المخدّرات في غزّة: انتشار للحبوب المهدّئة والحشيش

15-06-2011

المخدّرات في غزّة: انتشار للحبوب المهدّئة والحشيش

«رائف» يكنّى بأبي عديّ (45 عاماً)، يسكن في مدينة خان يونس جنوب القطاع، ويعدّ من أقدم تجار المخدرات في المدينة، وهو يتعاطى الكثير منها حتى اللحظة. بدأ مسيرته الطويلة في التجارة عام 1980، حين استعان به عمه ليساعده على تهريب كميات من الحشيش من سيناء المصرية إلى إسرائيل، لتدفعه الرغبة في التجربة إلى أن يصبح مع الوقت مدخناً محترفاً للحشيش.
يقول رائف: «بعد عامين من عملي في هذه التجارة بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وانتقلت المخدرات من لبنان إلى إسرائيل، الأمر الذي أدى إلى كثرتها هناك، ما دفع اليهود إلى التفكير في تهريبها إلى مصر، وبحكم أننا منطقة حدودية، وقعت علينا مهمة العمل في الاتجاه الآخر، والتهريب من إسرائيل إلى مصر، وحينها تعرّفنا إلى مادة «الكودائيم فوسفات» التي أصبحت تعرف بالهيروين لاحقاً».
وحسب رائف، فإن «الكودائيم فوسفات» لم تكن معروفة لسكان القطاع آنذاك، لكنهم اكتشفوا أن الشم طريقة تعاطيها، وألِفوها بعدما طوّرها المصريون وأضافوا إليها مادة الأفيون التي كانت تسمى (أبو النوم) وهي التي تجعل المتعاطي يشتاق إلى الجرعة، أي يدمنها. ويظهر أن الفدائيين نشطوا في تخليص مصر من هذه المواد وضخّها إلى إسرائيل في ما يعرف بلعبة «كسر الدولة»، بعدما انتبهوا في عام 1984 إلى السياسة الإسرائيلية تلك.
رائف، الذي كان كل همه جمع المال من خلال هذه التجارة المربحة، وقد جرب كل الأساليب التي من شأنها أن تجعله يتابع أرباحه، تنقّل بين الإدمان والإقلاع مرات عدة، لكن إغراء المال كان يعيده في كل مرة في ظل انعدام أي وسيلة أخرى تجلب الدخل نفسه.
واستمر رائف في تجارة المخدرات حتى عام 2006، وسجن مرات عدة. ويقر رائف بتغيّر أوضاع المخدرات في غزة بعد سيطرة «حماس» عليها في 2007، ويقول: «ارتبطت سيطرة المشايخ على البلاد بافتقارنا إلى الهيروين، وغرقنا في الحشيش والترامال (حبوب مخدرة)». ويضيف: «من واقع علاقاتي واطّلاعي، كنا 500 مدمن وصرنا نصف مليون، فقد انتشرت حبوب الترامال بين الفئات العمرية المختلفة، وصارت موضة الجامعات». ويشير إلى أن العيادة النفسية رخصت له تعاطي حبوب الترامال لئلّا يعود للبحث عن الهيروين، ما يشعره بنفس الأثر تماماً، لافتاً إلى رغبته في الإقلاع عن هذه الأقراص.

في السجن
في سجون غزة، حيث الغالبية العظمى من النزلاء موقوفون أو متهمون بقضايا مخدرات، يقبع مجدي (33 عاماً) من حي الشجاعية في مدينة غزة، الذي عمل سابقاً سائق تاكسي طوال الثلاث سنوات التي تاجر خلالها بالمخدرات. ويعترف بأنه تاجَر بمعظم أنواع المخدرات كالحشيش والبانغو والكوك والهيروين وحبوب الترامال وحبوب السعادة وغيرها، وتعامل مع أعداد كبيرة من «المعلْمين»، أي كبار التجار، الذين تفاوتت درجة نفوذهم، و«باع لأكثر من 700 من المدمنين من شتى أنحاء قطاع غزة حتى زاد ربحه على 150 ألف دولار في الفترة من عام 2006 حتى عام 2008».
ويقيم مجدي مع نحو أربعين نزيلاً في غرفته بسجن أنصار بمدينة غزة، منهم 18 تاجراً، و22 متعاطياً قلّما تجد بينهم مدمن هيروين، وإن وجد فإنه «بحاجة إلى أسبوع من المعاناة بدون جُرَع ثم يتعافى بعده تلقائياً». ويحظى السجناء ببرنامج إصلاحي متكامل يقوم على دعمهم نفسياً واجتماعياً وإنسانياً، ويمتد إلى مساعدة أسرهم مادياً، ما عدّه المختصون في وحدة الإرشاد الديني والنفسي المنظمة فاعلاً في النهوض بمجدي وغيره، وإن أوقفوا أكثر من مرة.
أما حازم (24 عاماً)، المتزوج حديثاً من مدينة رفح جنوب القطاع، فهو موقوف بتهمة الاتجار بالبانغو وتعاطيه، ويروي حكايته قائلاً: «لقد تناولت الترامال للمرة الأولى بعد إصابتي جراء قصف جوي إسرائيلي على منطقة الأنفاق برفح، وبسبب الآلام الحادة التي كنت أشعر بها، كان لا بد من جرعات كبيرة من هذه المادة المخدرة، التي كنت أصرفها عبر وصفة طبية لمدة تزيد على أربعة أشهر».
وفي إحدى جلسات الأصدقاء كان تدخين سيجارة البانغو الأولى، لعلّها تعدّل مزاج الشاب المكتئب من بطالته رغم حصوله على شهادة جامعية، إلا أنها أفقدته وعيه حتى نام وأفاق بوجه متورم، إلا انه لم يمتنع عن التجربة مرة أخرى. ويقر حازم بندمه على رفقة السوء التي أدت إلى تدخينه البانغو، الذي يزرعه البعض في غزة، وقد رآه بعينه، وتشبه أوراقه ورقة الملوخية.
وتتمحور التأثيرات السلبية لتعاطي الترامال في ضعف حاد في الشهية، وتبلّد في الإحساس والمشاعر تجاه المحيط، وأرق بدايةً، ثم إقبال غامر على النوم، مع صداع، كما يسهل إدمانه وتعوّده، ويصعب التخلص منه لما يصاحب ذلك من قشعريرة وعرق كثيف وقلة نوم، وشعور مضاعف بالتعب والإنهاك أو الألم إذا كان المتعاطي مصاباً أو مريضاً. ويقول حازم إن ما يزيد على 90 في المئة من معارفه الشباب يدمنون الترامال، إما من أجل تحفيز أجسادهم على أعمال إضافية، أو تحسين قدراتهم الذهنية وتحصيلهم الدراسي، وخاصةً الإناث، أو مضاعفة القدرة الجنسية، أو مجاراة الأصدقاء.
ويصل سعر أغلى شريط ترامال ـــــ يصرف بروشتة طبية ـــــ وعدد حبّاته عشرة إلى 35 شيكلاً، أي ما يعادل 10 دولارات.

اسأل مجرّب
من جانب آخر، يظهر ما هو أكثر اختلافاً وتميزاً وتطرفاً، ويتحدث الشاب الجامعي وسام (31 عاماً) شارحاً وجهة نظره: «من منطلق التجربة والاكتشاف، جرّبت كل شيء من المواد المخدرة، وصار في ذهني تصوّر عن كل واحدة منها، حتى اختزلت علاقاتي المتشعبة في هذا المجال إلى تواصل جيد مع الحشيش القادر على وضعي داخل إطار حالة من التركيز والهدوء، اللذين يوصلانني إلى رؤية مختلفة ومميزة للأشياء».
ويرى وسام أن الترامال يعمّق بلادة المتعاطي، وللخمر طعم سيّئ، كذلك البانغو يعطي إحساساً لمتعاطيه بأنه فقد الوعي نتيجة لكمة قوية وجّهها أحدهم إلى دماغه، أما الهيروين، فيكفي ما يخلّفه من دمار لصحة صاحبه، وإدمان يحوّله مع مرور الوقت إلى عبد، بينما تبقى «يقظة مدخن الحشيش حاضرة، وإن علا صوته، وكثر ضحكه».
ويشتري وسام قطعة الحشيش ـــــ غير المستقرة السعر ـــــ بخمسة عشر دولاراً أو أكثر، لافتاً إلى أنه توصل في إحدى المراحل إلى الحصول على الحشيش من مصدر رئيس، ثم إلى توزيعه على الأصدقاء المقربين، ما مكّنه من تغطية تكلفة ما يستهلكه.
ويرفض وسام الشروع في امتهان بيع وشراء المخدرات لما سيسبّبه ذلك من أثر بغيض على نفسه، فهو «لا يعرف من سيستخدمه، وكيف؟». ويوافق على ما قاله رائف عن الانتشار المهول للحبوب المخدرة كالترامال والسعادة، وخاصةً بين طلاب الجامعات من الذكور والإناث.
وعن إمكان زراعة البانغو في القطاع يستصعب وسام ذلك، وخصوصاً في ظل توافر الحشيش الذي كانت قطعة منه في جيبه كافية للقبض عليه وإدخاله السجن لمدة شهر، ثم الخروج بكفالة مقدارها 600 دولار تُسترد بعد حكم المحكمة. وعلى نحو مباشر تعرّف وسام إلى ثلاث صبايا دخنَّ الحشيش، لكنه ينتقد سياسة حكومة «حماس» التي تسمح غالباً بمغادرة الفتيات دون الشباب، وإن ضُبطن متلبّسات في قضايا مخدرات أو قضايا أخرى، ويطالب بالتعامل مع الجنسين سواسية أمام القانون، والأهم القبض على التجار قبل المتعاطين.

أسباب، واعتقادات خاطئة
ويوضح اختصاصي الأمراض العصبية والنفسية في برنامج غزة للصحة النفسية الدكتور خالد دحلان مجموعة من الصفات التي تكمن في شخصية المدمن منها: أنه غير قادر على الاعتماد على نفسه، وعدواني، وضعيف جسدياً وذهنياً، وكثير الغضب، ودائم القلق، يستمتع بتعذيب نفسه وتعذيب الآخرين، ولا يمتلك الكياسة، يشعر بجنون العظمة، والسعادة الزائفة، أو الأسى والحسرة، ويلجأ إلى التعاطي عند مواجهة أي موقف كأنه يصنع لنفسه شرنقة تحميه من المواجهة.
وأوضح أنه ليس هناك أسباب مباشرة تؤدي إلى تعاطي المخدرات، لكن هناك العديد من العوامل أهمها رفاق السوء، والوضعان الاجتماعي والسياسي.
ولأن المجتمع الغزّي يعد مجتمعاً فتياً يكثر فيه الزواج المبكر، فهو أكثر عرضةً للتفكك الأسري، والطلاق، ومن ثم انحراف الأبناء وانقيادهم وراء رفاق السوء، كما يؤدّي الوضعان السياسي والاقتصادي دوراً في الانحراف إلى الإدمان، بحسب دحلان. ويرى دحلان أنّ من الضرورة تصحيح الفكرة السائدة عند الشباب عن فاعلية الترامال كمنشط جنسي، ويقول: «اكتُشف الترامال وهو المورفين لايك أي قاتل الألم بالعربية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان يعطى للأشخاص الذين بترت أعضاؤهم، كمائدة مهدئة». ويضيف: «تتوافر مادة المورفين في غدد الدماغ، وتفرز في حالتين، أولاهما: إذا تعرض الإنسان لحادث فالجسم يفرز المادة لتخفيف الألم، وثانيتهما: في حالة الوصول إلى النشوة الجنسية، ما يترتب عليه شعور بالمتعة والاسترخاء».
ولأن تعاطي المادة ذاتها يؤدي إلى تعطيل الغدد عن تأدية دورها الطبيعي في الأوضاع الطبيعية تلك، واكتفاء الجسم بما يدخل إليه ليشعر بالمتعة والاسترخاء، فإنه لن تكون هناك أي حاجة إلى لقاء الزوجين، ولن يرغب الأعزب في الزواج. ويلفت إلى أن قطاع غزة غير منتج للمخدرات، ومع ذلك تكثر المواد المخدرة فيه، «الأمر الذي يؤكد اعتباره هدفاً لجهات معنية بخرابه وكسره».
أما الحشيش الذي عدّه دحلان أكثر ضرراً من السجائر، لتركز المادة السامة (الماريغوانا) فيه أكثر من السنوات الماضية ـــــ الأمر له علاقة بالتربة وموادها ـــــ فإن السبب في انتشاره يتعلق بقدرته على ضخ روح الفكاهة، ما يهيئ لتعزيز ثقافة المجتمعات الشرقية التي هي أكثر اجتماعية من المجتمعات الغربية الفردية، التي يتناول أفرادها المشروبات الروحية.

إجراءات الأمن
يقول الناطق باسم الشرطة في غزة، الرائد أيمن البطنيجي: «لا يمكن أي دولة في العالم أن تقضي نهائياً على المواد المخدرة، ورغم وجود البانغو والترامال والحشيش في غزة، فإننا تقدمنا خطوات كبيرة نحو القضاء على الهيروين والأفيون، وما اللجوء إلى الترامال إلا انعكاس لذلك». وحسب البطنيجي، فإن 80 في المئة من المعتقلين في غزة مقبوض عليهم في قضايا مخدرات، 90 في المئة منها تتعلق بقضايا الترامال الذي يمنعه القانون المطبّق في غزة، ولا يصرف إلا بوصفة طبيب، كما أنه جرى ضبط أكثر من 960 ألف حبة ترامال في الشهور الستة الأخيرة، تعادل كل خمس حبات منها جرعة هيروين، و«يؤدي استمرار تعاطيها لمدة سنة إلى فقدان إحدى الكليتين». ويرى البطنيجي أن الفكرة السائدة عن انتشار المخدرات في غزة أكبر من حجمها الطبيعي على الأرض، وتبدو كجزء من حملة شائعات تهدف إلى إظهار غزة في ثوب عربدة وسكر، مؤكداً سيطرة الحكومة التامة على منافذ القطاع، وإحكام قبضتها على التجار بواقع 70 في المئة، وإن كانت عمليات الاعتقال صعبة، حيث يستشهد على أثرها بعض أفراد الشرطة، أو يصابون بعيارات نارية من أسلحة غير مرخصة في أيدي التجار.

قيس صفدي

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...