غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟

09-10-2007

غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟

الجمل- غازي أبو عقل:  بالأمس أَوقفَ الأستاذ جهاد الخازن عمودَ "عيون وآذان" الذي يكتبه يومياً في "الحياة"، أوقَفَه على مسألة دارفور متمنياً لو أن العرب شاركوا في يوم الاحتجاج العالمي على المجزرة المُرتَكبة هناك، (جرى الاحتجاج في السادس من أيلول سبتمر)، ماراً في المناسبة نفسها على ما يجري في العراق وفلسطين، عائداً بالذاكرة إلى صبرا وشاتيلا، ناقلاً أرقاماً دقيقة مصدرها المركز الإسرائيلي لحقوق الإنسان (بتسليم) لضحايا  القمع الإسرائيلي منذ بدء الانتفاضة الثانية، يتضح منها أن إسرائيل أكثر إرهاباً بأضعاف مضاعفة من الفصائل الفلسطينية مجتمعة.
إلى هنا والعمود لا غبار عليه، لكن خاتمته جاءت بهذه الصيغة: "أرجو ألا ينسى العالم المحرقة النازية وستة ملايين يهودي قضوا فيها، وأرجو أن يذكروا مرة في السنة صبرا وشاتيلا"...
عَكفتُ منذ أكثر من ربع قرن على موضوع "المحرقة النازية والملايين الستة من اليهود الذين قضوا فيها" متأثراً بكتاب مهم نشره إلياهو بن إليسار(1). قرأت الكتاب أكثر من مرة فازددت علماً بجوهر الصراع بين "الهرتزليين والهتلريين" واكتشفت كونهما من طبيعة واحدة ومن أم وأب معروفين، وثابرت على ملاحقة الموضوع فازدادت قناعتي باضطراد بوجود كمين تاريخي ضخم نُصِبَ من أجل الوصول إلى غايات أكثر إيلاماً بما لا يقاس من الجريمة الأصلية التي اتُّخذتْ له ذريعة. شَكَّلَ رقمُ الملايين الستة من الضحايا ركيزة كبرى من ركائز ذلك الكمين التاريخي، رغم الجدَل الذي أثاره، ورغم نجاح ذلك الجدل في التَّسَبب بإصابات بالغة في أُنظومة ذلك الرقم السحري. وخوفاً من تَعرُّض الرقم إلى مزيد من الإصابات، عمد كبار المنتفعين به والمتضررين منه أحياناً، إلى الضغط على حكومات العالم لكي تتخذ إجراءات تحميه من التحرش من أية جهة أتى، فظهر أولاً القانون الذي اقترح مشروعَه النائبُ الفرنسي الشيوعي جان كلود چايسُّو ووافقت عليه الجمعية الوطنية الفرنسية، فكان وصمة عار وضعت حداً للبحث التاريخي الموضوعي، قلَّدته دول غربية أخرى، مما أسبغَ هالة من القدسية المُصطنعة على الرقم السحري بخاصة وعلى موضوع "إبادة اليهود الأوروبيين" الذي تمكنوا بعد سنوات قليلة من إبادتهم من تزويد أنفسهم بأنظومة من أسلحة الدمار الشامل A.B.C "ذرية جرثومية كيميائية" تَحَسُّباً لأية "إبادة" محتَملة.

في خريف العام 1984 نشر الصحافي الإسرائيلي المعروف شيمون شِيفِّر(2) Sh. SHIFFER كتاباً تُرجم إلى لغات متعددة عن أسرار التدخل" الإسرائيلي في لبنان، أحدث ردود أفعال قوية في إسرائيل بسبب خطورة الاتهامات ودقة المعلومات التي تضمنّها.
كتب شيفر مطولاً عن التحركات السياسية التي جرتْ سراً وعلناً بين اللاعبين على مسرح الشرق الأدنى كباراً ومتوسطين وصغاراً، وأفرد لمهمة فيليب حبيب مبعوث رئيس الولايات المتحدة يومئذ صفحات كثيرة، انتقيتُ منها تلك التي شرحت أسباب وصول تلك المهمة إلى طريق مسدودة، بعد الغارة الإسرائيلية على الفلسطينيين في الدامور، ربيع 1982 التي أحدثت دماراً كبيراً وأوقعت ضحايا بين النساء والأطفال. صدرتْ يومئذ تعليمات عاجلة إلى سفير الولايات المتحدة في إسرائيل لويس LEWIS بمقابلة مناحم بيچن فوراً، لأن واشطن أدركتْ خطورة الموقف، وبعد دراسة احتمالات النتائج قررتْ توجيه إنذار إلى حكومة إسرائيل، وقبيل حلول عطلة السبت في الثالث والعشرين من أيار مايو،وصل السفير لويس إلى منزل مناحم بيچن رئيس وزراء إسرائيل، فاستقبله هذا الأخير قائلاً: "صديقي العزيز أنا أُصغي إليك". احتدم النقاش بين الرجلين وحاول بيچن الالتفاف على أقوال لويس حول الخسائر في صفوف المدنيين ونقلَ الجدل إلى موضوع الصواريخ السورية التي اُدخلت إلى البقاع، مشيراً إلى أن إسرائيل لم تحصل من فيليب حبيب إلا على وعود كلامية، فقال للسفير،  وأنقلُ هنا حرفياً عن الصفحة الخامسة والثمانين من كتاب شيفر الطبعة الفرنسية: "هنالك حدود لصبرنا، في هذه اللحظة يجري تمركز صواريخ أخرى في المنطقة. أيكون واجبنا الاقتصار على انتظار مشاهدة أولادنا يُقتلون؟ إننا نرفض هذه الطريقة في النظر إلى الأمور. سنضرب الإرهابيين قبل أن يتمكنوا من ضربنا. ذَكِّرْ وزير الخارجية: إنني أُمثّل أمةً رأتْ مليوناً ونصف مليون من أبنائها يختفون، وواجبي الحفاظ على حياة أولادنا".
ما سبق كله تمهيد للوصول إلى هذه الكلمات العشر أو الثلاث "مليوناً ونصف مليون". يعرف السيد مناحم بيچن، وهو يجري محادثات رسمية مهمة مع سفير الولايات المتحدة أن الزمان والمكان يفرضان التقيد بحد أدنى من :الموضوعية"، وأن التلويح بالرقم السحري "ستة ملايين" غير مجدي، فيسحبه من التداول ولكنه لا يتنازل عن إشهار سلاح "المحرقة" لتسويغ جرائم إسرائيل المضادة للإنسانية. فالسفير الأمريكي كان يُذكره بما نُشر عن آثار الغارات الإسرائيلية، فيتملص الإسرائيلي قافزاً إلى حبل النجاة، إلى الصراع الهرتزلي الهتلري ونتائجه، مضطراً إلى إضفاء بعض الصدق على ذريعته فيعترف بأن الرقم السحري ليس إلا أسطورة مؤسسة من أساطير خزر القرن العشرين الذين لم يتهودوا إلا متأخرين جداً.
أود التذكير بنتائج أبحاث الكاتب اليهودي الأمريكي راوول هيلبرچ الذي توصل إلى أن عدد الضحايا اليهود الأوروبيين يراوح حول رقم المليون ضحية، وهو أمر فظيع في كل الأحوال، وهنالك شعوب دفعت إلى تلك الحرب الوحشية أضعاف أضعاف هذا العدد، وما زالت شعوب أخرى تدفع أفدح ضريبة. المؤسي أن الأستاذ ادوار سعيد عندما انتقد روجيه چارودي على "جعل عدد الضحايا في حدود المليون" نصحه "الأستاذ سعيد" بقراءة راوول هيلبرچ لأنه باحث نزيه، في حين استند چارودي في اعتماد الرقم على أبحاث هيلبرچ...
منذ مدة طويلة خاض الأستاذ جهاد الخازن في موضوع "الهولوكوست" وتلقى بريداً غزيراً سبَّب له الصداع، فآلى على نفسه ألا يعيد الكرة، ولكنه أعادها مرات، كانت آخرها منذ أيام، مصراً على الرقم السحري حتى وهو يكتب عن دارفور، فلماذا؟
لا أتصور قيام الأستاذ الخازن بتبني رقم مناحم بيچن، لأن صحيفته تصدر في واحد من بلاد العالم الحر نسبياً، وإذا لم تتقيد بالرقم السحري فإنها ستتعرض إلى المتاعب، ومع ذلك أتساءل لماذا لا يتفادى كثيرون من الكتّاب العرب هذا الكمين التاريخي طالما ليس بوسعهم تفنيده كما فعل بيچن ويصرون على الوقوع فيه؟ في جعبتي أمثلة مُوثّقة أخرى مماثلة لشهادة بيچن، تُلقِم قانون چايسو وأمثاله حجراً ضخماً. تتناول ركائز الكمين التاريخي الخزري المعاصر وما نسجه حول الكارثة – الهولوكست – الشُّوَا – المحرقة... ليس مجالها هنا، وتهزأ بالروايات ودواوين الشعر والأفلام "السبيلبرجية" المنحازة (نسبة إلى المخرج سبيلبرچ صاحب لائحة شندلر). لكني لن أمنع نفسي من التوقف عند آخر مبتكرات "الشركة المعولمة لاستحلاب الهولوكست"، إذ قرأت منذ أيام أن مدير شركة المحاماة الإسرائيلية، المدعو باروخ مازور قد تقدم بدعوى ضد ألمانيا كلها لمقاضاتها ومطالبتها بنحو ثلاثمئة مليون يورو من أجل "العلاج النفسي" لأحفاد الناجين من المحرقة، لأنهم يعانون الخوفَ والقلق بسب "معايشتهم" لما مرَّ به أجدادهم. أليست تجارة لن تبور..؟ لو أن الفكرة خطرت ببال محام غير إسرائيلي لربما كانت مقبولة بسبب جشع ذلك المحامي، أما أن تأتي من مخلوق يشاهد كل يوم، ومنذ عشرات السنين جرائم حكومته وجيشه ومواطنيه اليومية، لا التي تُمارس على الأجداد والآباء، بل على الأطفال أنفسهم جيلاً بعد جيل، فإنها جريمة حقيقية أشد فحشاً من جريمة ابتزاز المال من استحلاب الهولوكوست.
أعتذر عن الوقوف عند هذا المسلسل الرديء، رغم كونه لا يُصنَّف مع المسلسلات الرمضانية، وأكتفي من الغنيمة بإعادة السؤال، أنا القاريء العربي لما يكتبه الإعلاميون العرب، هل أُصَدّق مناحم بيچن أم الأستاذ جهاد الخازن؟ في ما يتصل بالرقم السحري ليس إلا.

 

([1]) إلياهو بن إليسار. دبلوماسية الرايش الثالث واليهود 1933-1939. بالفرنسية الناشر: Julliard باريس 1969.

([1]) شيمون شيفِّر. العملية العسكرية كُرة الثلج – أسرار التدخل الإسرائيلي في لبنان. بالفرنسية. الناشر
JC LATTES باريس 1984.

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...