المثقف يلعب... يخسر ويكسب

31-08-2010

المثقف يلعب... يخسر ويكسب

 يخرج قارئ رواية فواز حداد الجديدة «جنود الله» لأول وهلة بانطباع فحواه أن المؤلف يضع إكليل الشوك الأخير، غير المجيد، على رفات المثقف العلماني اليساري، مؤبناً مسيرته التي امتدت لما يزيد على نصف قرن، عبر زجه في مواجهة غير متكافئة مع الجهاديين الإسلاميين، ليخرج من هذه الجولة فاقداً للمستقبل والذاكرة معاً، لكنه ما يلبث أن يكتشف أن هذا الانطباع رؤية، آنية ومباشرة، وأن ثمة رؤيا ثقافية أعمق، كامنة ومخاتلة، تدحضها وتقوضها.-‏  يغادر البطل -الذي لا نعرف اسمه على امتداد الرواية- بغداد أشبه بجثة، لتكشف هذه الرواية غير المسبوقة في موضوعها، ومنذ صفحاتها الأولى عن مصير مثقف يساري سوري يزج بنفسه في مغامرة خطيرة، يقتفي خلالها أثر ابنه الوحيد سامر، الشاب الجامعي الذي التحق بتنظيم القاعدة، بالتعاون مع الضابط الأمريكي ميللر الذي يعمل على مساعدته من منطلق إنساني. وبالطبع، سيكتشف البطل أن هذا المنطلق فردي وهش عندما يصل إلى المنطقة الخضراء في بغداد، حيث يغرق الضابط الأمريكي «الطيب» في تفاصيل مخطط إجرامي يقوده أحد زملائه بإرشاد من قس يعمل مع الجيش الأمريكي يهدف إلى إبادة أكبر عدد ممكن من العراقيين عبر القتل المباشر وغير المباشر عن طريق تحريض عمليات الانتقام والإبادة الطائفية والعرقية التي يقع العراقيون في مصيدتها.‏
إزاء لا جدوى بقائه في المنطقة الخضراء التي تبدو كجزيرة معزولة، يضطر البطل إلى إلقاء نفسه في خضم بحر العنف العراقي، معرضاً نفسه عن قصد للاختطاف، وليتم تداوله بين المجموعات المستفيدة من العنف والفوضى في سوق الافتداء والتصفيات والابتزاز والتهديد والترويع المزدهر هناك. وفي عالم مفارق كأنه من عجائب ما تحت الأرض يتنقل البطل من يد تنظيم يبيعه إلى آخر ومن هذا إلى ذاك، وتدور حوله مساومات وصفقات عديدة. لكن تنظيم القاعدة يحسم الموقف حين ينتزعه بعملية دموية من يد آخر مساوم عليه. وفي أوكار القاعدة ومخابئها التي يكتشف فيها مدى العنف والوحشية التي وصل إليها الجحيم العراقي حيث «الموت العادي نعمة يصعب الظفر بها»، يكتشف أيضاً أن ابنه من كان وراء عملية الإنقاذ تلك، وأنه بالفعل قد أضحى»أميراً» نافذاً في التنظيم تحت قيادة الزرقاوي، ويكتشف أن «الرجل الذي ثمنه خمسة وعشرون مليون دولار» حقيقة لا خدعة كما كان يظن.‏ 
 وفي مقابله مطولة معه يدور بينهما حوار حول الحق والعدالة والمستقبل يبدو المثقف خلاله خصماً باهتاً خائر القوى وفاقد القدرة وعاجزاً عن مناوأة الجهاديين لا بل عن مجاراته. وينتهي اللقاء بتأكيد الزرقاوي للبطل بأن ولده لن يعود معه كما يتمنى. لكن الأب لا يستسلم ويعاود مسعاه لاستعادة ولده عندما يلتقيه وقد تلقب بـ»عبدالله» وأصبح شخصاً آخر أكثر قوة وصلابة. لكنه يفشل هنا أيضاً. فتوسلاته العاطفية لا تجد الصدى الكافي لدى ولده الذي أضحى الزرقاوي أباه الرمزي، وحججه الدينية وادعاءاته الفكرية تبدو هزيلة أمام موقف الشاب المزود بمنظومة عقائدية مصمتة. وفي هذه الأثناء تضع قوة أميركية بدورها حداً لمغامرة البطل عندما تهاجم القرية التي تختبئ داخلها الجماعة وتحاول إبادة من فيها. لكن البطل ينجو بعد أن يصاب إصابات خطيرة، فيما يهرب سامر ويلجأ إلى الأحراش بعد وداع مأساوي لوالده يبدو أنه فراق نهائي، يتوعد خلاله الأمريكان والمتعاونين معهم بانتقام ماحق.‏
وأثناء مداواته يُخبر البطل أن الضابط الطيب قد انتحر. ويعيده الأمريكان والعراقيون المتعاطفون معه فاقد الذاكرة إلى دمشق لتلقي العلاج. وهنا يعيد اكتشاف حكايته بالتدريج مستعيناً بصديقه وبعض الرسائل الالكترونية التي أرسلها في مراحل سابقة إلى صديقته الكاتبة الشابة التي تخبره بأنها حامل وتطالبه بقطع مهمة البحث عن سامر والعودة سالماً لأن ثمة جنين ينتظره، لكنه يصر على استعادة سامر ذاته رافضاً أن يكون الجنين تعويضاً أو بديلاً عنه، مع أنه يطالبها بشكل واضح بالإبقاء عليه وانتظار عودته ليعلن أبوته للطفل.‏
وراء هذا المستوى الحكائي الأول المشغول بإتقان ينتمي إلى حقل الرواية المشوقة، ثمة كم هائل من التفاصيل والأحداث التي تتآزر لتكوين الرؤية الرمزية للرواية، والتي تتلخص في كون المثقف اليساري من جيل الستينيات يعي متأخراً أنه ترك مستقبله «ولده سامر» للمجتمع «الأم» التي تتحول بعد حماسها اليساري السطحي والساذج، إلى متدينة غارقة في الغيبيات والأوهام. وأن تخليه واستهتاره، وربما أنانيته وجبنه، قد أفضى إلى موقف يتهدد فيه وجوده بشكل جذري من قبل ابنه ذاته الذي اعتنق منهج جيل الأب وأدواته في السعي إلى العدالة وتوكيد الذات بطريقة عنيفة، لكن برموز وشعارات مناقضة. إذ «أصبحت الإمبريالية هي الطاغوت، والأنظمة الرجعية العميلة، أنظمة ملحدة ومرتدة، والكفاح المسلح هو الجهاد، أما العنف الثوري فهو الاستشهاد!!» وهو مسعى تفصح الحكاية والسرد في الرواية عن كونه بلا مستقبل، شأنه شأن سابقه. فمنهج التدمير الذاتي لكل الأطراف المتصارعة في عالم يصبح أكثر جنوناً يوماً بعد آخر، سيفضي في النهاية إلى الإفناء المتبادل، والجشع المادي الاستهلاكي يدفع الأمريكي إلى سفك دماء الآخرين غافلاً عن ارتدادات ذلك عليه التي لن يعيها إلا حين يسقط ضحية الانتقام، وهو مصير لا يقل سوءاً عن مصير الانتحاري الذي يقتل نفسه ليودي بخصمه، وهي في النهاية - شهوة العنف المييت المتبادل - لن تتوقف حتى تبتلع كلا الخصمين المتنازعين.‏
أما المستقبل فإن بذوره تتشكل في الخفاء على هيئة جنين من علاقة لا تحفل بالشرعية أو المواضعات الاجتماعية أو الفكرية السائدة. يرمز الطفل الذي تحمله صديقة البطل دون زواج بشكل ضبابي وبدون تصور نهائي للتاريخ، إلى جيل يتكون اليوم في العالم أجمع في رحم العولمة ومشغل التكنولوجيا، منقطع عن جيل الآباء والأبناء كليهما، وسط جهل مطبق بما سيؤول إليه وما سيكونه.‏
لكن مآل الجنين بحد ذاته لا يشغل النص، وليست هذه الرؤية المستقبلية عزاءً ولا حلاً. إن هاجس الفعل الآني وعدم التملص من المسؤولية عن الراهن، حاضر بقوة في البعد الأخير للرواية، الذي نستطيع أن نسميه بالغائي، المتصل بماهية ووظيفة الفن عموماً. إن نفاذ الروائي- وهو ما حققه حداد بكفاءة- إلى أكثر الأماكن عداءً له كمثقف، أي إلى وكر الجهاديين، ووقوفه أمام الذباح المرعب «الزرقاوي» ومحاورته، هو بحد ذاته اختراق خطير وجريء، لا يدانيه في الجرأة ولا الخطورة لا الاختراق المخابراتي ولا السحق العسكري اللذان يعتقد أنهما التهديد الأخطر لهذا الكائن، فهما من جنس الانتحاري لناحية العنف والتلهف للسلطة، فأحدهما جاهز لإطلاق النار، والآخر على أهبة الانفجار، كلاهما يغذي الآخر ويتغذى منه، أما الاختراق الفني بصيغته السردية، وبفعله العميق طويل الأمد، فيفكك هذا الكائن من الداخل ومن الخارج، ويعيد صورته الكارزمية لدى البعض، كرجل سماوي، والرهابية لدى البعض الآخر، ككتلة من لحم ومتفجرات، إلى نصابها الطبيعي المنطقي: كائن من لحم ودم، ومشاعر وأفكار، وماض ومستقبل. بمعنى آخر تسييل صورته في الماء الجاري وجعلها متحولة ومتحركة ونسبية، ومضادة للبورتريه الجامدة الدوغمائية التي يرسمها له خصومه، أو تلك الصارمة الرصينة التي يرسمها لنفسه. صورة لن تسر أحداً من أصحاب الشأن أبداً، فالزرقاوي سيربكه بالتأكيد اقتحام الفن بكل ما يمثله من تعدد وجمال وإبداع وحب للحياة، لعالمه الذي يريده أخروياً ومتقشفاً وأحادياً وانتحارياً.. ونهائياً. وخصومه سينظرون إليها كنوع من الإخلال بمعادلة «الأمن» الكوني، بمواجهة التكفيري عبر فضح سرها، الكامن في العلاقة المصلحية الوجودية المتبادلة بين طرفيها.‏

عبد الناصر العايد

المصدر: ملحق الثورة الثقافي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...