العرب وتجربة المأساة كما يراها صدقي إسماعيل

18-06-2011

العرب وتجربة المأساة كما يراها صدقي إسماعيل

الانحطاط يعني انحسار الإرادة والتصميم الحر في الحياة العربية حيث تقسو الظروف على كل موقف إرادي صادق من أجل وعي المأساة والعمل على إمكانية تجاوزها،.

وبذلك تشيع الروح السلبية بما تنطوي عليه من موقف الرفض والتخفي أو الهروب من مواجهة الواقع. ‏

في نظرة تاريخية، وقراءة مميزة للمفكر السوري صدقي إسماعيل تحدث في كتابه عن «العرب وتجربة المأساة» عن جذور متمكنة في بنية العقل العربي قوامها الانصياع للأقدار بحسب التجربة الجاهلية، والتسليم لمشيئة الله في التجربة الإسلامية ليس فيما يتعلق بالدين وحسب، وإنما من خلال الفلسفة التي ربطت المعرفة بالأخلاق.. إلى أن كانت الحصيلة في العصور المظلمة التي يحلل من خلالها «وعي المأساة» والموقف السائد منها بطريقة تعجز عن تمثل أي مصير شامل للإنسانية في ظل انهيار «القيم» التي شكل سقوطها صورة للفاجعة، بحسب الفكر العربي.. تلك «القيم» التي يراها في التجربة المأساوية ترتبط بالقيم الحيوية «المتحركة» التي تهيمن على الوجود الآني للفرد والجماعة، وهي جميعاً تتعلق بالحاجات اليومية والغرائز والروابط الاجتماعية التي يبدو فيها الإنسان كائناً حياً في سلسلة النظام الطبيعي، تتحكم فيه المقاييس الكمية المحضة.. فيقول: لما كانت هذه القيم ذات ارتباط وثيق بالتجارب اليومية مثل المحافظة على البقاء والغذاء والسيطرة، فإن وعي المأساة يبدو متغلغلاً في كل هنيهة من الوجود الإنساني، وبذلك يأخذ الفاجع طابع الفساد المستمر الذي لايفسح مجالاً للتفاهم بين الإنسان ومصيره، ولايكون فيه للإنسان إلا موقف الرفض «تذمر وغيط وخوف وقلق». ‏

وبالمحصلة فإن صيحات التذمر والشكوى وإن تحولت إلى إدانة لم تستطع التغيير، فكان أن استقر في بنية العقل العربي الجماعي أن الإنسان ينحدر إلى الهاوية وإن العالم قارب على نهايته.. فكان تحمل القدر والدهر أعباء المأساة، ولما كان القدر والدهر، أصم أبكم، فإن الصيحات لم تكن ذات جدوى.. ففي تجربة الانحطاط والتردي في الواقع، لم تجدِ حتى صرخات التحدي، لأنها بحسب تحليل «إسماعيل» تشكل فراراً من مواجهة المأساة أو التخفي، وهذا يعني فشل الإنسان في التزام «القيم».. ‏

نشير بالذكر هنا إلى أن إسماعيل يوصف حالة المأساة العربية ويبحث في جذورها وأسباب استمرارها وديمومتها في العقل الجماعي العربي حيث أصبحت إدانة القدر لازمة أبدية وحكمة مستدامة فيقال «الزمن وغد، والقدر عدو غدار، لايؤمن جانبه.. وقد رسخ هذا المفهوم الأدباء والشعراء حتى سادت التوقعات التي ترتبط بالبؤس والخراب والفتنة، وهذا مايحبط الهمة والإرادة ويتيح للريبة والشك أن يتغلغلا في النفوس، في الوقت الذي تحتاج فيه الإرادة إلى تقصي الحقائق التي تضيء الدرب وتحفز الإنسان ليكون قادراً على حماية مصيره عندما يتهدد عيشه، فإذا كانت هناك سنن حتمية لابد من الإذعان لها فإن ذلك لايعفى من الالتزام والتصميم منعاً للفوضى والانحطاط التي تدعو للهروب والنجاة بالنفس من الهلاك والطوفان.. بعد ذلك يشير المؤلف إلى ظاهرة الانكفاء والتقوقع التي تشكل نوعاً من مظاهر التخفي التي يبدو ظاهرها الأمن والاستقرار، لكن الحقيقة في داخلها هي التمزق والقلق الذي يعانيه الجميع وذلك يعود لشعورهم بأنهم ضحايا دون ذنب، وغير قادرين على الرفض والمواجهة، ومن هذا الخلل والتمزق تنفذ الأقدار وتجد فرصتها سانحة لاقتناص المصائر من خلال مايعرف بالحظ، والخرافة والمعجزة والغيب، وهي المظاهر التي تعبر عن الفاجع والانهزام من (المأساة).. فيحضر الرياء والزيف والكذب والخداع، وتكثر الأحاديث عن الخلود، والتستر بالخيال والأوهام لتبرير العجز أمام مايقتضيه الفاجع من تصميم. ‏

يسوق المؤلف في كتابه العديد من الأمثلة الشعرية والأدبية والنصوص التي صاغها الفلاسفة ورجالات النهضة الأولى التي لم يتح لها الإبداع في الخلاص من تجارب الفكر والإرث الماضي الذي حمل المأساة وتجاربها ليعيد تكرارها ومراوحتها بصورتها الفاجعة.. حيث تتغير الأشكال والأساليب ويظل المضمون متجذراً يرافقه الخوف والقلق والتمزق الدفين وهو الوجه الذي يتمثل الحقائق بأعمق ما تتمثلها الحقائق، لأن الشعور بالانهيار هو الأبقى، وإن ظهر من يداعب حس البطولة ويلتمس المعجزات، ويخلص إسماعيل إلى القول.. من خلال البحث والتحليل والاستنتاج إلى أن الدعوات العقلانية العربية لانبعاث القيم المنهارة، لم تفلح، وهي لاتكفي، لأن المتغيرات والقضايا المتحركة على قدر الثوابت في أهميتها عندما يكون الخروج من المأساة ممكناً، استعان المؤلف بالتجارب الشعرية – كما ذكرت- والفلسفية ومن تجارب رجالات النهضة في الفكر ورأى أنها لم تأخذ شكلها الإيجابي الذي يمكن أن تمهد لتكوين عقل يتبين الانهيار من جميع جوانبه، ويفصل بين حقائق المعرفة، والأخلاق، ويصل في كتابه حتى العصر الحديث ليؤكد أن الماضي هو المهيمن على جميع البيئات العربية رغم الخلافات والنزعات الإقليمية المحدودة بكل قطر، وهي في مجملها تمثل «القيم» التي مازالت تدور حولها المأساة الجماهيرية.. فأيها الثابت وأيها المتحرك ذلك ماتوضحه تفاصيل أدق في الكتاب.

عفراء ميهوب

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...