مصر وسوريا وإيران

20-12-2013

مصر وسوريا وإيران

لم يعد باستطاعة أحد أن ينكر تقدم النظام السوري وتراجع القوى المسلحة تحت مسمى «الجيش الحر»، وما الى ذلك من تسميات بقيت تسميات، ولم تستطع أن ترقى الى مستوى الواقع السوري.
تظهر هذه الملامح في الموقف الراهن على ارض سوريا متمثلة في تراجع القوى التي حاولت طوال نحو ثلاث سنوات ان تهدم الوجود السوري. ولقد بدأ الاعلام الغربي ـ وبعده ما يطلق على نفسه وصــف الاعـلام العربي ـ يتحدث بصراحة وموضوعية عن الوضع الراهن في سوريا باعتباره تراجعاً للقوى الخارجية التي ارادت ان تقطع سوريا إرباً وتحولها الى إمــارات متعددة منقسمة على نفسها وتابعة في مجموعها للنفوذ الغربي والنفطي (العربي). وتعبيراً عن الوضع الجديد الذي وجدت القوى المعادية لسوريا نفسها فيه كتب الاعلام الغربي معترفاً بأنه «في الوقت الذي اكملت فيه الازمة السورية ألف يوم من الصراع مع نظام بشار الأسد فإن الثورة التي كانت تحمل قدراً كبيراً من التفاؤل في بداياتها تخبطت بتخبط الكيانات المعبرة عنها وأضحت رهينــة لتحالفــات وتوازنــات دولية لا تعبأ بأنين الشعب تحت وطأة القــصف والقــصف المضاد ...».
وكتبت الصحافة الغربية عن أربعة اسباب لهذا التحول. وفي مقدمتها اتحاد عدد من الكتائب الاسلامية في جبهة واحدة، وضعف الدعم العربي والغربي لما يسمى بـ«الجيش الحر»، والفشل الإداري لقيادته، وأخيرا الدعم الإيراني الكبير لسوريا. وتعكس هذه الكتابات ما هو أكثر من مجرد تراجع القوى الخارجية المناهضة للنظام السوري. ولكنها تتعمد ان تغفل هذا الجانب، وهو البرهنة القوية على ان الشعب السوري بغالبيته يقف الى جانب نظام بشار الأسد ويدعمه، بالرغم من الأضرار والأذى الفادح الذي تلحقه القوى المناهضة لهذا النظام بسوريا البلد العربي ذي التكوين المتعدد الطوائف والاصول العرقية. ولولا هذا التأييد الشعبي ما كان بإمكان سوريا ان تصمد بينما لم تصمد بلدان عربية اخرى تعرضت للتدخل المخطط من جانب قوى الغرب ممثلة في الولايات المتحدة وأوروبا والحلف العسكري الأطلسي الذي يجمع بين هذين الكيانين.
وفي الوقت ذاته فإن القوى المتراجعة في الصراع الدائر في سوريا تصر على وصف موقف إيران تجاه أزمة سوريا بأنه «دعم إيراني كبير»، وهي في هذا تغفل واقع ان الدور الإيراني لا يتعدى حدود الدعم السياسي لنظام شرعي يدافع عن توجهات الشعب في سوريا ضد الخطط الاميركية أساساً. ولو ان القوى المتراجعة في سوريا تنبهت الى الحقائق لاعترفت بأن إيران لا تقف في الجانب المنتصر في سوريا فحسب. إن إيران نفسها تقف في مواقع الانتصار أمام الولايات المتحدة وأوروبا. هذا هو ما أسفر عنه مؤتمر جنيف، الذي شاركت فيه إيران ودول مجلس الأمن الخمس الدائمة العضوية بالإضافة الى ألمانيا. وهو انتصار إيراني اقتربت الادارة الاميركية كثيراً من الاعتراف به وهي تواجه المعارضة المناهضة لهذا المؤتمر والاتفاق الذي أسفر عنه. لكن الأمر الذي يلفت النظر أكثر من هذا هو وصف الصحافة الغربية للتطورات الاخيرة بشأن الازمة السورية بأنها «تراجع الدعم العربي أمام الدعم الإيراني غير المحدود لقوات الأسد».
وإذن فإن القوى العربية التي وقفت ضد سوريا بحجة الوقوف ضد نظامها الحاكم تراجعت مع تراجع القوات التي أبقت طوال الألف يوم من الصراع على موقفها. ومن الواضح انها كانت تتصور ان يستمر الدعم الغربي لها، ولكن مؤتمر جنيف ـ بمجرد انعقاده بالاضافة الى النتيجة التي انتهى اليها ـ مثّل ضربة قاسية للقوى الخارجية التي تآلفت ضد سوريا في الصراع المسلح، الذي مولته وسلّحته قوى عربية معروفة. ولكن ما حدث بالفعل هو تدهور الهيكل الاساسي للمعارضة السورية المسلحة، اذ فشل المجلس العسكري الاعلى الذي شكل في أواخر العام 2012 في تحويل «الجيش الحر» الى بناء هيكلي قادر على توسيع سيطرته في الاراضي «المحررة»، فضلا عن «نقص الذخائر وضعف وسائل نقل العتاد والمقاتلين، وضعف تأمين الحدود وغياب التنسيق على مستوى التمويل والعمليات العسكرية». وهذه عبارات عبّر بها متحدث باسم «الجيش الحر» عن طبيعة الوضع الراهن. ويلاحظ هنا أن الإعلام الغربي الذي نقل هذه العبارات اكتفى بإظهار نقاط الضعف التي اصابت المعارضة المسلحة وامتنع هذا الاعلام عن ذكر العوامل الإيجابية التي مكنت الجيش السوري من تحقيق ما حققه من تقدم على الأرض.
أما أن هذا التقدم السوري حدث في الوقت الذي توقعت فيه كل القوى المناهضة للنظام السوري أن تساعدها الاحداث في مصر فهذا جانب آخر مختلف تماماً. كان ظن القوى المناهضة ان مصر ستدفع من جانب القوى الحليفة لأعداء سوريا نحو مصير مماثل او على الأقل شبيه بما حدث في سوريا قبل الانتكاسة الاخيرة التي أصابت هذه القوى المناهضة. لكن ما حدث في الواقع الحقيقي هو ان مصر استوعبت شعبياً درس سوريا. وعندما بدأت مصر تتماسك وتقوى في وجه القوى المعادية، وهي نفسها القوى المعادية لسوريا، تزامن هذا التماسك مع زمن صعود نجم القوات السورية الرسمية والشعبية في المواجهة مع المعارضة «الأجنبية» المسلحة. ولم يكن هذا التوحد في التزامن بين تصاعد أدوار القوى الرسمية والشعبية في مصر وسوريا مصادفة بحتة أو تطوراً مؤقتاً. بل الحقيقة أن مصر واجهت تحدياً لفرصها جاء من جانب السعودية، التي تؤدي دوراً مناهضاً للقوى الرسمية والشعبية في سوريا. لقد سارعت السعودية الى تقديم عون مالي لمصر في لحظة بالغة الحرج لمصر الرسمية والشعبية. وكان المتوقع من الجانب السعودي ـ يقيناً ـ أن يؤدي هذا العون الى تحول سياسي في موقف مصر من تطورات الأزمة السورية. إلا أن مصر تصرفت على نحو لا يلبي هذا المطلب من المملكة السعودية، بل لا يتفق مع توقعات السعودية بعد دعمها المالي.
وصحيح أن الموقف المصري اتسم بدرجة عالية من الحذر. ولكن هذا الحذر احتفظ بوجهين، احدهما يتفق مع العرفان للموقف السعودي الإيجابي، والثاني يتفق مع أهمية سوريا الرسمية والشعبية لمصر. لهذا لم تندفع مصر نحو تأييد غير مشروط للسعودية في موقفها من الأزمة السورية. وهو موقف أعطى كل ما يستطيع أن يعطي للمعارضة المسلحة الداخلية و«الأجنبية» في سوريا. كذلك أظهر عدم استعداد أكيد لمؤازرة هذه المعارضة نفسها نزولا عند رغبة السعودية. وحسناً فعلت السعودية اذ أنها لم تظهر غضباً إزاء الموقف المصري من سوريا. بل الواقع أن السعودية أظهرت استعداداً غير متوقع منها لفتح أبوابها الديبلوماسية أمام اتصالات إيجابية مع إيران. وهو موقف لا يختلف عن موقف مصر إزاء إيران، بالرغم من وجود قوى في المشهد المصري الحالي تناهض التحرك الإيجابي المصري تجاه طهران.
ولم تبطئ طهران الرسمية في إظهار موقف إيجابي للغاية تجاه الواقع الحالي في مصر. هذا ما قصد اليه رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني حين قال قبل أيام ـ في لقاء مع الوفد المصري للديبلوماسية الشعبية أثناء زيارة لطهران ـ «إن الثورة المصرية عريقة ومهمة بالنسبة لإيران، وإن تأثير مصر في دول المنطقة وبالنسبة للإسلام مهم للغاية وإن الشعب والجيش المصري يتمتعان بالأصالة والعراقة». وأضاف لاريجاني «إن تحرك الثورة المصرية يسير نحو التقدم، وانطباعنا هو أن الاستعمار الغربي يحاول دخول المنطقة بغطاء جديد عن طريق إثارة الخلافات بين المذاهب. فربُّنا وكعبتُنا ورسولُنا وتراثُنا واحد».
إن الأمر الذي لا يمكن ان يقترب الشك منه في ما يتصل بالعلاقات بين العرب وإيران هو أن هذه العلاقات تشغل التفكير الغربي الرسمي الآن أكثر من اي وقت مضى، حتى منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية. ونكاد نؤكد بيقين لا مزيد عليه ان الاتصالات الرسمية بين مصر والولايات المتحدة ـ وبصفة خاصة الاتصالات بين القيادتين العسكريتين للبلدين - مثل اللقاءات التي تمت في الأشهر الأخيرة بين قيادة الجيش المصري والقيادة المركزية الأميركية - أظهرت اهتماماً من الجانب الأميركي بشكل خاص بالموقف المصري تجاه إيران والعلاقات معها. إن الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على الاتصالات المصرية - الإيرانية، وما يمكن ان تشكله من ضغط على إسرائيل بشأن الوضع العام في المنطقة. ويبدي الجانب الأميركي اهتماماً فائقاً بالدور الذي يمكن لمصر ان تؤديه في تحقيق قدر أكبر من التقارب بين واشنطن وطهران.
وقد يبدو هذا مناقضاً تماماً لاتجاه اسرائيل المعادي لإيران. وهذا بدوره يزيد من اهمية الدور الإيراني مع وليس ضد الدول العربية.
إن التطورات الجارية في مصر وسوريا وإيران في الأشهر الأخيرة تحمل على تفاؤل عربي وإيراني وتشاؤم إسرائيلي في المقابل.

 

سمير كرم: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...