دور( الجمَل بما حمَل ) في دحض أساطير بني إسرائيل

20-08-2008

دور( الجمَل بما حمَل ) في دحض أساطير بني إسرائيل

الجمل- غازي أبوعقل:  ما هو العهد العتيق؟ متى كُتبتْ الأسفار الخمسة ومَن كتَبها؟ ما هي قيمة العهد العتيق التاريخية؟ العهد العتيق وعلم الآثار.. والبحث عن الآباء المؤسسين أبرام واسحق ويعقوب "إسرائيل"... هل الخروج من مصر واقعة فعلية؟ هل حدث غزو العبرانيين لأرض كنعان كما رواها العهد العتيق؟
 من يجرؤ على طرح مثل هذه الأسئلة، ناهيك عن البحث عن إجابات مقنعة لها؟ صحيح أن بعض علماء الآثار، من غير الغارقين في الأساطير مثل العالميْن الأمريكيين في شؤون العهد العتيق، جون فان سيترز J. Van Seters وتوماس تومسون T. Thomson أقدما على تفنيد استنتاجات التوراتيين من أمثال الألماني يوليوس ڤيلهاوزن Wellhausen ويليام ألبرايت W. Albright إلا أن قيام علماء آثار إسرائيليين ممن لهم خبرة طويلة في التنقيب عن المواقع المذكورة في العهد العتيق بوضع الأمور في نصابها يكتسي أهميةً خاصة ويشير إلى هبوب رياح لا تشتهيها أشرعة الأسطوريين.
 إسرائيل فينكيلشتاين مدير معهد الآثار في جامعة تل أبيب، ونِلْ آشر سيلبرمان مدير قسم التاريخ في مركز ENAME في بلجيكا، نشرا كتاباً – بالإنكليزية العام 2001 – عنوانه The Bible Unearthed. تُرجم إلى الفرنسية، على غير العادة المتَّبعة في فرانسا، ونشرته دار بايار في عام 2002، ثم أعادت نشره دار چاليمار في عام 2007 تحت عنوان: إماطة اللثام عن العهد العتيق. الترجمة الفرنسية ونَشره مرتين في فرانسا لها حكاية أخرى مكانها ليس هنا. أما الأسئلة المنوه بها في بداية هذه الصفحة فهي بعض ما طُرح في الكتاب.. لكن ما علاقة هذا كله بالجَمل بما حَمل؟ هذا موضوع اهتمام السطور القادمة.
 في الفصل الذي أوْقَفَهُ المؤلفان على موضوع البحث عن الآباء المؤسسين، استرعتْ انتباهي فقرة شَغلت الصفحات 66 و 67 و 68 و 69 عنوانها: بعض المفارقات التاريخية البائدة. سأعتمدها الآن في إيضاح دور الجمل وحمولته أيضاً في كشف مغالطات كتبة العهد العتيق في بحثهم عن آبائهم...
 ردَّدَ المتخصصون في نقد النص العتيق بإلحاح، مِن الذين حدَّدوا هوية المصادر المميزة الخفيَّة في نص سفر التكوين، أن حكاية الآباء المؤسسين قد وُضعت – كتابةً – في غضون زمن متأخر نسبياً، جعلوه في المرحلة الملكية [أيام مملكة يهوذا] بين القرنين العاشر والثامن قبل الميلاد، بل في زمن أقرب، أيام المنفى، أو في ماتبعة أي بين القرنين السادس والخامس ق.م. حتى العالِم التوراتي الألماني ڤيلهاوزن كان يؤكد على أن قصص الآباء المؤسسين نَقلتْ اهتمامات مملكة بني إسرائيل المتأخرة، بعد إضفائها على وجود الآباء المؤسسين الأسطوريين الذين ينتمون إلى ماضٍ وهمي. ربما ينبغي وضع قصص العهد العتيق بين الميتولوجيا القومية، التي لا أساس لها تاريخياً، مثلما حكايات هوميروس عن أوليسوس، أو قصص أيني مؤسس روما التي كتبها ڤيرجيل.
 أضاف العالمان الأمريكيان بتاريخ العهد العتيق ڤان سيتيرز وتوماس طومسون صوتيهما منذ مدة قصيرة، للاعتراض على الأدلة الأثرية المزعومة التي تُموضعْ الآباءَ المؤسسين في الألف الثانية ق.م. حتى ولو أن النص اللاحق – لتلك القصص – يعيد تناول بعض التراث القديم، فإن اختيار القصص والأسلوب الذي جرى فيه هذا الانتقاء وكيفية إدخالها إلى النص تعبّر بوضوح عن رسالة شاء "ناشرو" العهد العتيق إيصالها لما بدؤوا يراكمون المختارات وينتحلونها. إن همّهم كما يبدو بوضوح ما كان تقديم "تقرير" صحيح تاريخياً.
 لكن متى حدث هذا الانتحال؟ يُقدّم نص العهد العتيق بعض المؤشرات التي تتيح تدقيق زمن تأليفه النهائي، مثل التنويه المتكرر بالجِمال [ذوات السنامين]. تمتليء قصة الآباء المؤسسين بالجِمال – ذوات السنامين – في قطعان كثيرة. ولما باعَ إخوةُ يوسف أخاهم كعبدٍ رقيق (سفر التكوين 37 – آية 25) كانت هذه الجِمال هي التي تحمل بضائع القافلة.
 [23 – فلما جاء يوسفُ إخوتَه نزعوا عنه قميصَه القميصَ المَوشَّى الذي عليه. 24 – وأخذوه وطرحوه في البئر وكانت البئر فارغةً لا ماء بها. 25 – ثم جلسوا يأكلون ورفعوا عيونَهم ونظروا فإذا بقافلة من الإسمعيليين مقبلةٌ من جِلعاد وجِِمالُهم مُحَمَّلةٌ نكَعَةً وبَلَسَاناً ولاذناً وهم سائرون لينزلوا إلى مصر. 26 – فقال يهوذا لإخوته ما الفائدة من أن نقتلَ أخانا ونخفي دَمَه. 27 – تعالوا نبيعُه للإسْمَعيليين ولا تَكُن أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا فسمعَ له إخوتُه...].
 يكشف علمُ الآثار أن الجَمل [وحيد السنام] لم يُدَجَّن قبل نهاية الألف الثانية ولم يبدأ استعماله كدابة لحمل الأثقال في الشرق الأدنى إلا في زمن لا بأس به بعد الألف الأولى ق.م.
 بالإضافة إلى أن قصة يوسف تتضمن نقطةً تفصيلية كاشفة جداً: كانت قافلة الجمال المعنية في القصة تنقل "الصمغ ومرهم البلسَم – البَلَسان – واللاذن وهو صمغ راتنجي يُستعمل لصنع العطور. يوافق هذا الوصف بشكل واضح ويتطابق مع تجارة هذه المُنتجات التي يقوم بها التجار العرب تحت رقابة الأمبرطورية الآشورية في القرنين الثامن والسابع ق.م.
من جهة أخرى، يكشف التنقيب في موقع تل جنمة في السهل الساحلي جنوب إسرائيل، وكان مخزناً موجوداً على الطريق الرئيسة التي تسلكها القوافل العاملة بين بلاد العرب والمتوسط، يكشف زيادة مذهلة في عدد عظام الجمال طوال القرن السابع ق.م، أكثر هذه العظام لِجمال كبيرة كانت تُستخدم لحمل الأثقال، أي أن مصدرها ليس محلياً، ولو كان كذلك لعُثر بينها على عظام جمال صغيرة. وتشير النصوص الآشورية في المدة نفسها على وجه الدقة إلى استعمال الجِمال بانتظام في قوافل النقل. ولم يُشكّل الجمل جزءاً من المشهد الطبيعي إلا بدءاً من هذه المرحلة، مما يجعل إدراجه في تفاصيل قصة أدبية أمراً ممكناً.
لست أعرف ما إذا كان  مؤسس موقع "الجمل بما حمل" على الشبكة العنكوبتية قد أخذ بالاعتبار حكايات العهد العتيق لما اختار هذا الاسم لموقعه، غير أنه بالمُستطاع اليوم على ضوء المكتَشفات الأثرية، إدخال تعديل طفيف على حكمة قديمة معروفة، لتصبح: خذوا الحقيقة من الجمل بما حَمَل ... على ألا تستبقوا الأحداث، وتنتظروا مرور الزمن الكافي عليها لتنبئكم بما كنتم لا تعلمون.

الجمل

للكاتب أيضاً:

غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1 من 4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (2-4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (3-4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (4-4)

غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟

عصر امبراطورية "أوپيك" أم عصر أمبراطورية بيلدِربيرچ"؟..

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...