الحرية الدينية في تعاليم البابا بندكتوس السادس عشر

20-09-2012

الحرية الدينية في تعاليم البابا بندكتوس السادس عشر

ليس غريباً على خليفة بطرس، قداسة البابا بندكتس السادس عشر، أن يكون رأس حربةٍ في الدّفاع عن الحريّة الدينيّة والقضايا المُرتبطة بها، سيّما وأنَّ هذه الحريّة هي شرط أساسي لحريّة الضمير التي تجعل الإنسان مسؤولاً أمام ذاته وأمام الله والمجتمع. ويؤلِم قداسته، كما الكنيسة، كم أصبَح من الصّعب ممارسة الدّين والتعبير عنه بحريّة في أماكن كثيرة في العالَم، وكيف أن بعض الدول ذات النظام التيوقراطي واللون الدينيّ والثقافي الواحد، تُدخلُ في تشريعاتها منع التنوّع الديني وتتنكّر له؛ وكيف أنَّ التسامح الدينيّ الموجود في دول عديدة "لا يؤدّي إلى نتيجة ملموسة" ، بل على العكس، يجعلُ من الأقليّةِ مواطنين من درجةٍ ثانية ويُنَقِّصُ من دورِهم في الحياة المدنيّة والسياسيّة. وما يحدث حالياً في مصر وباكستان خير دليل على ذلِك؛ ففي مصر لَم يُعطَ المسيحيّون الأقباط إلاَّ حقيبة وزارية واحدة ليست ذات أهميّة بالرغم من أحقيّتهم في عدّة حقائب، وفي باكستان تُحاكم الطفلة المسيحيّة ريمشا ماشي، إبنة الأحد عشر ربيعاً والمُصابة بداء داون، بتهمة التجديف على الإسلام، وهي تُهمَة كانت قد وُجّهَت في السنة الفائتة، إلى امرأةٍ مسيحيّةٍ أُخرى تُدعى أسيا بيبي لا تزال حتى اليوم في السجن تُعاني ما تُعانيه من ظُلم القوانين وجَور رجال الدّين. والأمر ليس أفضل حالاً في بُلدان أُخرى ذات طابع علمانيّ حيث تنمو العدائية ضدّ الدّين والمؤمنين بشكلٍ يُقلّل من أهميّة حضور الله في الحياة الفردية والجماعيّة.  ومَن يُتابع مسار الحريّة الدينيّة في عالم اليوم، يُدرِكُ جيّداً لِما الحديث عن هذه الحرية أصبَح من الضرورة بمكان، ولِما هي رأس المواضيع التي تطرّق إليها البابا بندكتس السادس عشر في حبريته،  وقلبُها.
ويرتدي مفهوم الحرية الدينيّة طابع الضرورة المُلِحّة في حبرية بندكتس السادس عشر، في عظاته ورسائله ومؤَلّفاتِه ومواقفه، وفي خطاباته أمام سفراء الدّول ورؤساؤها ورؤساء الأديان، وفي زياراته الرسوليّة وأحاديثه الإذاعيّة والمُتلفزة، لِما لها من أهميّة في حياة الشخص البشري وكرامته من ناحية. هذه الكرامة:" تتجلّى  بوضوح من خلال الحقّ الأساسي بالحرية الدينيّة بمعناها الحقيقي والمكتمل" ، على ما أعرب عنه في خطاب الوصول إلى الأرجنتين سنة 2012؛ وهي"تتطلّب منه أن يتصرّف استناداً إلى اختيارٍ حُرٍّ وواعٍ مدفوعاً باقتناعٍ شخصي يُحدِّد موقفه، لا تحت الدوافع الغريزيّة أو الضّغط الخارجي" . وللخطر الشديد الذي بات يُهَدِّد المسيحيّين في العديد من بُلدان العالم حتّى ذات الجذور المسيحيّة من ناحيةٍ اُخرى، حيثُ يتعرّضون يوميّاً للإهانات، ويعيشون وسط مخاوف بسبب بحثهم عن الحقيقة وإيمانهم بيسوع المسيح ونداءاتهم للإقرار بالحقّ في الحرية الدينية . هذا الحقّ، ليس امتيازاً يُمنح للإنسان من قِبَل المُجتمع أو الدولة أو الدّين، بل بالحريّ يملكه كحقٍّ أوّلي وأساسي، متأصّل في طبيعته الإنسانية، وكتجلٍّ لِسموّ الكرامة البشرية.
وترتبط الحرية الدينيّة في الأساس في بحث الإنسان الحُرّ عن الحقيقة، هو المخلوق على "صورة الله ومثاله"(تك127)، والمدعوّ إلى الانفتاح على الحقيقة والخير الراسخ في الطبيعة البشرية و على الله الذي يمنحه كرامة كاملة . وتُفهم الحرية الدينيّة كقدرة على توجيه خيارات الإنسان وفقاً للحقيقة واعتناقها، وتتجلّى في حقّ الأفراد في "حريّة الدّين والحريّة من الدّين إذا أرادوا"  أي باعتناق أيِّ دينٍ يشاؤون  أو عدم مُمارسة أيّ دين، وذلِك بطريقةٍ عفوية ومن دون ضغوطٍ خارجيّة من أيّ نوعٍ، دينيّة كانت أم مدنيّة، ومن دون أن تتعرَّض حياتهم وحريّتهم للخطر ، وفي الحصانة المناسبة من قِبَل السلطة السياسيّة، وفي الحقّ في التعبير الفردي والجماعي عن المُعتقد على الصعيدَين العامّ والخاصّ؛ فالتعبير الدّيني لا يجب أن يتمّ داخل جُدران المباني الدينيّة وحسب، بل وعبر نقل الإيمان من خلال التعليم والممارسات والمنشورات ووسائل الإتصال الحديث ، والعبادة والتقيّد بالطقوس، وذلك ضمن الحدود الصحيحة التي يفترضها الخير العامّ .
من هذا المنطلق، يعتبر قداسته أنّ كلّ محاولة تهدفُ إلى فرض الدّين بالقوّة، والضّغط باتّجاه تقييده في الإطار العامّ أمران لا يُمكن تبريرهما لأنّهما لا يتناسبان، لا مع طبيعة الشخص البشري الحُرّ والباحث في عُمق كيانه عن الحقيقة، ولا مع طبيعة الدّين نفسه الذي هو علاقةٌ محبّة بين الخالِق والمخلوق، ويتعارضان، في الوقت نفسه، مع الحقّ المُقدَّس في حياةٍ روحيّة وفي مُمارسة الحقوق الذّاتية بموجب القانون الأدبي. "فالإكراه في الدّين أمرٌ مرفوض وهو قد يأخُذ أشكالاً مُتعدّدة وخطيرة على الأصعدة الشخصيّة والإجتماعيّة والإداريّة والثقافيّة والسياسيّة يتناقضُ مع مشيئة الله" ، لِذا فالأصولية الدينيّة والعلمانيّة هُما، في الواقع، شكلان لرفض شرعيّة التعدديّة، فالأولى تُصادر الحقيقة، والثانية تتنكّر لها وللبُعد المُتسامي للإنسان الذي يسير جنباً إلى جنب مع البُعد الإجتماعيّ. ومن هُنا فإِن "المجتمع الراغب في فرض الدّين بقوّة العنف أو، بالعكس، نُكرانه،  لَهوَ مجتمع غير عادل تجاه الإنسان والله وكذلك تجاه نفسه"، فخصوصيّة الشخص البشري تَجِدُ تعبيرها في هذه الحرية الدينيّة، بحيث إنَّ فرضها بالقوة وتَضييق الخناق عليها بشكلٍ إعتباطي، وحصرها في الإطار الشّخصي، تُشكّلُ امتهاناً للشخص البشري، "المواطن والمؤمن"  على حَدٍّ سواء، الأمر الذي سيؤَدّي حتماً إلى استحالة الوصول إلى سلامٍ أصلي ومُستديم للأسرة البشرية .
 
إنَّ ما هي عليه الأوضاع في آسيا وأفريقيا والخليج العربي وبلدان الشرق الأوسط والأرض المقدّسة، تُشيرُ بشكلٍ قاطعٍ إلى ما تتعرّض له الحريّة الدينيّة من إساءات، حيثُ تُسجّل يوميّاً حالات اضطهاد وتمييز وأعمال عُنف وعدم تسامح باسم الدّين أولى ضحاياه الأقليّات الدينيّة التي يُمنَع أفرادها من ممارسة أو تغيير دينهم بحرية من خلال التخويف وانتهاك الحقوق والحريّات الأساسية والخيور الرئيسة إلى حدّ الحرمان من الحرية الشخصية وفقدان الحياة. الحريّة الدينيّة هي شرطٌ للبحثِ عن الحقيقة، والحقيقة لا تُفرضُ بالعنف وإنّما "بقوّة الحقيقة نفسها" . ولهذا لا يتردّد البابا، في كتابه الأخير "نور العالم"، في القَول إنّه" من الضروري اليوم أن نُوطّد ونُحَرِّك ونُوَسّع المسيحيّة الإنتقائيّة، بحيث يعيش أكبر عدد من الأشخاص إيمانهم ويُجاهِرون به عن وعي" .
 
إنطلاقاً من هذه المبادىء المؤسّسة على ما يُميّز الطبيعة البشرية من كرامة لا يستطيع أحد أن يتنكّر لها ولا أن يلغيها من قلب الإنسان ووجوده، تنتصب الحريّة الدينيّة "كتاجٍ للحرّيات"  وكحقٍّ مقدّس غير قابلٍ للتفاوض، وكمثالٍ يجب أن تسعى إليه كلّ الشعوب في بحثها عن الله. لِهذا السبب يَجد قداسة البابا بأنّ حماية الدّين تَمرّ عبر حماية حقوق وحريّات الجماعات الدينية، وأنَّ على قادة الديانات الكبرى والمسؤولين عن الأمم أن يُجددوا التزامهم من أجل إنماء وحماية الحرية الدينيّة وبالأخص الدّفاع عن الأقليات الدّينية التي لا يُشكِّل وجودها تهديداً على هوية الأغلبية، بل بالعكس، فرصةً للحوار والإغتناء الثقافي المتبادل، ولتدعيم روح الطّيبة والإنفتاح المتبادل من أجل حماية الحقوق والحريّات الأساسية في مناطق العالم كلّه .

                                                                                                                      الخوري طوني الخوري
                                                                                                                          النشرة اللبنانية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...