نيكولاس ميكيافيلي أسس مبدأ سياسيا بعيد عن المثالية

31-10-2010

نيكولاس ميكيافيلي أسس مبدأ سياسيا بعيد عن المثالية

تعتبر إيطاليا مهد الحضارة الأوروبية، بل محطة إقلاع الفكر من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة ففي هذه المرحلة كانت إيطاليا منقسمة إلى ولايات وإمارات وجمهوريات صغيرة، وكان الرابط الأساسي الذي يجمعها هو العداء والحروب، وكان يسيطر على عدد كبير من هذه الولايات حكم القرصنة والقوة .

رغم ذلك فقد ظهرت في هذه الفترة عدة أعمال لمجموعة من المفكرين الذين حاولوا الهجوم على التقاليد، ومحاولة إرساء معالم فكر جديدة، نذكر من هم شاعر فلورنسا دانتي أليغييري "1 يونيو 1265م - 14 سبتمبر 1321م"، الذي نادى بضرورة الترويج للغة الإيطالية من خلال عمله الشهير الكوميديا الإلهية وفي سنة 1889 م تأسست جمعية دانتي أليغييري لتواصل الترويج للغة الإيطالية باسمه.

في هذه الأجواء ولد نيكولا ميكيافيلي في فلورانسا 3 مايو 1469 وتوفي في فلورنسا 21يونيو 1527، من عائلة عرفت بحنكتها في المجال السياسي، خصوصا وأن إيطاليا كانت محط أطماع كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا وسويسرا من جهة، ومن جهة أخرى كانت إيطاليا تحت سيطرة الراهب الدومينيكي سافونا رولا " 21سبتمبر 1452 – 23 مايو 1498" الذي اتسمت مرحلة حكمه بإراقة الدماء وقتل الكثيرين .

وبعد إعدام سافونا رولا وحرق جثته بمدينة فلورنسا، واستيلاء لويس الثاني عشر ملك فرنسا على الحكم في إيطاليا، وبعد أن تقلد تشيزري بورجيا قائد قوات الأساقفة بمدينتي فورلي وإيمولا، إستطاع نيكولا ميكيافيلي الحصول على منصب مستشار للشؤون السياسية في فلورنسا، وهو في سن التاسعة والعشرون، وظل يشغل هذا المنصب حتى سقوط فلورنسا عام 1512 في يد عائلة ميدتشي.

كانت مهمته تقييم مراسلات الجمهورية والرد عليها في رئاسة البعثات الدبلوماسية . وفي هذه الفترة عرف عن ميكيافيلي الذكاء الخارق في التعامل مع المراسلات وحسن التعليق عليها، لدرجة أن الإثني والخمسين تقريرا التي أرسلها من معسكر بورجيا عام 1502م تعتبر لحد الآن مرجعا أساسيا للسياسيين ومعلمة بارزة في فكره السياسي.
لاحظ ميكيافيلي أثناء إقامته في معسكر القيصر بورجيا ما قام به هذا القيصر من مكر وخداع وخيانة وقسوة في سبيل استتباب حكمه. ولقد اشتهر بأن ميكيافيلي استلهم من شخصيته صورة الأمير.

وبسقوط النظام الجمهوري قضي على ميكيافيلي،وعودة أل ميدتشي إلى الحكم، تم نفي ميكيافيلي إلى إحدى القرى بفلورنسا وعدم السماح له بمغادرتها أو الاقتراب من مقر الحكومة. ومن هنا بدأ مشروعه الشهير في السياسة الذي سمي ب "الأمير".

نظرية ميكيافيلي السياسية
إن ما يميز فكر ميكيافيلي السياسي هو محاولة وضع صورة لمبدأ سياسي بعيدة عن التصورات المثالية، وأكثر واقعية بل – بمعنى من المعاني – واقعية خالصة، وتظهر واقعية ميكيافيلي السياسية في عبارته:
"ولكن لما كان قصدي أن أكتب شيئا يستفيد منه من يفهمون، فإنى أرى أنه من الأفضل أن أمضي إلى حقائق الموضوع بدلا من تناول خيالاته، لا سيما أن الكثيرين قد تخيلوا جمهوريات وإمارات لم يكن لها وجود في عالم الحقيقة وأن الطريقة التي نحيا فيها تختلف كثيرا عن الطريقة التي يجب أن نعيش فيها..." "نيكولا ميكيافيلي – الأمير – الباب 15-ص135-".

يتضح أن ميكيافيلي يوجه انتقاده للفلاسفة الكلاسيكيين خصوصا أفلاطون والفارابي، لتصوراتهم المثالية للدولة، والتي ظلت سجينة الفكر وبعيدة عن الواقع . فالهدف الرئيسي لميكيافيلي هو وضع المعايير والشروط اللازمة لإقامة الجمهوريات والإمارات والمحافظة عليها والتي يمكن إدراجهما في شرطين كما جاء في كتاب الأمير :
"عليك أن تدرك – أيها الأمير – أن ثمة سبيلين للقتال .

أحدهما بواسطة القانون والآخر عن طريق القوة . ويلجأ البشر إلى السبيل الأول أما الحيوانات فتلجأ إلى السبيل الثاني "..." ومن الضروري للأمير أن يستخدم الطريقتين معا، أي طريقة الإنسان وطريقة الحيوان" "نفس المرجع السابق الباب 17ص148".

يتضح أن مجال السياسة في تصور ميكيافيلي هو الصراع الدائم بين الأفراد والجماعات، ولذلك يجب أن يعلم الأمير أن هناك مبدأ واحد للحفاظ على سلطته هو الغاية تبرر الوسيلة وهذا ليس بغريب عن ميكيافيلي خصوصا و أنه عاش التجربة في ظل حكم أسرة ميدتشي في الفترة الممتدة من 1496م إلى 1512 م التي أوضحت له بالملموس على أن الأمير العظيم هو الذي يفضل المكر والخداع على الإخلاص، للتغلب على أولئك الذين يتخذون من الوفاء والاستقامة قناعا لتحقيق مصالحهم.

إن الأمير الذي يريد الحفاظ على السلطة ان يكون أسدا في قوته و ثعلبا في مكره وقد ثبت صحة ذلك عند الأمير فيرارا FERRARA في حروبه عام 1474م و1510م وثباته ضد هجمات أهل البندقية والبابا يوليوس الثاني .

بينما يضرب المثل ميكيافيلي بالقيصر بورجيا باعتباره يمثل الصورة الحقيقية للأمير وهنا يسجل ميكيافيلي اعترافه : " وفي استعراضي هذا لجميع أعمال الدوق – القيصر بورجيا – لا أجد ما يلام عليه بل العكس أرى نفسي مضطرا، كما حدث بالفعل، لأن أعتبره مثالا يجب أن يحذو حذوه كل أولئك الذين يرتفعون إلى قمة السلطة عن طريق أسلحة الآخرين وطوالعهم ". "نفس المرجع السابق الباب 7ص94".

فرغم أن الحظ ساعدهم إلا أن الفضل يرجع قبل كل شيء إلى شخصيتهم الكبيرة فالأول حصل على الحكم بالقوة و الثاني بالمكر والخداع. ففي الفصل الثامن من كتاب الأمير يرى ميكافيلي أنه " لا يمكننا أن نطلق صفة الفضيلة على من يقتل مواطنيه، ويخون أصدقاءه ويتنكر لعهوده ويتخلى عن الرحمة والدين، وقد يستطيع المرء بواسطة مثل هذه الوسائل، أن يصل إلى السلطان، ولكنه لن يصل عن طريقها إلى المجد " الأمير الباب8- ص98

وهكذا فأجاتوكليس أصبح ضاغية على سيراكوزا بواسطة الحظ فقد كان أبوه يعمل بصناعة الفخار ووصل إلى الحكم بواسطة الإجرام.

لقد أهمل ميكيافيلي في كتابه الصغير نظام الحكم القائم على التمثيلية والانتخاب، والحاكم في هذا النوع من الحكم يخاف كيد الحكام الأقوياء لأنه يختفي وراء الشعب ويطلب حمايته من الإرهاب كما حدث للويس الثاني عشر الذي احتل ميلانو مرتين واضطر إلى تركها لعدم امتلاكه للقوة الكافية للاستمرار في احتلالها .

وهذا ما دفع ميكيافيلي إلى توجيه النصيحة للأمير " يجب على الأمير أن يفهم كيف يعطي طبيعة الثعلب شكلا حسنا وكيف يكون أستاذا للمروءة والتحوير". "الأمير الباب 18- ص148"
لم يغفل ميكيافيلي في مؤلفه الصغير " الأمير " المشكلة الخاصة بالقدرة العسكرية والسياسية والتي أطلق عليها إسم virtuخصوصا وأن ميكيافيلي سبق له أن عين لفترة قصيرة قائدا للحرب ضد بيزا . وقد اكتسب من ذلك خبرة كبيرة في عدم صلاحية نظام الجنود المرتزقة.

وقد أشار ميكيافيلي في الفصول 12-13-14 إلى ضرورة تركيز اهتمام الأمير على التدريبات العسكرية وإلا فقد دولته"يجب على الأمير ألا يكون لديه هدف آخر أو فكرة أخرى وأن يمارس أي فن آخر غير الحروب وقواعده ومتطلباته" إن الأمير الحقيقي هو الذي يضع التاريخ أمام عينيه ويوجه اهتمامه إلى كبار الحكام ويدرس سلوكهم وخططهم في الحروب ويبحث عن سبب انتصارهم وهزائمهم ويتخذ منها سراجا منيرا في حكمه.

لقد ظلت ولا زالت نظرية ميكيافيلي السياسية الممثلة في الأمير محط اهتمام العديد من السياسيين الكبار خصوصا "بينتو موسولوني" ففي سنة 1924 كتب موسوليني قائلا : " حدث ذات يوم أن أفادني رجال فرق القمصان السوداء في إيمولا Imola أن سيفا سيهدى إليه منقوشا عليه قول ميكيافيلي : ليست المحافظة على الدول بالكلام"
الأمير – بينتو موسوليني- تعليق عام – 1924 على كتاب الأمير – ص 5
ولهذا لم يتردد موسوليني أن يكون الأمير موضوع رسالته لنيل الدكتوراه.



المراجع:

- نيكولا ميكيافيلي: الأمير: ترجمة المحامي الدكتور فاروق سعد – دار الآفاق الجديدة – الطبعة الرابعة والعشرون .- بيروت
- تاريخ الفكر السياسي : تأليف : الدكتور إبراهيم دسوقي أباظة – الدكتور عبد العزيز الغنام – دار النجاح للطباعة والنشر- بيروت : من ص 174 إلى ص 185.

زهير قاسيمي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...