رحيل عبد الله عبد الدايم

12-09-2008

رحيل عبد الله عبد الدايم

رحل المفكر العربي الكبير الدكتور عبد الله عبد الدايم في باريس، عن عمر يناهز الرابعة والثمانين، أمضاه فعبد الله عبد الدايمي عطاء فكري وثقافي وسياسي زاخر امتد على ساحات الأمة كلها، وأضاء في مجالات الفكر المتعددة.
ولد عبد الدايم في حلب، ودرس في ثانويات حمص وجامعة دمشق، وتولى إدارة المعارف في قطر، وعمل خبيرا تربويا في بيروت والقاهرة وسلطنة عمان، ومثل الاونيسكو في دول غرب أفريقيا قبل أن يستقر لسنوات في مقرها في باريس رئيسا لقسم مشاريع التربية في البلاد العربية وأوروبا، وليشترك بعد ذلك في لجنة تقويم النظام التربوي في الكويت.
وشغل عبد الدايم، الذي يحمل شهادة دكتوراه دولة من جامعة السوربون في فرنسا، عضوية مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية منذ العام ،١٩٧٤ بعد أن شغل موقع وزير الإعلام في سوريا مرتين، ثم وزير تربية حتى العام ،١٩٦٦ ليتفرغ بعد ذلك للعمل الفكري والفلسفة التربوية.
للدكتور عبد الدايم ١٦ مؤلفا تربويا باللغة العربية، من أبرزها كتابه الموسوعي »نحو فلسفة تربوية عربية« الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) عام ،٢٠٠٠ و»الآفاق المستقبلية للتربية في البلاد العربية« الصادر عن دار العلم للملايين (بيروت) عام .٢٠٠٠
وللراحل أيضا، وعلى مدى خمسين عاما، ١٦ مؤلفا في القضايا القومية والفكرية، أولها »دروب القومية العربية« الصادر عن دار الآداب (بيروت) في العام ،١٩٥٨ وآخرها »العرب والعالم وحوار الحضارات« الصادر عن دار طلاس (دمشق) في العام .٢٠٠٢

 

*عبد الله عبد الدايم: حياته تأسيس مستمر
لم تغب الصورة الاولى لاستاذنا الراحل الكبير الدكتور عبد الله عبد الدايم عن البال ابدا منذ لفتتني تصريحاته في ربيع العام ،١٩٦٢ وكان وزيرا للاعلام في حكومة المرحوم الدكتور بشير العظمة وكنت طالبا في المرحلة الثانوية في بيروت.
يومها كانت الأمة كلها مشدودة الى دمشق، فيما الشعب العربي السوري يخوض معركته ضد الانفصال، تماما كما تنشد الأمة اليوم الى فلسطين والعراق حيث أهل البلدين الحبيبين يخوضان وببسالة استثنائية مقاومتهما الاسطورية ضد الاحتلال، وكانت آنذاك، كما اليوم، كل كلمة محسوبة، وكذلك كل موقف.
وفي تلك الايام الحبلى بالتطورات كانت اسماء قادة كبار وشخصيات لامعة بدأت تخرج من الحلبة، فيما بدأت تبرز اسماء اخرى، بينها اسم عبد الله عبد الدايم، وهو يطلق الموقف الوحدوي تلو الاخر، فيما يضيق به ذرعا اولئك الذين اضطروا للقبول به وزيرا لاسكات الشعب الغاضب والجيش المتململ ضد الانفصال.
وأقبلت بفرح بعد ذلك على كتب عبد الله عبد الدايم اغرف منها علما وثقافة والتزاما قوميا، وادركت يومها ان السياسي الوحدوي الذي شدني هو ايضا مثقف من طراز رفيع، وخريج متفوق من جامعة السوربون في فرنسا، بل هو مفكر وباحث يتنقل بين كتاباته الرصينة في القومية العربية، وبين كتبه الرائدة في شؤون التربية وشجونها، تماما كما النحلة بين الورود، فيتحول معه رحيق العلم والثقافة الى عسل الوعي وشهد الالتزام.
ومرت سنوات قبل ان اتعرف شخصيا الى عبد الله عبد الدايم، لاكتشف، عبر السنين والعقود، في هذا المفكر والباحث والكاتب الملتزم قدرة على التجدد، وطاقة على العطاء، لا تتوفر عادة الا عند جيل الاباء المؤسسين.
فالمؤسسون الاصيلون، والاصليون، كالدكتور عبد الله عبد الدايم، لا يكون التأسيس مرحلة في حياتهم، او في حياة الافكار التي يطلقونها، والحركات التي يحملون لواءها، بل تكون حياتهم كلها عملية تأسيس مستمر، وافكارهم وحركاتهم تبقى في طور التأسيس أبدا.
والتأسيس لدى هؤلاء هو رسالة ومسؤولية، وهو رهبة وخوف دائم من التجمد في موقع او التسمر في موقف، بل ان هذه الروح لديهم هي دعوة الى المراجعة الدائمة، مراجعة تتمسك بالجذور وتتفتح على الآفاق المفتوحة باستمرار، لذلك لا عجب ان تكون ابرز كتابات الدكتور عبد الدايم الاولى تتركز على انسانية القومية العربية لتحريرها من كل شوائب الغلو العنصري او العرقي وللتأكيد على ارتباكها الوثيق بالرسالة الخالدة التي اختار الله لها ارض العرب منطلقا لتشمل كل ارض، واصطفى لها من بين العرب رسولا يحملها الى كل البشر.
كما لا عجب ايضا ان تكون كتاباته في السنوات الاخيرة تركز على علاقة العرب مع العالم وفق معادلة التفاعل الخلاق التي ترفض الانغلاق عن حضارات الاخرين كما ترفض الالتحاق بها، سيما وان حضارتنا العربية الاسلامية، التي ساهم فيها مسلمون وغير مسلمين، وعرب وغير عرب، استوعبت ما سبقها من حضارات وساهمت في ما تلاها من حضارات ايضا، ولذلك فهي ترفض لحضارات الاخرين ان تسحق الهوية الثقافية والحضارية لامتنا.
هذه الرؤية التي تتكامل في جنباتها حضارة الأمة مع متغيرات العصر شكلت، وتبقى تشكل احد مصادر هذه الروح التأسيسية التي حملها عبد الله عبد الدايم وجيله من الاباء المؤسسين، اذ كيف يستقيم الجمود مع حمل الرسالة، وكيف يتعايش التحجر مع حال التغير التي هي سنة الكون وسر استمراره، وبالتالي كيف تغيب عن الوعي العربي العميق ضرورة الحاجة المتأججة الى تأسيس مستمر...
ولست ادري ما اذا كانت الروح التأسيسية هذه هي وراء انغماس عبد الله عبد الدايم في الفلسفة والتربية في آن معا، ام ان هذين العلمين المهمين هما اللذان حفزا لدى استاذنا كل هذه الرغبة والقدرة على التجدد.
ولم يكن أبدا من قبيل الصدف ان يسمى الفلاسفة الكبار بالمعلمين، فما ذلك الا تعبير ساطع عن عمق الارتباط بين الفلسفة والتربية، وبينهما وبين روح التأسيس المتجذرة، التي تسكن جوارح كل معلم كبير.
وبهذا المعنى فالدكتور عبد الله عبد الدايم هو معلم كبير، انه معلم بل معلم في حياتنا الثقافية والقومية، كما هو كبير في تواضعه ودماثة خلقه وبساطة عيشه وتوقد ذهنه وصفاء رؤيته ونقاء سريرته وعمق ايمانه، وسلامة التزامه.
بل بهذا المعنى ايضا، فإن فكر د. عبد الدايم هو فكر العروبة الجديدة، عروبة التشبع بتراث الأمة الروحي والحضاري، وعروبة التطلع الى فهم العصر ومواكبة تطوراته، عروبة المساواة لا التمييز، عروبة التكامل لا الاقصاء، عروبة المواطنة لا المحاصصة، عروبة التفاعل لا الالغاء، عروبة التواصل لا الانقطاع، عروبة المشاركة لا الاحتكار، عروبة التكافؤ لا الاستئثار، عروبة الحرية لا القهر والاستبداد، عروبة الالتزام بالمقاومة بمعناها الشامل، مقاومة الاحتلال الخارجي من اجل حرية الأوطان، ومقاومة الاختلال داخلي من اجل حرية الانسان.

*معن بشور
المصدر: السفير

التعليقات

رحم الله أستاذنا المفكر الكبير والملهم .. صاحب فضل علينا بفكره وإلهامه ودعمه لنا بالأمس واليوم وغدا
الفكر لا يموت

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...