي والفني مع مباهج الأعراس.
من هذا الباب أيضا دخلت بعض الروايات الى عالم الخؤولة، على الرغم من أن ظاهرة الخؤولة جزء عضوي من مادة الواقع، لها وجود مستقل عن إرادة الكتاب، حالها كحال الخيّاطة ماريانا وفيكي وأمها.
الخؤولة باعتبارها وسطا اجتماعيا واقعيا
فدوى تحبّ شفيق ابن خالها. يتم اللقاء بينهما بعد أن تُكتشف رابطة القرابة، التي كانت سرا حتى نهاية القصة. باكتشاف رابطة القرابة تتآلف أسرتا فدوى وشفيق وتحبط محاولات عزيزة، الرامية الى إبعاد شفيق عن فدوى. هذه خلاصة تامة للسيرة العاطفية لبطل رواية "أسير المتمهدي" لجرجي زيدان. لا تذهب هذه الرواية بعيدا في التاريخ كما عوّدنا زيدان، وإنما تتحدث عن ثورة المهدية في السودان وثورة عرابي في مصر، وهي الحقبة التي عاشها زيدان أو رأى امتداداتها، وكان شخصيا شاهدا حيّا على بعض أسرارها، فقد  رافق الحملة الإنكليزية على السودان مترجما.
لا نريد أن نتوقف طويلا عند نص زيدان الحكائي، لأن المفصل الشخصي في حكايات زيدان لا أكثر من وسيلة فنية، هدفها عرض المادة التاريخية. بيد أن حقيقة كون الرواية معاصرة، وليست تاريخية، يرغمنا على أن  ننظر الى موضوع الحب باعتباره مادة حياتية، تستند الى أسس واقعية، كان زيدان ينشد رسمها ونقلها. فالحب هنا، بصرف النظر عن مستواه الفني وغاياته وسبل تنفيذه سرديا، جزء من واقع معاصر مفترض. بهذا النص يكون زيدان (1861 - 1914)، الذي توفي في العام نفسه، الذي ولدت فيه أول رواية عربية تحتوي على الشروط الفنية الروائية المقبولة، "زينب"، سبّاقا في تسجيل ظاهرة الخؤولة، ويكون فن الرواية شاهدا أدبيا يتولى مبكرا تسجيل وجود الظاهرة اجتماعيا، والافادة منها فنيا.
بين تاريخ ظهور "أسير المتمهدي" وحقبة ثبات أقدام فن الرواية عربيا في مطلع الخمسينات، ظهرت أعمال روائية كثيرة تناولت الخؤولة تناولا عارضا وعفويا أحيانا ومقصودا في أحيان أخرى. بيد أن اللافت أن الكثير من الروايات، التي شكلت علامات فارقة لأصحابها في الممارسة السردية العربية، اعتمدت اعتمادا كليا، يكاد أن يكون لازما، على تناقضات موضوع الخؤولة. فقد استخدم المازني هذا الموضوع كمدخل ضروري، وبيئة لا غنى عنها، في روايته "الدكتور ابراهيم" (1931). وربما تكون الضرورة أعظم في أهمّ روايات إحسان عبد القدوس، وأكثرها إثارة للجدال "أنا حرة" (1954 نشرت في كتاب، ونشرت مسلسلة في "روز اليوسف" عام 1953)، ولم تكن تناقضات ظاهرة الخؤولة أقل ضرورة في أكثر روايات يوسف السباعي شهرة وعاطفية "إني راحلة" (1950). كانت عاطفة الخؤولة وملابساتها الأخلاقية الشائكة جزءا من مكائد  الحياة ومن التباسات شخصية كامل في أول رواية نفسية عربية مكتملة النضج لنجيب محفوظ "السراب" (1948).
وإذا أردنا مواصلة ربط أهمية العمل الروائي بهذه الظاهرة استطعنا الامتداد الى الجزائر فنجدها في قلب أبرز روايات الأديب الجزائري كاتب ياسين" نجمة" (1956)، وفي أهم روايات الأديب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة "ريح الجنوب" (1970)، كما نجدها في أبرز روايات الأدب العراقي "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي (1988).
لا يستطيع المرء ايجاد مغزى خاص موثوق به يشرح أسباب استخدام جرجي زيدان موضوع الخؤولة للربط بين فدوى وشفيق، سوى شروط اللعبة الفنية التي تقتضيها الحكاية. وعلى الرغم من كون هذه اللعبة نسيجاً خيالياً، إلا أنها نسيج يستمد جذوره من واقع اجتماعي محدد. الى أي مدى تعكس الفكرة الفنية خصائص الواقع؟ هذا أمر لا تسهل الإجابة عنه، من دون دراسة معمقة وشاملة لأوجه استخدام الظاهرة في بيئاتها الاجتماعية المختلفة.
الخؤولة: لعبة عارضة
في غير عمل روائي، من بيئات عربية متنوعة، استخدم الروائيون رابطة الخؤولة كوسيلة عارضة من وسائل المزاح والعبث أو التضليل البريء وغير البريء. ففي رواية "قصة حب" ليوسف ادريس، من مجموعة "جمهورية فرحات" (1956) تتخلص الشخصية القصصية من إلحاح صديقها القديم، من طريق اختراع كذبة "بيضاء"، قوامها رابطة الخؤولة: "دول جماعة قرايبيني ومدعويين... أيوه مدعويين في فرح... فرح ابن خالي... زميلي في المدرسة... دا كان عفريت قوي معرفش أيه اللي خلاه يتجوز" (ص 194). وتستخدم شخصيات إحسان عبد القدوس رابطة الخؤولة لأغراض التسلية العاطفية أو المكائد، وهذا ما نراه في "البنات والصيف"، وفي "لا أنام". وتستخدم رباب في "السراب" لنجيب محفوظ موضوع بيت الخال لأغراض غير بريئة، لتغطية خيانة عاطفية مع قريب من أقرباء الأم، وتتكرر الكذبة في رواية "بان الصبح" لابن هدوقة، حينما تستخدمها دليلة لغرض العبث والدعابة، وتستخدمها اقبال بركة على طريقة احسان عبد القدوس الساذجة في "ليلى والمجهول" لتبرير سبب حصول ليلى على هدايا من عشيقها قيس، واستخدمتها هيفاء زنكنة أيضا.
بيد أن هامشية تلك الأحداث وعرضيتها لا تلغي أنها استخدمت رابطة الخؤولة لتبرير سلوك له صلة ما بموضوع الجنس أو العلاقات العاطفية. كيف حدث هذا الاتفاق؟ ولماذ يتم الربط بين الخؤولة والجنس حتى في المكائد والتسلية والأكاذيب؟
أخطار الخؤولة وأسرارها
إذا كان الاستخدام العارض لروابط الخؤولة وسيلة فنية مساعدة، هدفها إشاعه جو من المكر أو المرح أو المتعة في نفوس الشخصيات القصصية وفي المناخ العام للنص الروائي، فإن استخدام الخؤولة هدفا مدركا ومقصودا يجعل من هذه الرابطة الأسرية أقوى  من كونها رابطة دم، وأبعد من كونها علاقة مشروعة اجتماعيا في وسط اجتماعي مغلق. إن مثل هذا الاستخدام يغدو حال ممارسته قوة خطيرة في مراميها الأخلاقية والسلوكية والنفسية؛ ويضاعف ارتباط هذه العلاقة بالجنس من تناقضات هذا الموضوع وأبعاده وآثاره على سلوك الشخصيات والبناء العام، العقلي والفني، للعمل الأدبي.
في وقت مبكر من عمر الرواية العربية قام المازني بمحاولة فنية جادة، ومبتكرة، لوضع الشخصية الروائية في موضع الفعل المؤثر والنشيط، فقرر في روايته "الدكتور ابراهيم" (1931) أن يدفع الشخص الرئيس في الرواية الى إظهار سلوكه ونشاطه العاطفي في بيئة منتخبة، بعدما عجز عن تحقيق نجاح عاطفي خارج تلك البيئة. كان المكان المنتخب من المازني هو بيت الخالة، الذي يضم بنات الخالة، المؤهلات بحكم السن والقرابة لتجريب مقدراتهن وحظوظهن العاطفية. هل أراد المازني بهذا التدبير، أن يجاري الحرية العاطفية، التي مارسها ميخائيل ارشيباشيف في "سانين"، حينما عاد المؤلف بسانين الى القرية، لكي يجعله قادرا على ممارسة تجاربه العاطفية بوضوح أكبر في بيئة القرية المغلقة والصافية؟
في هذه الرواية المبكرة يجد القارئ أحد أوضح الايضاحات، التي سعت الى وضع حدود للحرية التي تخلقها رابطة الخؤولة وتشخيص ما هو محرم ومباح فيها. صاغ المازني أفكاره تلك في هيئة حوار بين ابراهيم وسميحة ابنة خالته، التي سعت الى إغوائه.
تقول سميحة: "ماذا جرى لك يابن خالتي تتركني واقفة انتفض من البرد؟". و"أدرك ابراهيم أن لا شيء هناك يدعو الى القلق على أحد، وساءه هذا السلوك من سميحة، وخيّل اليه أن وراءه غرضا تتعمده وخاف ما قد يجر اليه سماحه لها بالدخول في مثل هذا الوقت من التأويل والتخريج..." (ص116).
تقول سميحة: "ولكن أي ضير في حضوري وأنت ابن خالتي كأخي؟" (ص117). يجيب ابراهيم: "هذه الزيارة في الليل- بعد منتصف الليل – يسهل جدا ان تعدّ خلوة مدبرة، وأنت تعلمين أني بريء من ذلك ولا يد فيه. وتعلمين أيضا أنه ليس بيني وبينك أكثر من القرابة التي لا تجيز لك توريطي في مثل هذه المواقف التي لا أرتاح اليها ولا أستطيع احتمالها. ثم أنك في قميص النوم أيضا كيف أنظر اليك حتى لو كنت أخاك؟ وماذا يقول الشيخ علي (أبوها) لو يعلم؟" (ص118).
كان انتخاب بيت الخالة وسيلة وهدفا في الوقت عينه، وربما كان وسيلة فنية أكثر من كونه مادة سردية وحكاية، لكنه وسيلة سردية ضرورية، لا غنى عنها، الى الحد الذي لا يمكن أن تقوم للقصة قائمة من دون وجودها. فالخؤولة هنا حل فني، سردي، وحل اجتماعي موضوعي. مثل هذه البيئة المنتخبة والنموذجية ظهرت في رواية "الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، ولكن بعدما غيّر التكرلي الأدوار التي رسمها المازني لشخصياته. فبدلا من أن تكون شوشو وسميحة في مواجهة ابراهيم ابن الخالة، جعل التكرلي منيرة في مواجهة ابني عمتها.
بعد عقدين من هذا التاريخ أراد إحسان عبد القدوس أن يمارس اللعبة نفسها، ولكن بالمقلوب. لأن حقبة المازني كانت تجعل من التحرر مطلبا رجاليا بدرجة أساسية، أمّا حقبة الخمسينات فقد أدخلت المرأة عمليا ضمن مشروع التحرر، فأخذ يتوالى ظهور الشخصيات النسوية الساعية الى ممارسة الحرية الاجتماعية، وفي مقدمتهن سوسن في "السكرية"، ثم فوزية في "قصة حب". لذلك أراد عبد القدوس للمرأة، وليس للرجل، أن تلعب دور الفاعل في النص الروائي، وأن تمتلك قدرا من الانعتاق الأسري والاجتماعي يمكّنها من تجريب اختباراتها العاطفية والاجتماعية، بحرية نسبية، فلم يجد عبد القدوس في "أنا حرة" أفضل من بيت العمة، لهذه المهمة. وهذا يعكس انقلاب الأولويات الاجتماعية تاريخيا في الوعي العام، بما فيه الوعي الفني. وعلى الرغم من صرامة زوج العمة، إلا أن ابنه ظل ينظر الى هفوات ابنة خاله أمينة بعين التسامح، مانحا إياها فسحة مقبولة من الحرية، مكّنتها من أن تستكمل شطرا من فصول الرواية بيسر. كانت جرأة أمينة مغلفة ومحاطة بجرأة من اختار لها الموضوع النموذجي لممارسة الجرأة، ومسوّرة فنيا بوعي من ابتكر لها سبل تحقيق تلك الجرأة في الواقع.
أمّا مهمة كاتب ياسين فكانت أكثر تعقيدا اجتماعيا وسياسيا وفنيا في "نجمة". كانت نجمة، كغيرها من نساء الشرق، تعاني من ضيق أفق الحرية. بيد أن أعباء النص ازدادت تعقيدا حينما وضعها الكاتب في مناخ سياسي وطني لا يقبل المساومة أو المراهنة أو الثلم، ووضعها في موضع عقلي لا يقبل الصدع حينما أراد تصعيدها الى مستوى الرمز، الذي يتماهى مع الأرض المحتلة أو الوطن. وازدادت المعضلات حينما لجأ كاتب ياسين الى أسلوبية سردية تقترب من ضفاف الشعر. هنا، كان لا بدّ لنجمة أن تجد بيئتها الأكثر نموذجية لتحقيق كل تلك الشروط التعجيزية. ولم يكن هناك مهرب أمامها، وقبلها أمام كاتب ياسين، سوى رابطة الخؤولة. كان مراد، الذي شغف بنجمة وعاشرها سريريا وهي تحت عصمة كامل، هو ابن خالها. بيد أن الناس (المجتمع والسارد) الذين أكدوا رابطة الخؤولة تلك بصريح العبارة، عادوا ينسجون الروايات المتضاربة حول هذا النسب، فمنهم من رأى أن أم نجمة هي الفرنسية التي عاشرها آباء أبطال الرواية، حتى أضحى هذا النسب لغزا يضيف الى شخصية نجمة مزيدا من التعقيد والإيحاء والمغازي والغموض الإيجابي.
بعد هذا التاريخ بعقدين أراد بن هدوقة أن يعيد رسم المشهد الاجتماعي، ولكن في زمن آخر. حينذاك لم تعد الأرض مستعمرة، ولم يعد الشعر نافعا للبناء السردي، ولكن العواطف والرمز والدلالات المستخلصة من الواقع ظلت هدفا رئيسا. ففي "ريح الجنوب" يعيد ابن هدوقة الفتاة الشابة نفيسة الى القرية لتواجه مشكلة الحرية الجديدة، حرية مرحلة الاستقلال المطوقة بالتقاليد المتزمتة وبالجشع والأنانية الطبقية. كانت عودة نفيسة خطوة مرتبة ترتيبا صداميا نموذجيا من الروائي. لعب ابن هدوقة لعبة عبد القدوس مع أمينة، ولكن بعدما قلب مسارها رأسا على عقب. فنفيسة التي عادت الى القرية وتناقضاتها القاتلة مرّت بتجربة الأمان وفسحة الحرية: بيت الخالة. فقبل أن يستدعيها أبوها الى القرية كانت تعيش وتدرس في مدينة الجزائر، في بيت خالتها. وفي هذه البيئة حصلت على جرعات الحرية الثلاث: المدينة في مواجهة القرية، التعليم في مواجهة التخلف الثقافي، وبيت الخالة في مواجهة تسلط النظام الذكوري، في هيئة أب قاس جشع، أو في هيئة مفاهيم إجتماعية أبوية متزمتة، خالية من الأمان والرحمة. لكن ابن هدوقة، عاد في رواية "بان الصبح" ووضع نعيمة في بيت العم لا في بيت الخالة أو العمة، حينما وفدت الى مدينة الجزائر فدخلت من فورها في طوق محكم قوامه التزمت الديني الشكلي للعم والعلاقات الروحية الفاسدة لأبنائه. كانت شرور السلطة الأبوبة تطارد نعيمة البريئة وتطلق عنان التفسخ لأبناء العم: دليلة ومراد. هل أراد ابن هدوقة هنا، بهذا الترتيب العائلي الصارم، أن يقول لقارئه إن بيت الخالة في "ريح الجنوب" هو حاضنة نفسية ونافذتها الى الأمل الأمان والحرية، أمّا بيت العم في "بان الصبح" فهو البيئة النموذجية الحاضنة للخطر المحتمل والاحتيال على الحرية والتزمت الأبوي الزائف؟
على هذا الدرب سار كثيرون، بعضهم سار شوطا طويلا، ومنهم من مرّ مرورا عابرا. رسمت الخؤولة ظلالا كثيفة على مخيلة الكاتبات العراقيات، نجدها لدى عالية ممدوح، ونجدها عند هدية حسين في روايتها "ما بعد الحب" (2003)، التي اتخذت من موضوع الخؤولة مرجعية عاطفية لبناء علاقة حب جديدة على أنقاض علاقة سابقة مع ابن الخالة. لبثت تلك العلاقة تفعل فعلها في نفس المهاجرة العراقية، التي فقدت الاتصال بحبيبها وابن خالتها، فتقبلت الانتقال التدريجي الى حبيب جديد، من وطن آخر. وكان بيت الخالة أيضا الملجأ الذي دفعت بتول الخضيري بطلتها اليه في روايتها "غائب". وفي رواية "العيون السود" ترسم ميسلون هادي صورة نموذجية لموقع روايتها: فخّها. فمنذ السطور الأولى للرواية، تقوم ميسلون بتهشيم عائلة يمامة ولا تبقي لها شيئا؛ حتى صور أفراد العائلة تبدأ بالتساقط من الجدران، تاركة خلفها فراغات لونية تذكّر بالمحو والضياع، ولا يتبقى ليمامة سوى ملجأ الحنان والتسامح العراقي الوحيد والأثير: الخالة. لماذا يحدث هذا؟ ما الذي يجذب العراقي نحو هذا الفخ المزدوج، الجميل والمرعب: ملجأ الحنان والحماية ومصدر الضربة القدرية القاتلة؟ لماذا يجسد بيت الخؤولة مصير العراقيين المتناقض الدائم: البحث عن الأمان المفقود وتلقي الطعنة المباغتة الأكيدة؟
اتخذ يوسف القعيد من بيئة الريف المصري وتقاليدها الأسرية مسرحا لنمو العلاقة العاطفية بين بركات وابنة خاله عظيمة في روايته "وجع البعاد". وظهرت علاقات عابرة، لكنها ذات دلالة قوية كمرجعية نفسية في رواية لطيفة الزيات "الباب المفتوح" (1960 ). خاضت ليلى تجربة عاطفية مبكرة مع ابن الخالة ظلت مطبوعة في وعيها. ففي هذه الرواية تستقبل ليلى أولى الملامسات الجسدية من ابن خالتها عصام، وحينما تستنكر ذلك يدهشها موقف أبيها المتسامح: "عصام، هو عصام غريب، عصام ابن خالتك... هي ليلى حتتغطي على ابن خالتها"، "معلهش عصام منا وعلينا". ولم يفت الروائي العراقي علي بدر أن يستخدم ظاهرة الخؤولة في مغامراته الروائية الماهرة، فجعل ادمون القوشلي في رواية "بابا سارتر" ينقلب من الوجودية الى التروتسكية تحت تأثير حبه لنادية ابنة خالته. ويتخذ سلام ابراهيم في روايته "الارسي" من مخبئه موقعا لرصد حركة ابنة عمته. فحينما تكون ابنة العمة في أحضان زوجها، رجل الشرطة، يكون ابن خالها الهارب من ملاحقات الشرطة مشغولا بمراقبة المشهد الجنسي وهو قابع في ظلمة المخبأ. وكثيرا ما يختلط وجود رجل الشرطة بالعلاقات الجنسية والعاطفية في الأدب العراقي، وهذا ما نجده لدى هيفاء زنكنة في "مفاتيح مدينة"، وعالية ممدوح في "الغلامة"، و"اللاسؤال واللاجواب" لفؤاد التكرلي.
الحرية: مصيدة الساحرات الخبيثات!
كانت عودة نفيسة الى القرية فخّاً محكما نصبه ابن هدوقة، لكي يصطاد به حرية نفيسة النسبية التي وهبتها إياها المدينة والعلم وبيت الخالة. مثل هذا الفخ نصبه الأديب المصري يوسف السباعي لبطلته عايدة في روايته العاطفية "إني راحلة".
لم تكن عايدة تعاني ما عانته نفيسة. فهي متعلمة، من أسرة ثرية، تمتلك فسحة من الحرية النسبية، التي تحظى بها عادة بنات القصور والمدن الكبيرة. كانت أزمة عايدة عاطفية واجتماعية ونفسية. وكان لا بد أن تجد حلا فنيا وأخلاقيا ملائما. ولم يجد السباعي سوى رابطة الخؤولة حلا.
ولكن لماذا رابطة الخؤولة؟ عن هذا تجيبنا عايدة، صاحبة الشأن، فهي أدرى من الجميع بظروف حياتها: "قد يقول قائل: وماذا في ذلك؟ (اللقاء بابن الخالة في البيت) وأي عيب في أني أجلس مع ابن خالتي؟ ولست أشك في أنه هناك عيب، وان أبي رغم صرامته وقسوته، لو رآني جالسة معه لما أثار ذلك في نفسه أي إحساس بتبرم أو غضب، فما أظنه يحرم عليّ الجلوس مع ابن خالتي المعروف بهدوئه وحسن خلقه" (ص 32)، وكانت علاقتها الروحية بأحمد ابن خالتها أقوى من علاقتها بزوجها: "أحمد هو زوجي الحقيقي هو زوج روحي وتوأم نفسي. لقد عقد المأذون زواجي على تهاني (اسم الزوج) عقدا بين الأجساد، أما عقد القلوب والأرواح فقد كان بيني وبين أحمد من قبل ذلك بزمن طويل" (ص 140)، لذلك لبثت عايدة تناضل ضد شياطين الخطيئة: "يجب أن أصون نفسي وروحي من الاندفاع نحو الخطيئة" (ص 140)، بعدما فكرت مرة في خيانة زوجها نكاية فيه، لكنها امتنعت إخلاصا  لأحمد، صانعة لنفسها مقياسا شديد الغرابة للشرف: "لا يهمني أن أكون شريفة من أجل زوجي ولكن من أجل أحمد".
مرّت بطلة "الأجنحة المتكسرة" بمثل هذه المشاعر أيضا، وكانت معاناة زينب في رواية محمد حسين هيكل لا تبتعد كثيرا عن هذا حينما كانت تفكر: "نعم تجده (حبيبها ابراهيم) وتعطيه نفسها وتذوق وإياه تلك اللذة التي ذاقت من قبل ولذة الهوى والاستسلام للمحب ما أحلاها!"، لكن زينب تستدرك مثل عايدة قائلة: "ولكنها خيانة وغدر من زوجة يثق بها زوجها" (ص 145).
حينما نتقدم سائرين في التربة العراقية تغدو الألغام الأرضية والروحية أكثر عنفا وضراوة. ففي التربة العراقية، أرضا ونصا، تنقلب المعادلات أقداراً مأسوية رهيبة. ولكن هذا لا يعني أن ما حدث في بقاع أخرى كان خاليا من القسوة. فما يحدث في الجزائر نصا وواقعا لا يختلف كثيرا عما يحدث في العراق، ولا يشذ عنه أخلاقيا وسلوكيا. حتى البيئة المصرية الأقل عنفا، لم تمنح عايدة فرصة مقبولة للخروج من مصيدة الشر وللنجاة، فقد ارتحلت عايدة على يد السباعي منتحرة.
وهي نهاية تذكّر بمصير "أنا كارنينا"، وتعزز لدى القراء النابهين نقاط التشابه العديدة بين الروايتين: اللقاء المحرم، خيانة الزوج، سباق الخيل والصدمة، الضابط العاشق، النهاية القاسية.
عند مراجعة موضوع الخؤولة وربطه بالجنس، أي عند وضعه في إطار التحريم والإباحة نكتشف أن رابطة الخؤولة هي أكثر الروابط الأسرية تناقضا ومدعاة لوقوع أفرادها في الخطأ، أو في سوء التقدير، وسوء إدارة معادلة التوازن بين الحرام والحلال، بين المباح والممنوع، بين المقدس والغرائزي. في هذه المعادلات العويصة لم يقع الأفراد الحقيقيون في المجتمع فحسب، بل وقع أيضا راسمو هذه الشخصيات فنيا، ووقع فيها كذلك من يقرأ رواياتهم. إنها ضفيرة معقدة، متشابكة، من سوء الفهم يخلق بعضها بعضا، بطريقة مدهشة. وهذا ما نراه واضحا حينما نتتبع شخصية منيرة في رواية "الرجع البعيد" للتكرلي، التي تتعرض الى حادثة اغتصاب بشعة، تدمر حياتها وحياة أقرب أحبائها تدمير تاما.
ومن المعروف أن التكرلي كان ولوعا برصد العلاقات الشاذة بين المحارم، أما موضوع الخؤولة فظهر في غير عمل روائي لديه. ففي نصه القصصي المبكر "الوجه الآخر" (كُتب في 1956-1957)، وصف درجة قرابة زوجته منه بطريقة لافتة: "امه عجوز مريضة... واختها - ام زوجته- مصابة بالشلل" (ص 18)، وفي روايته الأخيرة "اللاسؤال واللاجواب"، يتزوج بطل الرواية من ابنة عمته، التي أقام معها علاقة عاطفية منذ الصغر وتمناها أبوه (خالها) زوجة لابنه، لكنها تتزوج من رجل آخر، لا يلبث أن يموت فيقرر ابن الخال الاقتران بها، ويتم له ذلك. هذا المصير لا يختلف كثيرا في مساره العام عن مصير نجية الأرملة، ابنة الخالة، في رواية الطاهر بن جلون "المرتشي". على الرغم من أن بن جلون أراد استخدام التباس العلاقة العاطفية، الناشئة من رابطة الخؤولة، وموضوع الحب السابق، والرضاعة المشتركة، وسيلة لخلق إثارة جنسية مفتعلة.
كانت مأساة الخؤولة في رواية "الرجع البعيدة" شاملة، طاردت منيرة مثل قدر مهلك، وتتبعتها من مكان الى مكان، فجعلتها "ذبيحة مجهولة على جانب الطريق". فبعدما عانت من الاغتصاب على يد ابن أختها، حينما سكنت لديهم موقتا في مدينة بعقوبة، أرغمها الروائي التكرلي على الإقامة في بيت عمتها، الذي يضم شابين ناضجين مؤهلين للزواج، ينظران الى ابنة خالهما الجميلة والوحيدة بود خاص، راسمين لها، ولعلاقتهما الممكنة بها، صورة من أزهى الصور. لقد أغرى القربُ الأسري، وجمالُ منيرة، ابنَ الأخت، الشاب الطائش عدنان، الذي أصبح لاحقا عضوا في فرق الموت المسماة "الحرس القومي"، على أن يغتصب خالته، مستغلا ضعفها وقربها ورقتها، التي أوحت وسوّغت وزيّنت له فعل الاغتصاب. بيد أن منيرة لم تتعلم مكائد درس الخؤولة جيدا، لذلك أوقعتها رقة ابن عمتها عبد الكريم وإحساسه المرهف وشدة تعلقه بها في وهم قاتل جديد، جعلها تغامر سرا في داخلها، وتظن سهوا، أنه يمكن أن يغتفر لها هفوة ارتكبت في حقها ظلما. لكن القدر لم يمهلها هنا أيضا. فسرعان ما يطلب الأخ الثاني مدحت يدها للزواج. ولا غرابة هنا أن يستقبل مدحت المثقف فقدان بكارة ابنة خاله كما تستقبل الطعنة القاتلة. لقد منحته منيرة عطبها الجسدي والروحي وعيبها ومأساتها بدلا من أن تمنحه حبها ورمزية دورها المقدس كزوجة وابنة خال وأم. ففي تلك اللحظة غدت منيرة لعنة رهيبة تحيل كل من يلامسها كومة من الملح.
وربما لا يكون مستبعدا أن تكون عالية ممدوح، من دون وعي، قد صححت تلك الهفوة العاطفية المركبّة، التي ارتكبت في حق منيرة من قبل التكرلي وابن الأخت وابني العمة والقدر، فجعلت شخصيتها صبيحة في رواية "الغلامة" تستتر موقتا في حماية خالتها، ثم تصحح خطأها، فتتزوج بابن خالتها شاكر- "مطيرجي" ورجل أمن-  الذي يتناقض معها في المكانة والتوجه والتكوين. ربما أرادت عالية إنقاذ منيرة بمنحها فرصة جديدة للحياة، ولكن بوجه وثوب جديدين، حينما خلقت البديلة صبيحة في هيئة مناضلة سابقة، محبطة، خربة الأعماق. إن ما يعزز هذا الظن، الذي يشبه الوهم، هو أن صبيحة مثل منيرة كانت ضحية للاغتصاب، والأهم من هذا أنهما معا كانتا من ضحايا الاغتصاب الذي مارسه رجال "الحرس القومي"، ولكن في أوقات وظروف مختلفة. أأرادت عالية أن تفعل ذلك؟ ألهذا السبب قامت باغتيال صبيحة، من دون مبرر فني أو عقلي مقبول، سوى الانتقام من مخلوق معذب صنعناه، كشعب، بأيدينا؟ ربما. ألا تحمل تسمية صبيحة ومنيرة الإشراق ذاته، الأولى في النهار والثانية في الليل!
لم يقتصر شيوع رابطة الخؤولة في الأدب العراقي على ما قدمناه من أعمال وأسماء وأحداث، فقد وجدت آثارها في الأدب العراقي المكتوب بأقلام اليهود العراقيين أيضا. ففي رواية "فكتوريا" لسامي ميخائيل يقوم الخال نيسان باغتصاب كيلمنتين، ابنة أخته، وهي في الثامنة من عمرها. ويتخذ نعيم قطان في روايته "فريدة" من بيت العمة موقعا مثاليا تمارس فيه فريدة تجربة الحرية الاجتماعية. وهو موقع شابه الى حد كبير بيت عمة أمينة في "أنا حرة"، وبيت خالة نفيسة في "ريح الجنوب". وينجح حبيبها سليم، حاله كحال مدحت في "الرجع البعيد"، في اقناع فريدة بالزواج منه. لكنه يخسرها أيضا، لا لعطب في جسدها، وإنما لعطب في العلاقات الاجتماعية التي تطوق حياتهما؛ فيضطر مرغما الى تركها في عهدة من هو أقوى منه، بعد أن يعجز عن حمايتها ويعجز عن تلبية شروط الحرية القاتلة، التي كانت تنشد الوصول اليها.

سلام عبود

المصدر: النهار

التعليقات

من بين النصوصو النقدية التي قرأتها، أرشح هذا النص أن يكون أفضلها... من الممتع حقا أن تقرأ نصا لشخص قرأ الكثير من الروايات لكي يخرج لنا بنتيجة تحليلية من هذا المستوى الرفيع. نص جدير أن يكون أطروحة تستحق أن تدرس في مناهج كليات الأدب.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...