أكثر من ليلى وأكثر من قيس في تراثنا العربي

12-09-2007

أكثر من ليلى وأكثر من قيس في تراثنا العربي

لا بد من القول، في البدء، انه ليس هناك اجماع حول هوية كل من «قيس» و «ليلى». هناك أكثر من قيس، وأكثر من ليلى، على خلاف ما هو معروف عن شعرائنا الأقدمين ومحبوباتهم، الذين لا يرقى الشك الى هوياتهم. ففي المظان الأدبية، انه قيس بن الملوّح بن مزاحم، انه قيس بن معاذ العُقيلي، وانه الأقرع بن معان... وقيل أيضاً، كان في بني عامر ثلاثة مجانين: معاذ ليلى، وقيس بن معاد، ومهدي بن الملوّح الجعدي. فأيهم كان قيس؟ ومثل هذا قيل في ليلى.

وفي كتاب «الأغاني» لأبي الفرج اشارة الى الشك في شخص مجنون ليلى. جاء عن أيوب بن عباية: «سألت بني عامر بطناً بطناً عن مجنون بني عامر، فما وجدت أحداً يعرفه». وهناك روايات أخرى تأتي في هذا الإطار. هذا في حين أن ثمة روايات أخرى تفيد بأن حديث المجنون وشعره من وضع فتى من بني أمية «كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون، وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها اليه».

ونحن نعلم أن هناك «ليليات» (جمع ليلى) تشبب بهن رجال، وقالوا فيهن شعراً. لكن «ليلى» بات اسماً رمزياً للمحبوبة، بقدر ما كان اسماً لنساء حقيقيات، من لحم ودم، تم التشبب بهن، وبالوسع ذكر الكثير من الأمثلة على ذلك...

كانت ليلى في تراثنا الأدبي هي الأنثى المحبوبة، المعشوقة، من طرف واحد في أغلب الأحيان. وجُلُّ من قال فيها شعراً كان «مجنوناً». وهذا يدعونا الى الاعتقاد بأن ليلى كائن اسطوري ليليّ، على نحو ما كانت عليه «ليليث» العفريتة في فولكلور الأقوام الساميّة.

ولئن لم تكن ثمة اشارة واضحة في الأخبار المروية حول ليلى صاحبة المجنون بما يوحي انها شخصية أسطورية، أو ليلية، كشأن العفريتات اللواتي يزرن الرجال في منامهم كما كانت تفعل ليليث، إلاّ أننا نجد في هذه الروايات اشارات ليلية ترتبط بليلى، فضلاً عن جنون عاشقها، كما جاء في الخبر الآتي:

قال يونس النحوي: لما اختلط عقل بن الملوّح وترك الطعام والشراب، مضت أمه الى ليلى فقال لها: «إن قيساً قد ذهب حبك بعقله وترك الطعام والشراب، فلو جئته وقتاً لرجوت أن يثوب اليه عقله». فقال ليلى: «أما نهاراً فلا آمن قومي على نفسي، ولكن ليلاً». فأتته ليلاً، فقالت له: «يا قيس ان امك تزعم انك جننت من أجلي، وتركت المطعم والمشرب، فاتقِ الله وابق على نفسك»، فبكى وأنشأ يقول:

قالت جننت على أيشٍ فقلت لها/ الحب أعظم مما بالمجانين

الحب ليس يفيق الدهر صاحبه/ وانما يصرع المجنون في الحين

قال فبكت معه وتحدثا حتى كاد الصبح أن يُسفر، ثم ودعته وانصرفت. فكان آخر عهده بها.

وفي رواية أخرى، انه لما خرج زوج ليلى وأبوها في سفر، أرسلت ليلى بأمَةٍ لها الى المجنون، فدعته، فأقام عندها ليلة فأخرجته في السحر، وقالت له: «سر إليَّ في كل ليلة ما دام القوم سفراً». فكان يختلف اليها حتى قدموا. وقال فيها في آخر ليلة لقيها وودعته:

تمتع بليلى إنما أنت هامة/ من الهام يدنو كل يوم جحافها

تمتع الى أن يرجع الركب انهم/ متى يرجعوا يحرمْ عليك كلامُها

كما اننا نعتقد ان ذكر «الهامة ربما لم يأتِ عفو الخاطر. كانت العفريتة ليليث تقترن بالبوم، وبالبراري والصحارى والخرائب والهامة، في القاموس، نوع من البوم الصغير تألف القبور والأماكن الخربة، وتنظر من كل مكان أينما درتَ دارت رأسها.

وقرأت في الموسوعة اليهودية المطبوعة بالانكليزية: «ويقال ان العرب... يطلقون على ليليث اسم لالاّ Lalla، بصفتها «سيدة مقدسة»، نقلاً عن Schwab...» لكننا لم نجد اسم «لالاّ» في مصادرنا العربية، في حدود اطلاعنا، سوى انها تستعمل في بعض البلدان العربية.

وفي الموسوعة اليهودية، ان شريدر يعتبر ليليث إلاهة الليل. قيل ان اليهود في بابل كانوا يعبدونها. وفي التلمود والمدارس (من كتب تفاسير التوراة) أن ليليث امرأة تُغوي الرجال، طويلة الشعر، وهي ملكة Zamargad، وتهيم في الليل، لتلتصق بكل من تراه نائماً بمفرده في غرفة. ويقرن كوهوت Kohut ليليث بالفارسية بوشيانستا، وهي تقابل «لاميا» عنه اليونان والرومان، وفي التلمود لا ترد اشارة الى ان ليليث هامة.

ولربما كان أقدم جد اشتقاقي أو قرينة لغوية لاسم «ليلى» هو العفريت لِلُّو Lillu، أبو البطل أو الملك جلجامش، الذي ورد اسمه في قائمة ملوك سومر، التي يرجع تأريخها – أي القائمة – الى حدود 2400ق.م. كان للّو أحد أربعة عفاريت من صنف عفاريت الهامة من مصاصي الدماء (دماء النائمين)، أو عفاريت الإغواء (الذكور منها تُغوي النساء، الإناث منها تغوي الرجال). والثلاثة الآخرون هم: ليليتو (وتقابلها ليليث بالعبرية، وليليثا بالآرامية، وفي رأينا ليلى بالعربية)، وأردات للي Ardat Lili أو وصيفة للي، أو للي العذراء، التي تزور الرجال ليلاً وتحمل منهم أطفالاً، وإردو للي Irdu Lili، الذي لا بد أن يكون قرينها الذكر، والذي يُفترض أنه كان يزور النساء فينجبن منه أطفالاً. وتوصف أردات للي بأنها «ليست زوجة، أو أماً، ولم تعرف السعادة، ولم تخلع ملابسها أمام زوجها، ولا يوجد حليب في صدرها»، ويُعتقد انها تورث الرجال العنّة، والنساء العقم. وهناك بلاطة يُعتقد انها تمثلها، تظهر فيها كأنثى ذئب بذنب عقرب تهم بازدراء فتاة صغيرة.

وكانت هذه العفاريت بالأصل عفاريت عاصفة أو رياحاً. ذلك ان كلمة «لِلْ» السومرية، تعني «ريح». ويذهب جُل المعاجم والموسوعات وكتب الميثولوجيا الى ان اشتقاق اسم هذه العفريتة ليليتو، أو ليليث، أو ليليثا، من الليل غير صحيح. وفي هذه الحال، هل العكس هو الصحيح؟ أي هل ان كلمة «الليل» الساميّة مشتقة من اسم «ليليتو» العفريتة؟ أم أن اللفظتين مستقلتان عن بعضهما؟ يصعب القطع في شيء هنا. على ان العلاقة بين «ليليتو» الأكدية، أو «ليلاكة» السومرية، والريح، واضحة لغوياً، كما مر بنا قبل قليل.

ان الإشارة، منذ أيام سومر، الى ان ليليتو تأوي الخرائب والأماكن المهجورة ربما تأتي دليلاً على اقترانها بالبوم. وفيما بعد كانت ليليث تُصوَّر على أنها كائن ليليّ، تمارس نشاطها في الليل، تماماً كالبوم.

ان هذا كله يدعونا الى الاعتقاد بأن (ليلى) شخصية أسطورية في الأصل، لعلها هي ليليث الساميّة، وليلاكة السومرية، التي كانت تُغوي الرجال، كما تقول الأساطير. وفي ما بعد اتخذت هيئة بشرية من لحم ودم في شعر المدعو قيس بن الملوح، أو مجنون ليلى، وآخرين ممن تغنوا بالمرأة بهذا الاسم، أي بليلى.

ولا أحسب أن هذا التفسير سيخدش مشاعرنا القومية، أو يهز اعتزازنا بواحدة من أجمل مروياتنا الأدبية القديمة. ان التأويل الذي تذهب اليه هذه الكلمة لن يثلم شيئاً من ذلك، سوى انه يقدم تفسيراً للحذفية التي تقوم عليها قصة مجنون ليلى. وهو رأي لا أصرّ عليه، على أية حال، لكنني أراه جديراً بأن يؤخذ بالاعتبار.

علي الشوك

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...