حكايات القاهرة

03-08-2013

حكايات القاهرة

1 مصر في متاهة مرسي المنتظر
ينتظرونه بالتأكيد.
يتصوّرون انه سيعود من غيبته هناك حيث لا يعلم اين هو. يجلس في عنبر طويل بالبدلة الرياضية (حرص على ان تكون ماركة عالمية). يقيم ايامه معذبا بتلفزيون الحكومة منتظرا قناة «الجزيرة... وتعليمات مكتب الارشاد.
انه مرسي في لحظات تجليه. احتفت ملامحه الفاشلة، التابعة لقرارات مكتب الارشاد، وبقي ايقونة المظلومية الجديدة لجماعة لم يعد لديها الا الاقامة بين خيال الانتظار السحري او بين اللعب على جسر المفاوضات الخطر للعودة الى السلطة او الموت في سبيل «بقاء الجماعة».
ستبقى الجماعة بمظلوميتها، وبانتظار مرسي بتعويذة «الشرعية» التي تدوخ المقيمين في رابعة العدوية، وتدفعهم الى هز الرؤوس. مصرية ترفع شعار «مشروع شهيد» أثناء مشاركتها في اعتصام رابعة العدوية في القاهرة أمس الأول (أ ف ب)
خيال موت وقداسة قاتلة.
تمر اسراب الاطفال بأكفانهم. يوزعون صكوك الجنة من المنصة. مشاريع «شهداء» ليحفظ قادة الجماعة مكانهم ومميزاتهم في السجن وخارجه.
في رابعة معسكر حرب الاخوان على المجتمع لاستعادة السلطة او لبناء التنظيم عبر خطة يقودها «مجلس حرب» واجهته البلتاجي، العريان، واحيانا صفوت حجازي... وعماده مجموعة ادارية قدّمت تقريراً قبل 30 يونيو ينصح بالتنازل والاستفتاء لعبور الموجة العالية.
خيرت الشاطر اطاح بالتقرير واكمل خطته في العناد الابدي، ربما لانه يعرف ان الحل امام الجماعة: إما السلطة او المظلومية... او لأن الشهوة تملكته ليصبح «خليفة» خلف الرئيس، ورجلاً غامضاً يحرك الاحداث من موقعه المتخيل.
الجماعة تصارع عدوها القديم عبر هذا الجمهور في وضع يتعامل كما لو لم تتغير توازنات القوى في مصر، وكما لو كانت الحرب ما زالت مع «الدولة الامنية».
قادة مجلس الحرب ومثل كل قادة الفاشية يشحنون جمهوراً من البائسين واليائسين لعمليات شبه انتحارية لنشر الفوضى والفزع وتوجيه رسالة مفادها: إما ان نعود الى الشراكة في الحكم ... او أننا سنفسد حياتكم ولو بموتنا.
وامام هذه الخطة المنظمة ليس لدى الشرطة سوى تحريك ماكينة القتل وارتكاب مذابح تهدف الى شق التحالف الاجتماعي والسياسي الواسع او إلى توريط الشركاء المدنيين في الدم.
هذه شرطة لم تتدرب سوى على استغلال مشاعر الرعب عند المجتمع لتوسيع نطاق سلطتها والتضحية حتى بكوادرها في مواجهة مع انتحاريين.
الاستغلال لمشاعر الرعب من الجانبين (الدولة الامنية وعصابة الاجرام في رابعة) يبدو طريقاً ممهداً للقبول بأي استبداد/قمع/ديكتاتورية لانهاء الوضع المفزع والذي يبدو بلا نهاية.
هنا لا يمكن التغافل عن الوضع الذي جعل مرسي منتظرا، رغم انه في مكان لا يعرفه، وفي مدينة وقفت ضده، اعلنت العداء مع القادم من الارياف بالسمع والطاعة ليحكم قبضة جماعته.
مرسي غادر مقره الموقت خارج قصر الاتحادية الى مقر الحرس الجمهوري قبل 30 حزيران بليلتين، وهناك حاول ان يقيم مسرحاً استعراضياً جديداً، ولم يدرك انه خارج السيطرة، مقيدا في زنزانة لا يرى قضبانها، وعندما حان الوقت اشار الضابط له وللجوقة المحيطة به: سلموا هواتفكم المحمولة.
ساعتها فقط دخل الغرفة المغلقة، المحبس الانتقالي، قبل ان يخطف سريعا قبل هجوم الجماعة لتحريره في مقر الحرس الجمهوري. ساعتها هرب مرسي (الذي كان حتى وصوله قصر الاتحادية مجرد قيادة منفذة/احتياطي/استبن). الهروب كان تحت وابل من الرصاص قتل 50 او اكثر ليصل الى عنبره المحشور بالاجهزة الحديثة، بماركاتها العالمية، منتظرا ظهور علامة او شيفرة، ويطلب فقط: فك سجن الشاطر ليعرف الطريق الى عودته.
هم ينتظرون من ينتظر التعليمات.
انه ذلك الجمهور البائس المقيم في رابعة يثير رعب المدينة وساديتها التاريخية في آن واحد.
ينتظرون مرسي منتظراً بينما يفتقد جمهور ليس قليلا مرسي المونولوجست.
انه خوف من افتقاد الضحك في زمن انتظار الحرب الاهلية/الكارثة الدموية.
وخوف من فجيعة كل الذوات المنفوخة باليقين او الباحثة عنه، او التي ترى الواقع كما لو كان مسلسلاً تلفزيونياً تافهاً يلقى نجاحاً برغم افتضاح نهايته (للنبهاء فقط طبعا كما يظنون انفسهم).
نعيش كوميديا وعبثاً يوميين، لكنها ليست الكوميديا نفسها التي عشناها سنوات عمرنا الماضية. نحن الآن امام واقع الحياة بعد الخروج من حفرة مبارك.
كوميديا الصدام مع القادمين من ازمنة الكهوف.
وكوميديا عودة الديناصورات الخارجين من الحفرة ويريدون شدنا اليها.
وسألت مرة: كم ستدمينا الصدمات قبل ان نستلقي على سرير ونضحك؟
وسألت مرات: كم مونولوجست فقدتهم مصر وتحولوا الى سياسيين ورموز بالنسبة إلى رأي عام؟
المونولوجست ينتقم عادة من جمهور لم يقبل به كمونولجست لكنه قبل به كداعية او مذيع او مسؤول يتكلم كما لو كان يقدم اسكيتشات ثقيلة الظل.
هتلر انتقم بعد مروره بمرحلة الرسام .
كان رساما وفشل في الحصول على جائزة.
الفشل لم يجعله ينتقم لكن رغبته في الحرق كانت اقوى من ان يتحمله وحده فاشرك الناس كلها. لم يقبل بنتيجة المسابقة فأراد ان يكون وحده لجنة تحكيم تختار من يعيش ومن يموت في سبيل بشرية قوية كاملة الاوصاف.
اراد هتلر الغاء المنافسة.
اراد ان يكون وحده في هذا العالم.
عندما يظهر هتلر الآن تضحك الناس.
«كوميديان» يثير الضحك بعدما احرق العالم كله وتسبب في قتل 80 مليون انسان بسبب هلوساته في انتقاء البشر وتقسيم العالم.
يثير الضحك لانه اصبح خارج الزمن.
كم سياسي او مذيع او من يحمل تراخيص بالتصريح او صاحب سلطة نكتشف فيه المنولوجست الكامن في اعماقه.
كم شيخ يمكن ان يحرق بلدا كاملا بسبب كلمتين ينسبهما الى الله والقرآن... وسنضحك عليه بعد سنوات، لكن بعد ان تكون جريمته اكتملت.
كم سياسي يروضنا اليوم بكلام يستخدم فيه الدين او الوطنية ليعيدنا الي الاقفاص التي خرجنا منها يوم 25 يناير... وسنضحك عندما نفيق من غيبوبته لكن بعد أن يكون قد كرهنا في حياتنا.
كم صاحب مصلحة قذرة لا يزوره الخجل في المنام حتى، شن هجوما من اجل سريان مصلحته وباسم هيبة الدولة والوطن والعجلة التي لا بد من ان تسير... وسنكتشف كم كانت وصلاته من فن الانحطاط الصريح... لكن بعد ان يكون قد جعلنا نشعر بأننا في شبكة عنكبوت سام لا فكاك منها.
نضحك الآن على مبارك والمافيا المحيطة به... لكن بعدما ردموا قيماً وافكاراً كان يمكن ان نكون فيها كائنات اجمل وارواحنا اخف.
وسنضحك بعد سنوات على وصلات ردح جوقة البغبغبانات في الشاشات... جوقة صوتها كريه لكنها تجد من يسمعها... تجد الجزء الذي فسد في السنوات الـ30 جاهزا للاستقبال.
سنضحك بعد سنوات وبعد ان تكون الركاكة قد اكلت جزءاً من القدرة على السعادة والاستمتاع بالحياة.
وربما سنضحك على الشيخ الذي يسمي هلوساته الجنسية فتاوى ويعتدي بها على الشهيرات... لأنه ليس الا محترف شتائم يطيل لحيته ويبدأ الشتيمة وينهيها باسم الله ورسوله.... لكن اكتشاف ما يضحكنا سيستهلك زمنا نتخلص فيه من ارهاب الفتاوى باسم قيم نتعلق بها لتحمينا من الخوف لكنها بعد ان تتحول الى سلطة (باسم الدين او الوطن) تصادر الخوف وتؤممه لمصلحتها وحدها.
كم زمنا سنعيش في دورة حكم المعقدين نفسياً والفخورين بتخلفهم وجهلهم بعد سنوات من حكم المافيا واللصوص؟
الى متى سنتحمل السلطة كما هي... تشعر بالقلق و كلما ازداد قلقها زادت رغبتها في البحث عن ادوات التسلط السريع وليس امامها الا دولاب يترك فيه الطغاة الذين عرفناهم ادواتهم ميراثا لطغاة جدد؟
متى سنقتل الخوف الذي يجعلنا نترك المونولوجست ليدمرنا قبل ان نضحك عليه.

2 البحث عن «بركة» هذه المدينة
نجيب محفوظ مات في شهر من شهور عطلته.
آب. ونهايات الصيف. والرحيل الى الاسكندرية. وحساسية العين عن الكتابة المنتظمة. لم يرحل في يوم من أيام العمل. غاب في لحظات انفلاته بعدما ترك صورته الأخيرة: حكيم فوق الاختلاف، ورمز لعابر السنوات والعصور الطويلة، صامت وحضوره أكبر من كلماته الشحيحة المقتضبة، ويبدو فيها مضطراً للخروج عن انسجامه في وضع المراقب، المستمتع بالفرجة، المهتم بمعرفة ماذا حدث في عالمه الأثير.
مصر لم تكن مكانه المختار بل عالمه الذي لم يخرج منه الا مضطراً مرة او مرتين. بين القاهرة والاسكندرية، رحلة تكتشف جديدها بالعادات المضبوطة على ايقاع صاحبها، لا باتساع مساحة الحركة.
صورته الاخيرة أقرب الى ايقونة مختلفة الى حد ما مع صورة اقدم قليلاً، كان فيها رجلاً على موعد مع شيء ينتظره، لكنه متشوق الى اللقاء، في رحلة عمل، مشوار يومي، وعادات لا يعطلها القدر حتى.
مات نجيب في أيام العطلة اذاً. استأذن من دراويشه. ترك لهم فرصة وقت كي يتلقوا خبر انسحابه بهدوء وتوقع. الخديعة الوحيدة هي أنه لم يمر من اختبار الحياة بعد الـ94. استسلم لتعطل أجهزة الجسد الذي سيطر طويلاً على نزواته كما سيطر على هزائمه. لم يترك الحشيش والنساء ولا النكت الجنسية رغم هيئته الوقورة... وعاش صديقاً لمرض السكري أكثر من 44 عاماً.
وكما كان ينتفض فجأة قبل دقيقة من موعد انصرافه في اللقاءات الاسبوعية، لا يقدم ولا يؤخر، غادر نجيب سريره في المستشفى بعدما تصور الناس أنه «عملها وسيمرّ» ليكمل القرن غراماً بالحياة وإعجاباً بجدة قديمة كان يريد تجاوز رقمها القياسي.
ربما هي الطبيعة المسالمة، المطمئنة، المتآلفة مع نظام الحياة في مصر، لصاحب الابتسامة الدائمة والبدلة البسيطة التي تذكّر بأزياء قادة الحزب الشيوعي الصيني، وبرنامج لا يكسر إيقاعه شيء والعلاقات الثابتة بالناس والشوارع والفصول والأماكن.
نجيب محفوظ مولود في 11 ديسمبر العام 1911 في بيت لم يعرف بعد الكهرباء. تفاصيل وعيه بالعالم تسربت على الإضاءة الشحيحة لمصابيح الكيروسين المنتشرة في بيوت «المستورين» من الطبقة التي ستكون بعد سنوات قليلة طليعة البرجوازية الجديدة في مصر.
عرف أول بطولة خارج حدود البيت والأب مع سعد زغلول، الزعيم القادم من بيئة متواضعة ليعبر عن أمل البلاد في الحرية والاستقلال، وعن آمال الفئات المهمشة في العبور إلى أماكن اجتماعية جديدة. وهنا كانت ثورة زعيم «الوفد» على بعد سنوات من ميلاد نجيب محفوظ، لكنها كانت الأقرب إلى تركيبته الخاصة الجامعة للمتناقضات في سلام شخصي واجتماعي فريد. متمرد لكنه لا يصل الى الحدود القصوى. مخلص للتقاليد القديمة لكن ليس إلى حدود الجمود... وبين التوق المنضبط إلى الجديد والهرب غير المنفلت من القديم اكتشف نجيب محفوظ «مكانه المريح» في الحياة والثقافة.
أو بتعبير آخر كانت ولادته في لحظات انتقال المجتمع إلى عصر جديد. ترك نجيب محفوظ مصر القديمة الفاطمية، حيث كان يعيش في حي الحسين، إلى حي العباسية، مكان صحراء المماليك، فردوس الطبقة الوسطى الجديد، وأحد مصانع وعيها وملاعب وجدانها... وهو إبن الجامعة الوطنية والثقافة الجديدة وابن المقاهي التي تتكون فيها حساسية مختلفة للمجتمع غير تلك التي شاخت في صالونات المثقف القديم.
لم يكن نجيب محفوظ أسير ازدواجية التعليم المدني والأزهري، كما طه حسين، ولا موزعاً بين عشقين مثل توفيق الحكيم الممزق ثقافياً بين الشرق والغرب... كان الحالة الوليدة لمثقف مصر الحديث الذي يشحن وجوده الاجتماعي من ثورة التغيير وبدايات مراحل جديدة في تاريخ مصر.
هكذا كانت فاطمة تصحب ابنها نجيب إلى جولاتها الخاصة بين العباسية والجمالية. وفي ضوء وعي الطفولة المندهش يذهب معها بحثاً عن «البركة» في كنيسة مار جرجس بعد أن يتمسح في ضريح الحسين أو عن المتعة الغامضة في مشاهدة «مساخيط» الفراعنة، حيث تقضي أوقاتاً طويلة في حجرة «المومياوات» في المتحف المصري.
أما الأب فكان يرتدي في الشتاء مثل الأفندية بدلة إفرنجية وفوقها معطف، وفي الصيف يرتدي الزي الأزهري (الجبة والقفطان)، وفي كل الأحوال كان الطربوش غطاء الرأس المميز للطبقة الصاعدة من الموظفين والمتعلمين. أما في حياته فكان نموذجا للزوج المثالي، منضبطا في مواعيده المنزلية، متسامحاً، ينام بعد العشاء.. ولا يعرف سهرات العربدة التي سجلها محفوظ في ثلاثيته الشهيرة... أي أنه لم يشبه السيد أحمد عبد الجواد إلا في ولعه بالمغنى وفن تلاوة القرآن.
لم ير نجيب أباه في حياة الوظيفة الحكومية، لكنه ذاق الاستقرار الذي حققته للعائلة. والأهم أنه بدأ يعي العالم و«الموظف الميري» هو زهوة المجتمع. الأب كان يحلم له بوظيفة أكبر - وكيل نيابة أو طبيب - بينما صدم أساتذته في المدرسة عندما التحق بكلية الآداب قسم الفلسفة وهو المتفوق في مواد العلوم والرياضيات بينما لا يحصد في المواد الأدبية سوى درجات متوسطة. أي أنه كان لابد أن يكون حسب انتظارات العائلة موظفاً كبيراً في «هوجة» الموظفين الصاعدة في الثلاثينيات والأربعينيات أو عالماً فذاً كما توقع له الأساتذة أو موسيقياً، كما خطط هو بنفسه حينما التحق بمعهد الموسيقى العربية، وذلك وقت أن كان طالباً في السنة الثالثة في كلية الآداب. وكما حكى لرجاء النقاش: «درست فيه لمدة عام كامل ويبدو لي الآن أنني لو كنت وجدت توجيهاً سليماً من أحد لتغيّر مسار حياتي واخترت طريق الموسيقى وليس الأدب».
وحين لجأ نجيب محفوظ إلى الأدب ودخل عالم الكتابة، لم يخلع قناع الموظف المنضبط الذي يخفي عن زملاء الوظيفة أنه «أديب»، كما نصحه مؤلف قصص الأطفال كامل الكيلاني. والمثقف عاشق النزوات السريعة الذي يخفي عن زملاء سهرات التسكع انه تزوّج. لم يمنعه الالتزام من مغامرات أقلقت المؤسسات المستقرة والراسخة عبر شبكة من الأسرار والمفاهيم والألعاب الفنية.. ها هو يحاكي في «أولاد حارتنا» بناء الأفكار في المؤسسة الدينية ويصل بنقده سلوك السلطة السياسية إلى حدود النكتة السوداء وهلوسات المساطيل، كما ظهر في «ثرثرة فوق النيل».
هذا رغم أنه خارج نطاق الكتابة والأدب، نادرا ما يصطدم بالسلطة السياسية أو الدينية أو الأخلاقية إلى درجة يبدو عندها أميل للركون إلى التوازن والمصالحة مع الواقع الراهن. ترتفع درجات المصالحة مع الواقع كلما كانت أقرب إلى السياسة أو الدين أو العائلة.
ربما هذا ما جعله يمثل الصورة الملائمة لمنافسة أمراء العنف القادمين من زمن آخر ويسيرون عكس الزمن... هم نجوم مجتمع ساكن سياسياً ويبحث عن «قتلة بالوكالة» ليخلصوه من أوضاع أصبحت تشبه القدر. هذه العقلية تحتفظ الى جانب القتلة بصورة نجيب تربية الثلاثينيات المتسامحة والمنتصرة لمقاومة الاستعمار بالسلم. مازال هو (صورة) المثقف في ذهن العامة.. صورة تحتفي بالانتصار وتحقيق معجزة «نوبل» والشهرة في العالم. هو منطق المعجزة الذي يرى به عامة الناس صورة أخرى للمثقف، مثل طه حسين.
نجيب محفوظ «صورة» المثقف الحديث الباقية من تلال مزدحمة بالصور والشخصيات. وإذا سألت شخصاً عادياً عن المثقف الذي يعرفه اليوم، لن يتردد في أن يذكر لك اسم نجيب محفوظ، والمهم هنا ليس ما يعرفه هذا الشخص عن أعمال كاهن الصنعة في معبد الفن الروائي، لكن محفوظ هو رمز الأديب والمثقف في مخيلة جماعية لا تحتفظ في ذاكرتها خلال العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة بأسماء مثقفين من النوع الذي ترك الساحة خالية أمام نماذج أخرى تلتزم بحدود علاقتها بالسلطة: محمد حسنين هيكل... أو نماذج تعود إلى سلطة شفاهية تسيطر بقوة أسطورية من الدين: الشيخ محمد متولي الشعراوي... هؤلاء هم نجوم الثقافة في عصر الميديا الجبارة.
نجيب محفوظ يزاحمهم. يحتل مساحة كبيرة وحده. بلا تفاصيل. انها نوبل... والسينما. جائزة التقطها من غرب ظالم دائم في مخيلتنا، وسينما حكت عن ابطال لهم ملامح واقعية، ربما اكثر واقعية من المتفرجين انفسهم. ابطال الثلاثية اصبحوا هم الواقع... سي السيد وأمينة، ذكورة وأنوثة الاستبداد الشرقي المغرم بالقهر والمتعة، واقعية حارقة حين تضبط البطل في اسئلة مفترق الطرق. شادية في «زقاق المدق». وعمر الشريف في «بداية ونهاية» ونور الشريف في «السراب». الأبطال حائرون. والأديب يغير زوايا الاقتراب من الفلسفة الى علم النفس الى تشريح المجتمع.
ربما تبدو الواقعية في المعمار، الولع بالبناء، وليس في اللغة او طريقة الحكي. نجيب موهوب في بناء ملائم لحكاية البطل الكلاسيكي احياناً، او مستجيب لموضات الكتابة، لكنه مستقر، غير مقلق، لا يهدم العالم على رأسك. أسئلته هادئة وجنونها عاقل مسيطر عليه لا يحب الحواف. يقف في المنتصف... في المركز.

3 طفولة الثورة
تغيب احيانا البوصلة بينما المدينة تدفع جنونها الى لون الدم او لون الرعب الكبير.
مدينة تتعرف على ذاتها بعدما عاشت سنوات الغربة والحواجز.
مدينة تواجه كل ما فيها من دون «رتوش» الاغاني العاطفية ولا التوهمات المدرسية عن «ام الدنيا» و«مصر التي».
يبدو سؤال الثورة تحت ركام الاكتشافات: كيف يعود العالم طفلاً بعدما أفسدته الشيخوخة العاجزة؟
الطفولة قوة تبني وجودها بمنطق العناد والتحدي ولا تعترف بقوانين الواقع، وتتجاوز الاختيارات الضيقة الى عالم أوسع لم يتوقعه احد.
ولأن الثورة فعل نادر في التاريخ، فإنه يأتي ليوقف الماكينات لتفكر في عالم جديد، وعادة يبدأ من نقطة الضعف في المجتمع، وهنا لا يمكن التعامل معه على انه تحسين شروط او استبدال ساكن القصر بساكن جديد.
الثورة هي عالم جديد وهذا جعلها تتجاوز مرسي بلحظته العابرة كما تجاوزت المجلس العسكري العابر.
وعندما كان يرفع شعار: «يسقط النظام» فإنه ليس المقصود هنا مرسي وجماعته الساكنة خياله وقصر الرئاسة. مرسي ليس «النظام» لكنه صدفة كما كان مبارك صدفة، وصلت الى مقعد الرئاسة وفق تركيبة نظام ما بعد ١٩٥٢، حيث يختار الكهنة في الغرفة المغلقة مساراً ليصل شخصا بعينه... فعلوا ذلك عبر هيئة التحرير ومجلس قيادة الثورة ثم عبر الاستفتاء وحتى الانتخاب الحر المباشر... كلها ظلت أشكالا تحت سيطرة الكهنة، ويحكمهم في المسار الذي يصل بمشهد الختا،م سواء كان تصعيداً او استفتاء او انتخابات... كل الطرق تؤدي الى «دولة الكهنة».
ولم يكن مرسي ليصل الى الرئاسة لو كان المسار قد خرج من قبضة «الكهنة» أصحاب البدلة الكاكي وادخلوا به الثورة في «عملية تحت السيطرة» بداية من استفتاء آذار 2011 الملعون وحتى استفتاء كانون الاول 2012 الأكثر لعنة.
الكهنة الكاكي ادخلوا الى غرفتهم السوداء عدوهم القديم ليرمموا ما دمره مبارك وولده، وكانت المغامرة/المؤامرة التي أشركت الذئب في ادارة توزيع الغنائم، فدفعت الثورة دفعا باسم العقل والحكمة والمصالح العليا للبلاد والاستقرار وعجلة الإنتاج... إلى لعنة العملية التي تعيد إنتاج النظام المتحول في صورة جديدة.
هذه هي الثورة أما حكمة الحكماء الواقفين على الحياد... المستمتعين بأوهام عن نقد كل الأطراف فهذه ليست إلا ممسحة أنيقة لنفايات النظام المتحول.

وائل عبد الفتاح

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...