ألبرتو مانغويل: يوجد اليوم أدب لا يطرح أسئلة على الحياة بل يرفع شعارات

21-09-2012

ألبرتو مانغويل: يوجد اليوم أدب لا يطرح أسئلة على الحياة بل يرفع شعارات

منذ سنتين، يبدأ نهار الكاتب ألبرتو مانغويل، بقراءة نشيد واحد من «الكوميديا الالهية»، إذ يجد أنه لغاية الآن لم يستطع معرفة المستوى الأول من النص كي يفهمه. في أي حال، وبعيدا عن ذلك، يشكل الكاتب الأرجنتيني، حامل الجنسية الكندية، والذي يعيش اليوم في فرنسا، ظاهرة ما في المشهد الأدبي المعاصر، على الأقل من حيث حلمه بهذه المكتبة الكبيرة، التي أبدعها بورخيس. ومانغويل ليس غريبا عن بورخيس، إذ تعرف عليه حين كان في السادسة عشرة من عمره، وعمل لديه، ليعود ليكتب هذه التجربة في العديد من كتبه.
مجلة لوبوان الفرنسية، أجرت مؤخرا حوارا مع مانغويل، نقدم هنا ترجمته:

÷ «بالنسبة إلى مانغويل، لا شيء صحيحا، إلا إذا كان مكتوبا في كتاب»، هذا ما يقترحه أحد رواة روايتك الأخيرة «كل الرجال كذابون» بصدد إحدى الشخصيات التي أعطيتها اسمك.. هل تجد نفسك في هذه الجملة؟

} بمعنى من المعاني حتى وإن كانت هذه الجملة تحمل بعدا ساخرا. عرفت طفولة مرحة. كنت وحدانيا، لم أكن أذهب إلى المدرسة، وكان لدي حاضنة لتهتم بي. بالنسبة إليّ، كان العالم، بما أنه مغامرة، موجودا في الكتب. بالطبع، أميز اليوم بين الأمور، لكني أستمر بالاعتقاد بأن معرفة حقيقية للعالم لا تمرّ إلا عبر الكلمات. ربما هناك أناس ينجحون في فهم العالم عبر وسائل أخرى. بيد أنه من الضروري لي أن أضع كلمات على الأسئلة التي أطرحها على نفسي، وحول أي تجربة. إلا أنني أفضل الكلمات في الكتب.

÷ تقول في كتاب «غابة الكلمات» إن ديكنز اخترع لندن، ومارك توين اخترع الميسيسيبي..

} بالتأكيد! وبالطريقة عينها التي لم تعد فيها الكلمات بريئة أبدا، هكذا هو العالم أيضا. من المؤكد أنه من الممكن أن نصل إلى مكان يبدو لنا حياديا، لكنه غير معروف كثيرا. إن اصغر قرية بعيدة في فرنسا لا بدّ من أن كلمات سيمنون أو جيونو قد أصابتها أصداؤها.. في حالة المدن الكبيرة، نجد أن جزءا من جاهها عائد إلى الأدب. كيف يمكن تخيل باريس، لندن، البندقية بدون الكتاب التي كتبت عنها؟ وصلنا إلى مرحلة صار معها من المستحيل أن نعري هذه المدن كي ندرك ما كانت عليه بدون الأدب.

÷ حين التقيت بورخيس، كنت قارئا شغوفا به. ما الذي علمك إياه؟

} حرية كبيرة. كلّ قارئ سيكتشف يوما أن الأدب لا ينتظم أبدا عبر المواضيع أو الجنسيات أو التسلسل التأريخي، بل وفق تداعيات حميمية، وأحيانا سرية. بالنسبة إلى كل قارئ هناك قصة للأدب نجد فيها أن كل الكتّاب وكل الأنواع وكل الجنسيات مختلطة ببعضها البعض. بالنسبة إلى بورخيس، كان هذا المزيج طريقته في العمل. لم يكن يزعجه أبدا أن يجمع أغاتا كريستي بأفلاطون، إن وجد أن لديهما فكرتان قريبتان منه. لم يكن يعتذر عن ارتكاب المفارقات، الأخطاء التي يمكن لأي مؤرخ أدبي أن يصفها بقدح في الذات الملكية. بالنسبة إليه، هناك بعض الكتّاب المهمين لا يساوون عنده شيئا. لم يكن زولا، بلزاك، موباسان، غارسيا لوركا، شاتوبريان موجودين بنظره! يمكننا أن نصنع تاريخا للأدب أكثر شرفا انطلاقا من الكتّاب الذين كان بورخيس يحتقرهم.. أبان لي أيضا كيف يمكن اكتشاف آلية الكتابة. طلب مني أن أقرأ له في اللحظة التي قرر فيها أن يعود إلى كتابة النثر، وهذا ما منع عنه منذ أن أصيب بالعمى. قبل أن يبدأ، أراد أن يعرف كيف أن كبار كتّاب القصص توصلوا إلى ذلك. تتطلب القراءة ليس فقط علاقة المتعة هذه مع النص، بل أيضا بحثا أكثر شكلانيا حول الطريقة التي تنبثق عند كلّ كاتب. وهذا التقصي، بدوره، يشكل متعة.

÷ احد الأسئلة التي تجتاز عملك هو معرفة ما هو القارئ..

} القارئ المثالي، هو المترجم بالتأكيد. هذه أيضا فكرة لبورخيس كان أطلقها. حين تترجم، عليك أن تفهم بأي طريقة صنع عليها النص، كي يمكنك أن تعيد صنعه على طريقتك. وهذا ما يطرح سؤال تحديد الأدب نفسه. النص الأدبي، هو هذه الكلمات المختارة كي يتم وضعها في ترتيب لتعطيها موسيقى ما. لكن إن أزلت منها القواعد، موسيقاها، كلماتها كي تبدلها بأخرى، فما الذي عندها يسمح لك بالقول بأن الأمر يتعلق بالنص عينه؟ ما الذي يسمح لك بالقول إنك تقرأ دوستويفسكي، في حين ما من عنصر من تلك التي وضعها في نصه موجودة هنا؟ إنه سؤال بدون جواب، وهذا ما يحدد، بالنسبة إليّ، الأدب.

تعددية اللغات

÷ لكن تعددية اللغات، هي أيضا سبب الغنى، أليس كذلك؟

} يمكننا أن نعتبر أن لعنة بابل إما بمثابة كارثة وإما بمثابة غنى. يمكن أن نجعلها وسيلة إقصاء، تجميد للغة وهوية. لكن يمكن أيضا اعتبار هذه اللعنة بمثابة سعادة سمحت لنا أن نسمي الذي لا يسمى بواسطة عدة أدوات. كل لغة، هي لغة ضعيفة، غير دقيقة. ما من كلمة تعبر عما نريد منها أن تقوله. لكن تعددية اللغات تسمح لنا بأن نحاصر الفكرة عينها عبر أصوات عدة.

÷ أنت نفسك، تكتب بعدة لغات، وبخاصة الإنكليزية والاسبانية.. لماذا تحب أن تمر من لغة إلى أخرى؟

} مختلف اللغات التي أتكلمها تستعير بعض العناصر من بعضها البعض. هذا الخفر الذي يشكل سمة اللغة الانكليزية يعطي الاسبانية دقة غير مسبوقة، في حين أن شهوة الاسبانية، هذا الكرم الذي يتطلب ردم الجملة بالأفعال والصفات والأحوال، يمكن أن تعطي الانكليزية موسيقى غير معهودة. تُصيب اللغات بعضها البعض بالعدوى. هناك لغات صافية أكثر مما هناك أعراق صافية.

÷ في العمق، أليس كل قارئ مترجما؟

} بالطبع، لأن كلّ قارئ يحول النص الذي يقرأه إلى تجربة خاصة به، وذلك وفق حمولته الثقافية والعاطفية والشخصية. لهذا نجد أن النص ليس هونفسه عبر القراءات المتعددة التي نقوم بها خلال حياتنا، بل يصبح كتابا آخر في كل مرة نقرأه فيها. «رامبو» لم يكن نفسه لا وأنا في الثالثة عشرة، ولا في الثلاثين ولا الآن. أفكر بقصة تسليني جدا. خلال حرب الجزائر، قُدم عرض لمسرحية «وحيد القرن» ليونسكو في العاصمة الجزائرية. عند نهاية المسرحية، حين ألقيت الكلمات الأخيرة، وقف كل الذين في الصالة، الذين كانوا يناضلون من أجل الاستقلال وأولئك الذين كانوا يدافعون عن فرنسا الجزائرية.

دون كيشوت الهدّام

÷ تذكر في كتاب «بينوكيو وروبنسون» أن بينوشيه منع «دون كيشوت» على الرغم من أنه كان قارئا متيقظا لثربانتس؟

} إنها حركة تسعدني، لأنه برهن عن فهم عميق للنص! لا يفهم الجميع إلى أي درجة كان دون كيشوت نصا هداما، دفاعا عن الحقوق الأساسية للكائن الفرد كما أنه مرافعة من أجل العصيان المدني. دون كيشوت، كان الرجل الذي يرغب في وضع العدالة مكانها، متبعا في ذلك قواعد الفروسية. بالنسبة إليه، كان يتصرف بطريقة عادلة في مجتمع غير عادل، مهما كان الثمن الذي عليه أن يدفعه لك وللآخرين. من يملك هذه الشجاعة اليوم؟ يمكن أن نطرح على أنفسنا ما سيقوم به دون كيشوت، على سبيل المثال، في مجتمع يعتبر «الرومز» (الغجر) شعبا منحطا..

÷ ثمة نصوص هدامة. إلا أنه يمكن لفعل القراءة أن يكون كذلك أيضا؟

} أجل، لأنه في مجتمع السرعة والسهولة، نجد أن الفعل الذي يذهب بخلاف هذه السرعة، أي ببطء وعمق وتأمل، أي القراءة، يصبح فعلا هداما. أن نمتلك مكتبة وأن نتكلم بجدية عن فرلين يمكن له أن يظهر عملا تافها في القرن التاسع عشر. الأمر يبدو أخف بكثير في أيامنا هذه...

÷ يبدو الأمر متناقضا: إذ ان ثقافة الكتابة لم تكن يوما مهيمنة وحاضرة كما هي عليها اليوم..

} بالتأكيد، لكن ما تنقله الكتابة التي تحيط بنا؟ ثمة كتب يمكن لنا بالطبع أن نعتبرها بمثابة صابون أو بيتزا، تباع في الأماكن الفسيحة! اللغة المكتوبة مقسمة على العديد من مناطق النشاط: الأدب بالتأكيد، لكن هناك أيضا التجارة، السياسة، الدعاية. تحدد قيمة القراءة بطبيعة النص وبسياقه. في حين أنه في مجتمعاتنا، أصبحت القراءة بمثابة أكسسوار. الذي نفقده حاليا، المهارة في القراءة بطريقة فعالة. لنتذكر هذه الأسطورة التي اخترعها أفلاطون في «فيدر»: لقد وهب الإله المصري ثوت إلى الفرعون فن الكتابة. رفض الفرعون ذلك لأنه اعتقد أنه لو قبل ذلك لفقد الذاكرة. كان محقا! النص المكتوب يحفظ ذاكرة تجربتنا الفردية والاجتماعية. نستقبل النص، ينزلق علينا ونخاطر بأن نبقى سلبيين. لأننا نعرف أنه موجود هنا. في مكان ما، في الفضاء التحكمي، لا نشعر بالحاجة بأن نتملكه. في العصر الوسيط، كانت القراءة (بصوت عال) تشرك الجسد بأسره، كنا ندمج النص داخلنا عبر عيوننا، أفواهنا، أيدينا. حاليا، لم تعد هناك حاجة لأن نحفظ شيئا عن ظهر قلب، ولا حتى أن نفهم النصوص حقا. المشرفون على المكتبات يشتكون اليوم من الشبان الذين لا يعرفون أن يقارنوا بين المعلومات ليهضموها وليصنعوا منها نصا خاصا بهم. ثمة خطورة في ذلك، لكنها ليست خطأ التكنولوجيا، بل خطأ المنطق التجاري الدعائي المحيط بنا والذي يرغب في أن نكون مستهلكين لا مخلوقات تفكر.

÷ تذكر في كتابك «المكتبة، ليلا» أن عالم اللغة فيكتور كليمبرير قد برهن أن النازيين اخترعوا «لغة جديدة» وقد استفادت من التكتيكات الدعائية الأميركية كي يضعوها في خطاباتهم؟

} هذا صحيح، وهذا التبسيط للغة لا يزال يلقي بظله علينا. يوجد اليوم أدب بأسره تبدو لغته بمثابة إغماضة عين للغة الدعائية. لم يعد الأمر متعلقا بطرح أسئلة على تجربتنا في الحياة، بل في رفع شعارات. بالنسبة إليّ هناك بريت ايستون إيليس أو فريديرك بيغبيدير اللذان يمثلان هذه الشعارات الفارغة. القارئ الحقيقي هو ذاك الذي يصنع من القراءة استخداما فعليا. تعطينا القراءة مفاتيح ليكون لتجربتنا معنى أعمق. على سبيل المثال، «إلمر غانتري»، رواية كتبها العام 1926 الأميركي لويس سنكلير حول داعية «ساحر» كانت رؤيته للعالم أنانية وهدامة بشكل كبير، وأظن أنها تصلح لفهم الانحرافات الديماغوجية الراهنة.

÷ هل أن النص الكلاسيكي هو نص لا يتوقف عن إثارة القراءات الجديدة؟

} النص الكلاسيكي هو كتاب يقرأ من جيل إلى آخر من دون أن يصل فعلا إلى أفقه الخاص. ثمة مكتبات كاملة كتبت عن هاملت بعيدا عما تكهن به شكسبير، لأنه من المحتمل دوما أن نذهب ابعد في هذا النص. بالنسبة إليّ، النص الكلاسيكي الأخير هو «الكوميديا الإلهية» لأن أشعر دوما أني أنطلق من الصفر وبأني لم أصل أبدا إلى درجة الفهم الأولى بالعمق. وليس لذلك أي أدنى أهمية، لأنه نتيجة لذكائي المحدود. لكن ما يبدو لي أمرا لا يصدق يكمن في أن كائنا بشريا استطاع أن يبني بالكلمات، وأضف إلى ذلك بلغة إيطالية كان عليه أن يبدعها انطلاقا من اللغة التوسكانية، مجموعة متكاملة نجد فيها كل علم الفضاء والجغرافيا والتاريخ وعلم اللاهوت والأدب. نرى ذلك في كل سطر، في حين أنه كتب ذلك وهو في المنفى، بعيدا عن كتبه! أشعر أمام هذا النص بدهشة مؤمن عليه ان يشعر بالدهشة أمام إبداع الكون.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...