الذاكرة والإنسان وسطوة النسيان

09-09-2011

الذاكرة والإنسان وسطوة النسيان

أعرب نجيب محفوظ الشيخ عن رعبه من النسيان في حكاية ـ مجاز فقال: "التقيت بمخلوق له قامة جبل وفم كالمحيط، بادرني معاتباً: أنا النسيان فكيف نسيتني؟". في قول المخلوق الغريب نذير لا عتاب، ذلك أن تراكم النسيان اقتراب من العدم. بنى محفوظ مجازه، الذي جاء في كتاب "أصداء السيرة الذاتية"، على المفارقة، إذ على الإنسان ألاّ ينسى نسياناً يكتسحه، وإذ على الطبيعة الإنسانية أن تواجه ما تتقاسم معه جذراً واحداً. يفصح القول ـ المجاز عن سخرية سوداء من إنسان يأكله نسيانه، ويحكي عن سطوة الزمن، التي تعطي الإنسان ذاكرة قوية، في طور، وتستبقي ذاكرة مليئة بالثقوب، في طور آخر. يتخفّف جمال شحيّد، في كتابه "الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة"، من يأس محفوظ، ويقرأ النسيان بنقيضه، مستأنساً بقول أوغسطينوس: "أتذكر إذن أنا موجود"، الذي يعطي صياغة مغايرة لجملة ديكارت الشهيرة: "أنا أفكّر إذن أنا موجود". يصبح التذكّر تفيكراً، يهندس ما عاشه الإنسان ويستولد منه موعظة، وتغدو الذاكرة حيزاً للفكر، تتأمل وجوه الأرض والسماء ولا تختنق بفكرة العدم. ولهذا يقول أوغسطينوس في "اعترافاته": "أنا الروح"، التي يتربّص بها النسيان وتكتب لها النجاة. قاد جمال شحيّد قارئه في رحلة طويلة في ديار الذاكرة، التي تحيل على الزمن والحياة والموت و "آفة النسيان"، التي يحاذرها الإنسان طويلاً ويخرج خائباً. ومع أن في تعبير "الذاكرة" ما يوحي بشيء مفرد، له مكانه الواضح ومعناه الحقيقي، فإن مداعبة الذاكرة قليلاً تبطل ما توحي به، وتوزّع المفرد الواضح على "ذواكر" متعددة الوجوه: الذاكرة البصرية، والذاكرة السمعية، والذاكرة الشمية، والذاكرة الجسدية،... فلكل عضو في الأنسان ذاكرته، ولكل ذاكرة مجال، والإنسان "مخزن غريب" تحتشد فيه الوجوه والأصوات والأسماء والحكايات ووقائع تحيا زمناً ثم تغيب. تصوغ الذواكر حياة الإنسان: تعطيه أصدقاء لهم صوت أليف، وتشده إلى مطارح زارها واشتاق إليها، وتربطه بفيض من الحكايات مختلفة المذاق،... يحمل الإنسان ذاكرته، في النهاية، ويمشي، وقد تحمله ذاكرته وترشده إلى الطريق، وقد يتوقف عن السير إن عبثت به الذاكرة واختلطت عليه الدروب. أكثر من ذاكرة تحمل الذاكرة في وجوهها المتعددة وجوه الحياة، التي تنوس بين الشحوب والألق، وبين الخفة السعيدة والقهر الثقيل. ولهذا يتحدّث جمال شحيّد، وهو يقرأ الذاكرة في أبعادها التي لا تنتهي، عن : الذاكرة الكلية، تلك المرهقة البائسة التي تحتفظ بالعارض والجوهري، والذاكرة المتشظّية التي ثقبها الزمن واستبقى لها القليل من السيطرة، والذاكرة الهائمة المبتعدة عن مكان نسيته والسائرة نحو آخر لا تعرفه، والذاكرة المريضة المحتشدة بحقد مستديم ورغبة متجددة بالانتقام. تتراءى في الذواكر جميعاً ملامح النسيان، الذي يمشي بخطى ثقيلة تكسر الضلوع، أو تكون له مشية طفل لا يقصد الإساءة إلى أحد. يعود في هذا المجال تعبير: آفة النسيان، الصادرة عن اضطراب في الذاكرة يقود إلى اضطراب في الحياة، يمحو من الزمن ما هو جميل ويحتفظ بالمعصية، كما رأى نجيب محفوظ. ولهذا يذكّر نجيب، بإيقاع ثابت، في نهايات فصول روايته "أولاد حارتنا"، بفعل لا يزول: آفة النسيان، التي تجعل البشر يعرضون عن رسائل الأنبياء، ويعودون إلى سيرهم الأولى، القائمة على الجشع والقهر. غير أن الذين اختبروا الحياة يعاملون النسيان بكثير من الحسنى مؤكدين: نعمة النسيان، التي تمسح من ذواكر البشر وقائع مؤسية وتطلقهم، من جديد، في دروب الحياة. قرأ جمال شحيّد موضوع الذاكرة بحياد العارف المجتهد، تاركاً للقارئ اطمئناناً لا يمكن الأطمئنان إليه، ذلك أن حديث جمال، الموطّد بمعرفة متنوعة واسعة، يقرّر أموراً ثلاثة: لا وجود للذاكرة بصيغة المفرد، التي توحي بالأمان، فهي موجودة، أبداً، بصيغة الجمع، التي ترحب بالشك وتستضيف اللاطمأنينة، وتضع داخل الإنسان المفرد ذواتاً متعددة، بعضها في طور الشباب، وآخر مؤرخ في الأربعين، وثالث قلق حائر أجهدته الشيخوخة. والأمر الثاني ماثل في العلاقة بين النسيان والإنسان والعدم، لأن الإنسان الذي غزاه النسيان يتوزع على الموت والحياة معاً، تحمل حياته شيئاً من موته، ويداخله موت محتجب ماكر الأدوات. والمتبقي الثالث هو: المتاهة، أو سخرية نجيب محفوظ السوداء، التي رأت إنساناً يتعايش مع موته، ينسى قامة الجبل وفم المحيط وينكفئ إلى زمن الطفولة البريء القصير الذي يصاول النسيان ويهزمه. تتكشّف متابعة الذاكرة في صراع الأضداد المنسوج من الحياة والموت والمنفتح على حل وحيد: الفناء الذي يلغي الموت والحياة مستبدلاً، كما يشاء، إنساناً بآخر. السؤال المرير تنتهي الأمور الثلاثة إلى السؤال المرير: كيف يتجنّب الإنسان نسياناً يساكنه، وكيف يتقي ما يبرهن عن سيره إلى العدم؟ يخفّف شحيّد مأساوية السؤال، مستهلاً كتابه بإيمان أوغسطينوس،الذي رأى الروح في خلودها، ومغلقاً الكتاب بمنظور بول ريكور، الفيلسوف الفرنسي الداعي إلى التسامح والاعتراف المتبادل والتفاؤل. غير أن حديثه الحليم عن الذاكرة لن يمنعه عن رؤية "حرائقها"، التي تخلّف رماداً لا يكف عن التكاثر. ولهذا يتوقف أمام مكر الذاكرة، وهو يقرأ جبرا إبراهيم جبرا، الذي أحيا طفولته في كتابه "البئر الأولى"، مخترقاً طبقات الذاكرة التي تحجب صورة البراءة الأولى، مبرهناً عن "نعمة التذكّر"، التي تقيم وصالاً سعيداً بين الرجل والطفل الذي كأنه، أو بين الطفل ـ الأب والرجل ـ الابن الذي خرج منه. ويتحدّث عن "الذاكرة الخؤون" وهو يحلّل رواية روزا ياسين حسن: "حراس الهواء"، تلك الرواية الممتازة التي تواجه أمراض الحياة بإرادة الذاكرة. كما يستعمل جمال تعبير "خداع الذاكرة" في مقاربته لرواية عبد الرحمن منيف "سيرة مدينة"، حيث الكاتب يعود إلى طفولة بعيدة متباعدة، تتيح له المزج بين ما عاشه وما توهّم أنه عاشه، وبين ما عرفه وما يظن أنه عرفه،... وهناك "طمس الذاكرة" المصطلح الذي تعامل به د.جمال مع رواية السوداني، الطيب صالح "موسم الهجرة نحو الشمال"، حيث ما كان لا يجعل الحياة مريحة مع ما سيكون، وحيث على صاحب الذاكرة أن يقتلع جزءاً منها، وأن يستنبت بديلاً، لن يعيش طويلاً. الذاكرة مأساة الخؤون والماكر والمطموس والهارب، وصفات لاحقة تنصّب الذاكرة مأساة، وتلمح المأساوي في الذاكرة التي تريد أن تضبط أحوالها، وتخرج مخفقة. وبسبب ذلك لا يبدأ جمال الغيطاني بالتذكّر، في كتاب "التجليّات"، إلا ليسقط في النسيان منتهياً إلى "لعبة"، بلغة شحيّد، تكشف عن الحرمان وتنهر الرضا. وإذا كان الغيطاني، الروائي المتصوّف والمتصوّف في مهنته الروائية، قد اقتفى آثار أبيه وطفولته وأصداء جمال عبد الناصر وأطياف السيد الحسين، فقد أرهق غسان كنفاني نفسه، في "عائد إلى حيفا"، وهو يطارد عشرين عاماً من الخيبة والمنفى والهوان، في انتظار لحظة ذهبية ـ مستحيلة ـ تطمس العشرين عاماً وتستعيد البراءة الأولى. كأن في الرحيل إلى الماضي تطهراً وتوبة والتماساً لغفران لن يأتي، وكأنّ فيه تصريحاً ببؤس حاضر لا يحتمل. لماذا عاد صنع الله إبراهيم، الشغوف بالآن والهنا، في روايته "التلصص"، إلى قاهرة الأربعينيات؟ هناك الحنين، ربما، وبحث في هوية ذاتية متكوّنة ومكاشفة مع ما كان وانقضى، وهناك أيضاً اغتراب الذاكرة في زمن ينضج بالاغتراب. ولعل رفض الحاضر، كما تحويله إلى سؤال تأملي، هو الذي دفع نجيب محفوظ إلى كتابة : "رحلات ابن فطومة"، التي قرأ فيها الروائي سيرته الذاتية الفكرية وهو يقرأ الفروق بين أنظمة سياسية متعددة، تتحدث، جميعاً، عن العدل وتمارس الفضيحة. نقل محفوظ الذاكرة، في هذه الرواية، من حيّز النسيان إلى فضاء نقي يائس، يسأل ويحاور ويعرف الجواب ونهاية الحوار. حاذر جمال شحيّد، وهو يحاور محفوظ والغيطاني ومنيف والياس خوري وغيرهم من الروائيين العرب، نبرة الأسى التي يغوي بها موضوع الذاكرة مكتفياً، اعتماداً على اقتصاد لغوي محسوب، بما يوحي بالأسى ولا يصرّح به: الذاكرة المعاقة، بلغة بول ريكور، التي تصبح عند بودلير الذاكرة المحبطة، والذاكرة الجريحة أو الذاكرة الكئيبة، والذاكرة الهائمة، وصولاً إلى موضوع جليل عنوانه : ذاكرة المغلوبين التي تستدعي، لزوماً، ذاكرة الغالبين، التي تحاول طمس نقيضها وطردها إلى العراء. ولعل استبداد الذاكرة المنتصرة، التي تخلق صورتها الذاتية وصورة ما هزمته كما تشاء، هو الذي دفع إلى ظهور "ذاكرة المهزومين"، التي تعطف الحاضر على الماضي، وتعد الأجداد الذين هزموا بنصر قريب، وأفضى إلى تشكّل "ذاكرة النار"، بلغة إدواردو غاليانو، التي تجعل من زمن الأمل حاضراً مستمراً. كيف يكون للإنسان ذواكر متعددة ويبقى موحداً، وكيف تكون ذاكرة الإنسان هويته، إن كانت ذاكرة بصيغة الجمع؟ قد يكون في السؤالين، التقيا بجوابين مطابقين أم لا، ما يدفع إلى تأمل الذاكرة التي تتكشّف في: الذاكرة الفردية والجمعية، الذاكرة التصريحية وغير التصريحية، الذاكرة ذات النطاق الضيّق والنطاق الواسع، الذاكرة الحدثية والدلالية والانفعالية، والذاكرة الإجرائية والاستباقية والإدراكية،... كيف تستكمل كل ذاكرة بأخرى، وما هي الذاكرة التي تحكم الذواكر جميعاً؟ ليست مقاربة الذاكرة، في احتمالاتها المختلفة، إلا آية على الجهد البحثي، الذي بذله جمال في اتجاهات مختلفة، تحتقب الأدب والفلسفة وعلم النفس، في حقب متراكمة متواترة، تبدأ من أفلاطون وأرسطو، وتصل إلى زمن فرويد وبول ريكور وأمبرتو إيكو، مروراً بالبحث العلمي عن الذاكرة وفضّ ألغازها، تلك المعتمة الغامضة العصيّة على وضوح أخير. دفعت "أحاجي الذاكرة" الباحث إلى فصل استهلالي عنوانه : الذاكرة والدماغ، عالج فيه "العصبونات المذهلة"، التي تسمح بتمثّل المعلومات والمحافظة عليها وتخزين الذكريات، ذلك التخزين المراوغ، الذي يجمع بين الكرم وبخل عجيب يدعى: النسيان، يجبر الإنسان على اللواذ بقلبه، كما قال نابليون ذات مرة. ولعل أطياف النسيان المرعبة هي التي أملت على الإغريق اختراع "فن الذاكرة"، الذي يُنسب إلى الشاعر سيمو نيذيس، مثلما أقنعتهم بأن للنسيان نهراً من أنهار الجحيم يدعى "ليثيس"، إذا شرب منه الأموات نسوا ما كانوا عليه، وأصبحت أرواحهم جاهزة لتحل في أجساد أخرى. التقى "النهر المرعب" بجهود لاحقة أعطته تفسيراً أقل رعباً، أسهم فيها ابن سينا، في كتابه "الشفاء" وفلاسفة من العصور الوسطى أبرزهم القديس توما الإكويني، الذي مايز بين صعوبة تذكر الشفاف والروحي وسهولة تذكر الخشن والغليظ. حاول الدكتور شحيّد بناء "السيرة المعرفية للذاكرة"، سائراً في بحثه من زمن الأساطير إلى الأزمنة الحديثة، التي أضافت إلى التساؤل الفلسفي معارف مخبرية. فقد حرّر جيورادو برونو (1548 ـ 1600) في كتابه "في ظلال الأفكار" أسئلة الذاكرة من الميتافيزيقيا وشرح فن الذاكرة والتذكّر شرحاً "علمياً" واجهته محاكم التفتيش بحكم الموت حرقاً. وقرأ الفيلسوف الإنكليزي جون لوك الموضوع في حقل التجربة، وأوكل الفرنسي ديدرو السؤال إلى الأطباء، وعالجه فولتير ساخراً، حين رأى في النسيان عقاباً تنزله "أم ربات الإلهام" بالبشر. لا يكتمل موضوع الذاكرة، في رحاب الأزمنة الحديثة، إلا بالإشارة إلى اسمين شهرين: أولهما سيغموند فرويد (1856 ـ 1939) الذي قرّر في أبحاثه المتعددة أن الذاكرة تخون بشكلين قوامهما الكشف والتشويه معاً، وثانيهما هنري برجسون (1858 ـ 1941) الذي قرأ في كتابه الشهيرة "المادة والذاكرة" العلاقة بين الروح والجسد. النسيان غير أن "آفة النسيان"، التي تعلن عن موت متباطئ يلحق بالإنسان وهو سائر في الطريق، تدع العلم والتجارب والمخابر حيث هي، وتنفتح على عالم الأدب، الذي يتأمل عمل الزمن الدؤوب في روح الإنسان وجسده: من دانتي وصولاً إلى بول فاليري ومن مارسيل بروست إلى الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. يوسّع الأدب، وهو يقرأ وحدة العدم والحقيقة، فضاء الذاكرة ولا يصل إلى جواب أخير. يقول الشاعر فاليري: "إن الذاكرة لا تضيع. وأن الذكرى ثابتة لا تمحى. ما يضيع هو الطريق المؤدي إلى الذكرى". والمتبقي الأكيد هو الضياع، الذي يعبث بفن التذكّر، ولا ينظر بجدية إلى "فن ا لنسيان"، الذي دعا إليه عالم السيميائيات الإيطالي أمبرتو إيكو، واكتشف أنه فن زائف، لان النسيان عدم. تطلّع جمال شحيّد، وهو يتقصّى موضوعه بمنظور موسوعي، إلى أهداف ثلاثة: إقامة دراسته الأدبية على أساس منطقي، ذلك أن بحثاً عن الذاكرة لا يستقيم إلا بإضاءة الموضوع الذي يدور حوله، وتحرير البحث الأدبي من عقم الاختصاص الفقير، الذي يعزل الأدب عن غيره، مرتاحاً إلى شكلانية زائفة، وكسر الحدود بين النقد الأدبي وأشكال المعرفة الأخرى، فالأدب يشرح بذاته وبغيره، و"علم الأدب" لا معنى له خارج علم النفس والفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ، وإلا تحوّل إلى استظهار مدرسي "فارغ"، يحجب فراغه بكلمات مزخرفة. نقّب الباحث طويلاً "خارج الأدب" ليصل مرتاحاً إلى "داخله" متوقفاً بأشكال مختلفة، أمام السيرة الذاتية العربية، التي تلعب الطفولة فيها دوراً متميّزاً. "في جدران طفولتي من الأسرار ما يعادل سور الصين"، يقول أندريه مالرو، الذي خالطت صوته في زمن الشيخوخة حشرجة مؤلمة. ولهذا أخذت الطفولة حيّزاً مرتاحاً في كتابات عربية لها مسميّات مختلفة: مذكرات، ذكريات، يوميات، سيرة ذاتية،... أرسل البعض تحية واسعة إلى طفولته متوسلاً عنواناً صريحاً: طفل في القرية لسيد قطب، أيام الطفولة لإبراهيم عبد الحليم، في الطفولة لعبد المجيد بن جلون،... ودخل آخرون إلى تبدّد الأزمنة بتعابير أقل حنيناً: الأيام، حياتي، الصبا، العمر، يوميات، أصداء،...، وكل ما تتيحه اللغة للقبض على زمن تشظى، استقرت شظايا في صفحة الوجه ونبرة الصوت ووهن القامة، وفي العصا والنظارة وقطعة معدنية تغلق الأذن وتمدّ لها المساعدة في آن. تظل الرواية، في هذه المسميات المتنوعة، جنس الكتابة الأكثر ملاءمة، الذي يقرأ فعل الزمن، داخل الإنسان وخارجه، آخذاً مرة بكلمة متقشّفة هي : التاريخ، ومهمشاً التاريخ، مرة أخرى، مصرحاً بلوعة الزمن التي ترثي مفقوداً لا يمكن استعادته. عندها يحضر معنى الكتابة في أبعاده المتعددة: تثبيت ما كان وأسرع في التلاشي، مقاومة العدم بحياة التذكّر، الربط بين زمن البراءة وزمن الحكمة، أو معالجة ما انقضى بحكمة من الحاضر،... تقول الكتابة، في الحالات جميعاً، ما سمحت به "ثقوب الذاكرة"، التي تسرّب منها ما أخطأت الدروب في الوصول إليه. ولعل المكر الروائي، الذي يرد على مكر الزمن، هو الذي يصالح بين فن التذكّر وفن الكتابة، إذ على الفن أن يرمّم ويردم الفراغات ويقدم إلى القارئ "كتابة مقنعة". ولهذا يخلط وليد إخلاصي التذكر بأسطرة المدينة، ويعيد إدوار الخراط كتابة ما كتب، ويتكئ جمال الغيطاني على جمالية التصوّف، ويركن محفوظ إلى مجاز الرحلة، ويزاوج إلياس خوري بين التصريح الكتابي ومواجهة المتاهة، وتلتبس طفولة عبد الرحمن منيف بسيرة مدينة، ويلتقط حنا مينة "بقايا صور" وينسج منها صوراً حكائية واضحة الحدود،... أما جبرا إبراهيم جبرا، الذي أفرد له جمال شحيّد أكثر من دراسة، فيعالج ما سرقه الزمن بالحكاية والشعر والحلم والأسطورة منصّباً الطفل، الذي كانه، ملكاً على جميع الأزمنة. بدأ جمال شحيّد من مفهوم الذاكرة، كما صاغه الإغريق وعالجه تاريخ الفلسفة، وطوّف به واسعاً، منجزاً كتابة نوعية توحي وتفسّر معاً، وتعطي الإيحاء، في علاقته بالتفسير، موقع الأولوية. ومع أن في موضوع الذاكرة ما يضع في الروح وحشة لا تقبل الشفاء، فقد حجبها جمال، بصوت مهموس، بحكمة مأخوذة من القديس أغسطينوس، الذي قال في كتابه "الاعترافات": "أنا الذي أتذكّر،أنا الروح"، موكلاً إلى الروح مهاجمة الظلمات. كيف تتشكّل الذاكرة؟ وهل يحق لنا أن ننسى، وكيف أدرج الروائيون الذاكرة في أعمالهم؟ هذه هي أسئلة كتاب جمال شحيّد "الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة"، الذي يكسر الحدود بين أجناس المعارف المختلفة، ويظل كتاباً نقدياً بامتياز. قال أحدهم : "الإنسان في عمر الأربعين شيخ، أما العجوز فهو مؤرخ. فاته أن يقول: إن الإنسان في عمر العشرين هو الشاعر. العشرون والأربعون وما بعد الأربعين مراحل في العمر ومراتب في المعرفة، باستثناء الشعر، الذي يجمع بين العشرين وما بعد الأربعين، كما لو كان له زمن يتأبّى على الزمن. في كتاب جمال شحيّد ما يقنع الكهل بالنظر إلى شيخوخته، وما يأخذ بيد الشيخ إلى دروب طفولته. ÷ المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011

فيصل دراج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...