محمد أوزون يلاحق ظلال الحياة الكردية

17-10-2007

محمد أوزون يلاحق ظلال الحياة الكردية

كان ذلك منذ عام تقريبا. وقف محمد أوزون (مواليد العام 1953)، ليلقي الكلمة الرئيسة لافتتاح مركز ما في مدينته «ديار بكر» التي عاد إليها بعد سنين طويلة من المنفى. بدا عليه التعب، إذ كان في فترة متقدمة من فترات العلاج، إثر إصابته بالسرطان. قلت لرزق ـ الذي كان دليلي في ذلك المؤتمر الذي دعيت إليه، وهو شاعر أيضا ـ إنني أرغب في إجراء حوار مع الكاتب. اعتذر محمد أوزون معللا الأمر بالتعب وبأنه سيعود في صبيحة اليوم التالي إلى المستشفى لمتابعة العلاج. هي لحظات فقط، أتاحت لي الصدفة فيها أن ألتقي هذا الكاتب، الذي سبق أن تعرفت عليه، عبر ترجمات فرنسية لرواياته. ربما هذا ما يتبقى من الكتّاب: كتبهم التي نعود إليها بعد رحيلهم. إذ غيّب الموت منذ أيام الكاتب الكردي محمد أوزون بعد صراعه مع المرض، والذي يعد حقا من أشهر الكتاب الأكراد في العصر الحديث، بل ربما ـ ومثلما يصفه النقاد ـ مؤسس الرواية الكردية المعاصرة.
أمام ذلك، ثمة سؤال لا بد أن يطرح نفسه علينا: هل نعرف حقاً الأدب الكردي الحديث؟ سؤال يبدو بسيطا من حيث الشكل، بيد أن الصعوبة تكمن حقا في الجواب، بالرغم من ان قول كلمة كلا تبدو سهلة من حيث النطق بها. كلا، لا نعرف الأدب الكردي الحديث (ولا حتى قديمه). قد (نعرف( المجازر التي ارتُكبت بحق الأكراد، وقد نعرف صراعاتهم الداخلية، وقد نعرف تشردهم ومنفاهم وبحثهم الدؤوب عن دولة تضمهم. لكن مع ذلك كله، لا نعرف إلا فتات أدب عظيم، أتاحت لنا بعض الترجمات القليلة إلى العربية، إلقاء نظرة سريعة عليه. والأنكى من ذلك كله، أننا غالبا ما تحدثنا عن صداقة الشعوب، وعن الصداقة الكردية العربية وعن الظلم المشترك الذي لحق بكلينا، وعن العديد من الأمور الأخرى. لكن ما ان يصل المرء إلى طرح تساؤل حول هذا الأدب، حتى يكتشف جهله التام به. والأنكى أيضا وأيضا أننا نكتشف بعض قممه، عبر لغة أوروبية، إذ عديدة هي الترجمات اليوم، إلى اللغات الأوروبية، بينما الترجمات الحقيقية إلى اللغة العربية قد تبدو شبه غائبة. في أي حال، يغيب محمد أوزون بعد أن عاش 28 سنة في منفاه السويدي، ولم يسمح له بالعودة إلى بلاده إلا في العام 2005 ، هذه الحياة التي رواها في العديد من كتبه، وبخاصة في «ملاحقة الظل» (وفق الترجمة الفرنسية)، وهي التي تتحدث عن قصة هذا التيه الطويل، قصة هذه الحياة بأسرها التي تمضي من هزيمة إلى هزيمة أخرى ما بين اسطنبول والإسكندرية وحلب وبيروت وأنطاكية وغيرها العديد من مدن «الشرق المعقدة».
كتابه هذا، كتاب عن الغياب وملاحقة السراب: المرأة المحبوبة مثل الوطن «المحلوم» به دائما والذي يتعذر الوصول إليه دوماً. من هنا، تتبدى حياة ممدوح سليم بطل الرواية وهو (المثقف الكردي، ووعي الشعب المضطهد، والداعر الذي يركض خلف الملذات(، كأنها كانت معركة من أجل لا شيء، إنها العمى الطوعي المضطلع به بشكل حر، لدرجة انه لا يندم أبدا على ذلك كله، حين تدق ساعة الحساب والموت.
نحن أمام نبرة حزينة وساخرة في الوقت عينه، أمام إيقاع يشبه إيقاع النزهات القديمة العائدة للأدب الشعبي الذي كان موجودا فوق هضبة الأناضول والذي يذكر حتما بأدب يشار كمال. إزاء ذلك لا نستغرب أبدا أن يكتب كمال (الكاتب التركي ذو الأصول الكردية) مقدمة لرواية أوزون حيث يقول فيها «إن الأسطورة في هذا الكتاب تتكلم من دون أن ترغم لغة الرواية». ويمضي أشهر الكتاب الأتراك بالقول من دون أن يخفي إعجابه: «لقد نجح (أوزون) في إبداع حداثة هي النتاج الحميم لتحويل التراث».
- وجد بعض النقاد أن رواية أوزون هذه، هي أشهر رواياته بالرغم من أن «كاتبها لا يزال مجهولا من قبل مكتبات العالم» وبالرغم من انه أصدر العديد من الروايات التي ترجمت إلى 6 لغات على الأقل من بينها اللغة التركية. لكن بعيدا عن الكتابة، نجد أن أوزون كان قد وقّع في نهاية العام ,1999 في اسطنبول، نداءً مشتركا مع يشار كمال وأورهان باموق من أجل الاعتراف بالثقافة الكردية في تركيا. بيد أن ذلك كله، قد يقف في المستوى الثاني، إذ إن للكاتب تجربة أدبية خاصة جدا.
يتحدث محمد أوزون عن الدراما الكردية بصفته كاتبا، أي بعيدا عن «لغة الخشب»، من دون شفقة، ومن دون إيديولوجيا مسبقة. لكن الأهم من ذلــــك كله، انه يكتب باللـــغة الكردية «الكرمانجية»، وهي لغة أكـــراد تركيا، التي همشت خلال حكم السلطنة العثمانية، والتي منعت من التداول منذ العشرينيات في الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك.
ينحدر أوزون من قرية قريبة من ديار بكر، العاصمة الجنوبية الشرقية الأناضولية ذات الأغلبية الكردية. وبإمكاننا فعلا أن نعتبره كاتبا رائدا اختار «الأدب بديلا من السياسة» كي «يجعل شعبه شعبا موجودا». سجن للمرة الأولى في حياته وهو في السابعة عشرة من عمره، وهناك تعرف إلى موسى عنتر الذي اغتيل منذ سنوات. وهذا الأخير كان مثقفا ملتزما خلال ما يقارب نصف قرن في الصراع من أجل الاعتراف بالثقافة الكردية داخل تركيا، وهو أيضا مؤلف قاموس تركي كردي.
بعد ذلك، أدار محمد أوزون مجلة بالكردية بعنوان «رزكاري» (تحرير)، ما سبب له فترة ثانية من السجن في العام .1976 بعد خروجه، غادر إلى ستوكهولم. رغب دائما في أن يكون روائيا، لكنه قرر، بخلاف غالبية أقرانه، أن يكتب بالكردية.
في مقابلة له، يقول الكاتب «كان الأمر مراهنة حقيقية، إذ ليس هناك أي لغة أدبية. إن المثقفين يتكلمون الكردية بشكل سيّئ ويمزجونها برطانة سياسية دبقة». ولكي يبقى على تواصل مع هذه اللغة، تجده يستمع دوماً إلى الحكواتيين الشعبيين الأكراد كي يشكل ويعجن لغته المكتوبة لكي لا تصبح نوعا من «الفولكلور والدعاية».
كان الرهان صعبا أيضا بسبب النقص في عدد القراء، إذ إن الجميع يدرسون في المدارس التركية، اللغة التركية فقط ولا شيء سواها. أما المثقفون والكتاب الأكراد، ومن بينهم يشار كمال، فقد كتبوا بالتركية كي يصلوا الى أكبر عدد من الناس، ولأنهم فضلوا ذلك على اللغة التي لا يتقنونها جيدا. صحيح أن الرعاة والفلاحين لا يزالون يتحدثون بالكردية، لكنهم لا يقرأون الكتب. يقول أوزون «في البداية كان هناك المئات من الأشخاص الذين يستطيعون قراءة رواياتي بلغتها الأصلية، أما اليوم فقد أصبحوا بالآلاف».
عندما عاد للمرة الأولى إلى ديار بكر بعد 21 عاما من المنفى. استقبله حشد من القراء الذين وقفوا لمدة 8 ساعات متواصلة كي يحصلوا على توقيعه على كتاب نُشر بالكردية وسُمح به في تركيا.
«ملاحقة الظل» قد يبدو انه يستعير بعض سمات السيرة الذاتية، فهو يدور مع بداية الجمهورية التركية، حين كان لا يزال العالم يمسح جراح مذبحة 1914 ـ .1918 يومها كانت تركيا تبني نفسها على أنقاض السلطنة، بينما كانت القوات المنتصرة تتراجع عن وعودها، إذ وجد الأكراد أن آمالهم في دولة مستقلة تذهب أدراج الرياح.
أحد الناطقين باسم «هذه الآمال» يدعى ممدوح سليم، وقد وجد نفسه مضطرا إلى مغادرة تركيا لتجنب السجن. صحيح انه لا يحب السلاح، وهو رجل هادئ، طيب، مرهف، لكنه أيضا، رجل مرتبط بثقافة مسقط رأسه. وحول هذا المنفى يقدم لنا محمد أوزون رواية تسجل متاعب شعب ومصاعبه وآلامه ومأساته، في مناخ يقترب كثيرا من الملحمة.
ما قام به أوزون، فعلا، هو إعطاء نفحة جديدة لهذا الأدب الكردي، لذلك يبدو أن منفاه الطويل على خلاف مع منفى بطله: لم يذهب أدراج الرياح.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...