بين كافكا وبورخيس

11-03-2011

بين كافكا وبورخيس

نعلم أن الكاتب الارجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس "1899-1986" كان على معرفة عميقة وواسعة بآداب وثقافات العالم في مختلف الحقب والعصور. وهذا ما تعكسه آثاره الابداعية ودراساته النقدية.

وكانت بين هذا الكاتب الموسوعي الذي كان يتقن لغات متعددة مثل الفرنسية والانجليزية والالمانية، وبين العديد من الشعراء والكتاب والفلاسفة والعلماء وشائج وصلات لم ينقطع عن الحديث والكتابة عنها حتى نهاية حياته. وكان فرانز كافكا "1883-1924" واحدا من هؤلاء. ويعتقد بورخيس أن صاحب رائعة المحاكمة قد يكون تأثر بزينون الايلي "القرن الخامس قبل الميلاد" والذي كان من أصول فينيقية غير أنه كتب باليونانية وكان ارسطو قد جعل من هذا الفيلسوف مؤسسا للجدل. وتعتمد فلسفته على انكار الحركة، وتناقض النتائج التي تتضمنها. وقد كتب عنه الفيلسوف الالماني الكبير هيغل يقول: "يذكر أرسطو أن زينون نفى الحركة لأنها تتضمن تناقضا باطنا.الكاتب الارجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس

ولكن لا يجوز أن نفهم من ذلك أن الحركة لا وجود لها على الاطلاق. كما عندما نقول: توجد فيلة ولا توجد كراكد. فإما أن الحركة موجودة، وإما أن لهذه الظاهرة وجودا. فليس هذا مدار المسألة. فالحركة من معطيات اليقين الحسي مثلما أن للفيلة وجودا. وبهذا المعنى لم يخطر ببال زينون أن ينفي الحركة، وانما المسألة بالأحرى مسألة حقيقتها، فالحركة غير حقيقية لأنها تناقض".

وعن العلاقة بين زينون الايلي وفرانز كافكا كتب بورخيس يقول: "لقد أخذ كافكا تناقض زينون الايلي وجدّده بطريقة محزنة ومثيرة للعواطف. غير أن القيام بمثل هذا العمل أمر صعب للغاية. وحده كافكا فعل ذلك. الجميع قرأوا زينون الايلي غير أنه لا أحد كتب "المحاكمة" أو "القصر" مع ذلك فإن طريقة العمل "الاوالية" هي نفسها. ربما لهذا السبب لم يرغب كافكا في اصدار كتبه. فنحن نشعر ونحن نقرأه أنه لا نهائي.."

ويروي بورخيس أنه اكتشف فرانزكافكا عام 1917، وكان آنذاك في الثامنة عشرة من عمره وكان قد تعلم الالمانية وأقبل على قراءة شعراء وكتاب وفلاسفة هذه اللغة.
وفي مجلة أدبية رفيعة المستوى، كانت تنشر نصوصا للتعبيريين الالمان خلال الحرب الكونية الثانية.

ومن خلال تلك المجلة، أدرك بورخيس أن أدبا جديدا بدأ يولد وينتشر في كل من المانيا والنمسا. وذات يوم، قرأ في تلك المجلة نصا لكاتب كان يجهله من قبل، وكان يدعى فرانز كافكا. غير أن النص لم يعجبه كثيرا. وصحيح أن اللعب بالكلمات، والصور الشعرية، وحداثة الأسلوب واللغة، وكل هذا فتنه، غير أن النص بدا له باهتا وغير ذي قيمة. لذلك تساءل بعد أن قرأه: "ولماذا نشر هذا الكاتب المدعو فرانز كافكا مثل هذا النص؟".

وفي ما بعد سوف يجد في حكاية كانت ترويها له جدته التي من أصول انجليزية ما ساعده على تبيّن الخطأ الذي ارتكبه تجاه ذلك النص.. وقد كتب في ذلك يقول: "كانت جدتي قد أقامت ثلاث سنوات في مدينة كيوم "CIUM" التي تقع غرب بيونس ايرس، عاصمة الارجنتين. وبعد تلك المدينة بمسافة قصيرة، تبدأ السهول المعشوشبة التي يعيش فيها الهنود والذين كانوا يعيشون تحت الخيام، ويتنقلون من مكان إلى آخر.

وكان البعض من أولئك الهنود يتردّدون على مدينة كيوم لقضاء بعض حاجياتهم، ورغم بساطة تلك المدينة، وخلوها من المظاهر المعروفة التي تتميز بها بقية المدن، فان الهنود كانوا يشعرون بالدهشة والذهول وهم يسيرون في شوارعها. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب. فقد كان أولئك الهنود يجدون فيها أشياء يجهلونها تماما مثل المقاهي، والبيوت التي تحتوي على عدة غرف والكراسي والاسرة والمرايا وغير ذلك.

وكل هذه الأشياء كانت تبدو لهم غريبة. مع ذلك لا تستمر دهشتهم طويلا. فسرعان ما يتعاملون مع تلك الأشياء وكأنها غير موجودة ولا تعنيهم أصلا". ويرى بورخيس أن هناك تفسيرين لذلك، الأول هو أن الهنود بدائيون غلاظ ليس باستطاعتهم إدراك قيمة مثل تلك الأشياء. أما التفسير الثاني والذي يميل إليه بورخيس هو أن البيت، والنافذة والباب، وكل ما كانت تحتويه مدينة كيوم في الثمانينات من القرن التاسع عشر، كانت أشياء جديدة بالنسبة للهنود، غير أنهم لم يكونوا يرونها.

وكانت لامرئية بالنسبة إليهم. وهذا ما حدث تماما لبورخيس وهو يقرأ نص كافكا في المجلة الالمانية إذ أنه لم ينتبه إلى خفاياه، ولا إلى عمقه، لانه كان جديدا بالنسبة إليه. لذا كان لابد أن يمر وقت طويل لكي يكتشفه اكتشافا حقيقيا.

وكان فرانز كافكا قد ولد في الحي اليهودي بمدينة براغ. وتعكس جلّ أعماله العديد من التأثيرات اليهودية، سواء كانت دينية أم غيرها. وفي الفترة التي بدأ فيها يكتب قصصه ورواياته، كانت حركة التجديد في الآداب الاوروبية تشهد تناميا ملحوظا. فقد كان جويس منكبا على كتابة عمله الذائع الصيت "اوليسيس".

وكان الشاعر الايرلندي ويليام بتلريتس يخوض مغامرة جديدة مع اللغة، ومع الصور الشعرية. وكانت هناك تجارب جديدة في مجال الرسم والفنون تتشكل بصورة مدهشة في العديد من العواصم الاوروبية. ومن المؤكد ان فرانز كافكا كان قد تأثر كثيرا بمثل تلك المناخات الادبية والفكرية والفنية الجديدة، وبها تغذى. وخلال الحرب الكونية الثانية، عاش فرانز كافكا أوجاع تلك المرحلة العصيبة في تاريخ اوروبا، وشاهد الناس يجوعون ويتعذبون ويواجهون الموت يوميا. ويرى بورخيس أن تلك الأحداث الاليمة تركت بصماتها في أعماله القصصية والروائية. وقد عبّر عن ذلك من خلال طرق لم تكن معهودة حتى ذلك الحين..

وقد كتب بورخيس عن ذلك يقول: "اجمالا، يمكن القول أنه لا يوجد في الأدب العجائبي غير شيء عجيب واحد. ففي رواية "الرجل اللامرئي" لوالس "WELLS" نحن نجد أنفسنا أمام رجل يومي، غير أنه لا مرئي. وفي "جزيرة الدكتور مورو" هناك حيوانات تتحول إلى كائنات بشرية. وفي "الآلة التي تتسلق الزمن" هناك آلة بامكانها أن تسافر باتجاه المستقبل أو باتجاه الماضي.

أما ما تبقى فكله يومي عمدا. أما عند كافكا فكل شيء عجائبي حتى أنه ليس باستطاعتنا أن نفصل بين ما هو حقيقي وما هو عجائبي".

ويضيف بورخيس قائلا: "أنا على يقين من الأمر التالي: بعد مائتي سنة، يمكن للانسانية أن تنسى الظروف التاريخية التي عاش فيها كافكا، والتعبيرية التي تأثر بها كثيرا، والتي أثرت في مجمل الآداب الاوروبية. كما يمكن أن تنسى الانسانية الحرب الكونية الأولى، غير أنها يمكن أن تتقبل عالم كافكا. ومثلما هو الحال بالنسبة لشكسبير أو دانتي، سوف تجد الانسانية في نصوصه العجائبية تفسيرا لأوضاعها وأحوالها. لذلك أنا على يقين من أن أعمال كافكا ستظل خالدة إلى الأبد".

وعن تأثير كافكا عليه، كتب بورخيس يقول: "عندما كتبت "مكتبة بابل" و"يا نصيب بابل" حاولت جاهدا أن أكون كافكا. غير أنني لم أفلح في ذلك. لذلك خضعت لأمر أن أظل بورخيس. لكن أن أكون بورخيس فان هذا يعني أيضا أن أكون إلى حد ما كافكا إذ أن كل كاتب يتحدث عن الآخرين. وما يفعله مدعيا أنه جديد تماما، ليس صحيحا، كل شيء كتب، وكل القصائد يمكن أن تكون نفس القصائد التي كتبت من قبل. وما يستطيع الكاتب أو الشاعر أن يقوم به هو أن يحدث تنويعات جديدة أخرى".

حسونة المصباحي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...