خضوع مطلق لله وخضوع مشروط للسلطات

12-07-2009

خضوع مطلق لله وخضوع مشروط للسلطات

"أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" قول السيد المسيح يتم استحضاره كثيرا في النقاشات الدائرة اليوم حول جواز تدخل رجال الدين في الشأن السياسي ام عدم جوازه. وهذا الاستحضار غالبا ما يرد على لسان من يقولون بعدم جواز هذا التدخل. غير ان استعمال الآية في هذا السياق يبقى قاصرا عن بلوغ الدلالات العميقة التي يتضمنها معنى الآية كما فهمها التراث المسيحي منذ نشأة الكنيسة الى ايامنا الحاضرة.
لم يشأ المسيح ان يثبت القطيعة بين ملك قيصر الارضي وملك الله، بل اراد عبر قوله "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" تصويب العلاقة التي ينبغي ان تكون بين الانسان والله من جهة وبين الانسان والسلطان من جهة اخرى. فحين سأل الهيرودسيون المسيح: "أيحلّ لنا دفع الجزية الى قيصر ام لا؟" اجابهم: "أروني نقد الجزية"، فأتوه بدينار. فقال لهم: "لمن الصورة هذه والكتابة؟" قالوا "لقيصر". فقال لهم: "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله (متى 22، 15 – 22). والصورة والكتابة في هذا النص لهما دلالة كبرى، اذ يذكرهما يسوع فانما بغاية تذكير سامعيه بألا ينسوا ان لديهم كتابا الهيا، وانهم بحسب رواية الخلق في هذا الكتاب، يحملون صورة الله في انفسهم. فلا يجب ان تشغلهم الجزية عن رعاية صورة الله فيهم للبلوغ الى المثال.
من هنا، لم يدع المسيح الى اقصاء الله عن شؤون العالم بعامة والدولة بخاصة. بل اطلق المسيح تحديا كبيرا بوجه السلطة القائمة مفاده السؤال الآتي: هل يستطيع اي حكم ارضي ان يرقى الى مستوى الملكوت السماوي؟ هل يمكن تحقيق المكلوت السماوي في عالمنا الحاضر ام يجب انتظار اليوم الاخير لبلوغ هذا الامل؟ وهذا معنى ما ورد في صلاة "ابانا" التي علمها المسيح لتلاميذه، فعبارة "ليأت ملكوتك" تتطلب من قائلها ان يسعى بجهاد يومي لجعل هذا الملكوت حاضرا حيث يحيا، لا ان ينتظره بكسل وسلبية وكأن الامر لا يعنيه.
لم يتحدث المسيح البتة عن فصل الدين عن الدولة، او عن العلمانية بمعناها الثقافي الراهن، فالامر كله لم يكن مطروحا آنذاك. كما انه لم يتحدث عن الخضوع الاعمى للسلطة الارضية القائمة، وهو نفسه يلقب هيرودس بـ"الثعلب" (لوقا 13, 32). ما اراده المسيح بالحقيقة هو الخضوع المطلق لله وحده، والخضوع المشروط للسلطة السياسية والسلطة الدينية معا. فحين طولب المسيح بتأدية الضريبة الدينية، ضريبة الهيكل، قال لبطرس معترضا: "انما البنون احرار"، ولكنه دفع الضريبة كي لا يعثرهم (متى 17، 24 – 27).
في الواقع، ينبغي التمييز بين مفهوم الكنيسة التي هي جماعة المؤمنين وبين المؤسسة الكنسية القائمة على خدمة هذه الجماعة. واذا كانت الكنيسة (ومن صفاتها انها مقدسة) في مسيرتها التاريخية لا تزعم انها تحتكر صوت الله، فكم بالاحرى المؤسسة الكنسية يمكنها ان تدعي لنفسها انها تنطق باسم الله. المؤسسة تخطئ وتنحرف، لانها بشرية ولان بشرها لهم اهواؤهم ومصالحهم الذاتية. وكم من مرة اخطأت المؤسسة ليس في النوافل فقط، بل حتى في اقرار العقائد الاساسية، واتى فرد واحد فصحح مسيرتها واعادها الى سواء السبيل. رأي المؤسسة الكنسية ليس بالضرورة هو الرأي الكنسي السليم. ولذلك هو رأي يناقش ولا يحتمل العصمة ولا يجانب احتمال الخطأ.
فمهما كانت مدلولات قول المسيح "اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ينبغي السعي الى جعل ما لقيصر لله ايضا. وهنا يكمن دور الكنيسة (بصفتها جماعة المؤمنين الملتئمة حول المسيح) بأن تربي ابناءها على القيم والفضائل الانجيلية، وان تترك لهم توسل الطريق الفضلى التي ينبغي سلوكها كي يجعلوا من هذا الوطن الذي يحيون فيه صورة مثلى عن الملكوت الآتي. في احدى المرات قال المسيح لبطرس: "ان افكارك ليست افكار لله، بل افكار البشر" (متى 18، 23). المؤسسة الكنسية ليست معصومة اكثر من بطرس، فلتبتعد عن الهوى.

الأب جورج مسّوح

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...