لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي

15-10-2007

لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي

يشكل موضوع التنوير هاجسا مركزيا في كتابات هاشم صالح. انطلاقا من عدم تحقق هذا التنوير، يقرأ التخلف العربي وانفجار الاصوليات بشكلها الراهن، كما تحتل مقولة تموضع العرب راهنا في عقلية القرون الوسطى الاوروبية مفتاحا لفهم واقع المجتمعات العربية الحالية  ومؤشرا للوجهة التي يمكن العرب من خلالها الدخول الى العصر، اي تحقيق التنوير المفقود حتى الان. يشكل كتابه الاخير "الانسداد التاريخي، لماذا فشل مشروع التنوير العربي؟" والصادر عن "دار الساقي" مساهمة في فهم مأزق العالم العربي راهنا، حيث يركز على تبيان العوامل الموضوعية والذاتية التي ادت الى فشل مشروع التنوير في العالم العربي والذي يلخصه "بنقد الوصاية الخارجية على الانسان اي الوصاية اللاهوتية والدينية وتحقيق استقلالية العقل بالقياس الى النقل".
يعتبر صالح ان الواقع العربي الحالي يتماثل الى حد كبير بواقع اوروبا في القرون الوسطى وخصوصاً في القرن السادس عشر عشية الاصلاح الديني. كانت اوروبا تحيا في ظل هيمنة مجموعة من اليقينيات المطلقة حيث يحصر  الدين المسيحي في قوالب مغلقة، والتزام حرفي للنص من دون السماح باجتهاد يخالف ما تكون الكنيسة قد قررته. كان من نتائج هذا الواقع تسييس الدين الى اقصى الحدود واستخدامه في المصالح الشخصية، ونجم ايضا عن ذلك غرق اوروبا في حروب مذهبية ودينية امتدت عشرات السنين واورثت اوروبا اصوليات وتعصبا طائفيا ومذهبيا، فاقمتها سياسة الكنيسة القمعية عبر محاكم التفتيش. لم يكن لاوروبا ومعها المسيحية ان تخرج من هذه الظلامية الا بعد مراجعة نقدية تاريخية لتراثها ونصها الديني المستند الى التوراة والانجيل. هكذا شكّل القرن الثامن عشر قطيعة مع العصور السابقة من حيث التخلي عن الرؤية التقليدية للعالم واحلال الرؤية العلمية حيث يمثل العقل قاسما مشتركا. وبذلك تحقق تحرير السياسة من ربقة اللاهوت الطائفي وبات العقل والروح النقدية يحتلان الذروة العليا. وصلت اوروبا ومعها الغرب الى هذا الوضع بعد دفع اثمان باهظة من الحروب والدمار.
يهتم هاشم صالح بمقارنة الواقع العربي الحالي بالعصور الوسطى الاسلامية ايام ازدهار الحضارة العربية والاسلامية حيث كان هناك رؤية شاملة عن العالم والانسان والله مبنية على العقل والايمان معاً. شكلت فرق علم الكلام وخصوصا المعتزلة منها مناخا واسعا للجدال حول القضايا اللاهوتية انطلاقا من استخدام العقل، لكن تلك الاجواء لم تدم طويلا بسبب ما اصاب الحضارة من انحسار وضمور تسببت به اولا الغزوات المغولية وما تبعها من افقار وتقهقر للطبقات التجارية. لكن الاثر السلبي الاخطر والذي لا يزال يمسك بتلابيب الحاضر، كان انتصار اصحاب الرؤية المنغلقة على التراث والنص الديني واغلاق باب الاجتهاد في النص وتسديد هزيمة كبرى للتيارات العقلانية عبر ازاحة العقل واحلال النقل مكانه وابعاد التفسير التاريخي عن النص الديني والتراث. من هنا يجب فهم الانسداد التاريخي الذي لا يزال يلف العالم العربي والاسلامي.
يسعى صالح من هذه الاستعادة الى القاء الضوء على نشوء الحركات الاصولية، فيرى ان هزيمة العرب في حرب حزيران 1967 تشكل عنصرا مفتاحيا في النشأة، وقد عمّقتها الانهيارات المتتالية في المشروع القومي العربي بشعاراته وقواه، مما خلق فراغا تقدمت التيارات الاسلامية لملئه تحت عنوان "الاسلام هو الحل". بلورت هذه التيارت ايديولوجيا قامت على فهم متزمت للدين، واستخدمت النصوص الدينية وفق قراءة حرفية للنص تفرغه من تاريخيته والمناسبة التي اوجبته. وغالت بعض التيارات الاصولية في توظيف النص في تبرير اعمالها العنفية والارهابية. من المعروف ان القرآن يحوي آيات تدعو الى محاربة غير المسلمين، كما يتضمن آيات تدعو الى الرحمة. نزلت آيات العنف في مرحلة معينة من الفتح الاسلامي، لكن هذه الاصوليات ترفض تنسيب هذه الايات الى واقع تاريخي لم يعد موجودا، وتصر على راهنيتها انطلاقا من قراءة ترفض الاجتهاد في النص وتتعاطى مع القرآن بانه كتاب الله الصالح لكل زمان ومكان والمطلوب وضع احكامه موضع التطبيق. تسببت هذه القراءة غير التاريخية للنص الديني في ازدهار الفتاوى من رجال دين كيفما كان، تبرر القتل لغير المسلم وتهدر دم المجتهد اذا حاول قراءة النص قراءة علمية عقلانية وتاريخية، بحيث يمكن القول اننا امام محاكم تفتيش وعقلية قائمة على التعصب شبيهة جدا بما عرفته اوروبا زمن انحطاطها.
يقر هاشم صالح بمحاولات عربية واسلامية حديثة سعت الى مشروع تنويري وتحديثي تمثل برواد النهضة في القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. يرى ان فشلا ذريعا اصاب اصحابه، ناجما عن عوامل داخلية وخارجية. في العوامل الداخلية يركز على الواقع السياسي الذي يهيمن الاستبداد على ميدانه وتكاد حرية الفكر تنعدم تحت وطاة ارهاب السلطة السياسية و"محاكم التفتيش العربية". يقترن هذا الاستبداد بانتصار اهل التقليد والتفسير على اصحاب التيار العقلاني وسيادة العقلية الخرافية. يضاف الى ذلك البؤس الاقتصادي الذي يلف معظم الشعوب العربية، واخيرا الانحطاط الثقافي الغالب والعجز عن الافادة من انجازات الغرب. اما لجهة الاسباب الخارجية فيرى صالح انها تتمثل في الهجمة الاستعمارية على المنطقة العربية وتكريس انظمة ديكتاتورية وتأبيد البنى المتخلفة القبائلية والعرقية والطائفية، كما تتمثل في اقامة الكيان الصهيوني وزجّ العرب في صراع منهك كبّدهم ولا يزال خسائر مادية وبشرية واستنزافا لقواهم بما يكرس هذا التخلف الموجود اصلا.
على رغم اللوحة المتشائمة التي يرسمها هاشم صالح للواقع العربي، الا انه يظل متفائلا بامكان الخروج من هذا النفق. فهو يجزم بأنه محكوم شاء ام ابى بخوض معركة كبرى عنوانها "مراجعة نقدية - تاريخية لتراثنا وماضينا منذ بداياته الاولى حتى اليوم"، ويؤكد في هذا المجال استحالة حصول التنوير من طريق نقل التجربة الاوروبية كما يتخيل بعض المثقفين. فالتنوير معاناة لا بد للداخل ان يتحمل ويلاتها ونتائجها، وذلك عبر نزع القداسة الالهية عن التراث "لكي يبدو على حقيقته داخل التاريخ وكنتائج للتاريخ". في هذا المجال قد يبدو انفجار الاصولية بشكلها الراهن مرحلة ضرورية قبل "الوصول الى النور والحقيقة"، كما قد تشكل تفجيرات 11 ايلول حافزا في هز الوعي العربي وايقاظه من سباته وعنصرا مساعدا على القيام بالمراجعة.
مشروع التنوير الذي يدعو هاشم صالح الى القيام به هو نفسه المشروع النهضوي الذي يحتاج اليه العالم العربي راهنا ومستقبلا. يتفاءل صالح باننا واصلون لا محالة الى هذا التنوير الذي هو "امامنا وليس خلفنا". اذا اخذنا الامر بالمعنى التاريخي غير المحدد في الزمان والمكان، فقد يبدو التفاؤل في مكانه. اما اذا نظرنا الى مشروع التنوير - النهضة من حيث شروط تحققه، وفي مقدمها تكوّن قوى هذا المشروع بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فان المسافة قد تبدو بعيدة جدا بين الممكن والواقع، بما يجعل المسحة التشاؤمية حيال الخروج من نفق الظلامية سائدة الى امد غير منظور.

خالد غزال

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...