مئة عام على ولادة لورانس داريل كاتب الإسكندرية وعوليس العصر الجديد

02-03-2012

مئة عام على ولادة لورانس داريل كاتب الإسكندرية وعوليس العصر الجديد

كان لورانس داريل، يسمي ذلك "روح الأمكنة" (Spirit of Place)، فيما لو استعرنا حرفيا عنوان أحد كتبه. والمُراد بذلك، أن نفهم جيدا سحر هذه الأمكنة الساحرة أو ربما "الشهوانية"، الغنائية الوجدانية أو ربما "الهيستيرية"، التي مارست عليه حضورها الكبير و"الفعال". من هنا، لا ينحصر لورانس داريل على أنه فقط كاتب مدينة الإسكندرية، مثلما جاءت عليه رباعيته الشهيرة، أو حتى ذاك المتسكع الذي سحرته الجزر اليونانية. ربما عرف تاريخ الأدب، بعض هذه "اللافتات" الكبيرة التي وضع تحتها العديد من الكتّاب، مثل لوري الذي اعتبر أنه فقط ذاك الدبلوماسي الذي كان يتوه تحت بركان المكسيك، أو جوزف كونراد، الذي عشق مراكب الكونغو. كان داريل مزيجا مدهشا من أشياء كثيرة، ومن حالات مختلفة.
ولد داريل العام 1912 في الهند "الاستعمارية"، على سفح جبال الهيمالايا، كان مواطنا انكليزيا من أصول إيرلندية نشأ في كانتربري، وعاش قسما كبيرا من حياته بعيدا عن كلّ هذه الأمكنة، ليكتشف وليقع تحت تأثير أمكنة أخرى، على الرغم من أن المتوسط شكل له "واسطة العقد" وإن عاش السنين الثلاثين الأخيرة من حياته في منطقة "اللانغيدوك" الفرنسية التي توفي فيها هذا الكاتب والدبلوماسي والشاعر والصحافي، العام 1990، عن عمر 78 سنة. المتوسط بالنسبة إليه كان "عاصمة العالم وقلبه وعضوه الجنسي"، مثلما قال ذات يوم في حديث صحافي أجراه معه الشاعر الفرنسي مارك آلين.
تأتي اليوم الذكرى المئوية الأولى لميلاده، تحت وابل من الاحتفالات، لعلّ أبرزها احتفالات دور النشر الفرنسية المتعددة، التي تصدر له وعنه العديد من الأعمال المتنوعة، إذ نجد في البداية طبعة جديدة من رباعيته الشهيرة "رباعية الاسكندرية"، التي صدرت في نهاية خمسينيات القرن الماضي، عند ناشره التاريخي "بوشيه كاستيل"، كما نجد سلاسل كتب الجيب، تعيد له نشر بعض اعماله لعل أبرزها كتاب "حامض أسيدي" (ليبيرتو)، وكتاب "موسيقى صغيرة للعشاق"، وهو نص يعود إلى شباب الكاتب، حين كان في العشرين من عمره، وهو غير منشور سابقا، بل كان يقبع في أحد أدراجه، ليعود السؤال الأبدي ليطرح نفسه: هل يحق لنا نشر مخطوط لكاتب ما بعد وفاته، في حين أنه هو ذاته رفض أن ينشره لما كان على قيد الحياة؟
من الكتب البارزة أيضا حول داريل، والتي اعتبرته الصحافة التي تناولته بمثابة سبر لأغوار"الكاتب الراحل"، كتاب "في ظلال الشمس الإغريقية" للكاتب لوي فيتون الصادر عن منشورات مجلة "لا كانزان ليتيرير" وهو كتاب يجول على الأمكنة "الداريلية" (نسبة إلى داريل) ليتضمن أيضا العديد من المقاطع التي كتبها المؤلف نفسه عن هذه الأماكن، بالإضافة إلى تعليقات وأحاديث منتقاة من مسيرته، وقصائد... والمفاجأة، بعض رسومات داريل (مناظر طبيعية، بورتريهات، ورود، مائيات،..) والتي تشهد على قوة رسم حقيقية. إذ كما هو معروف عنه، كان كل فعل إبداعي، بالنسبة إلى داريل، بمثابة "غارة ضد غير المفهوم".
وإذا كان داريل الإنسان قد ولد العام 1912، نجد أن داريل الكاتب ولد العام 1935، أي في هذه السنة التي بدأ فيها مراسلاته الشهيرة مع هنري ميللر بعد أن قرأ "مدار السرطان" وما سببته له من صدمة (إيجابية)، إذ اعتبر يومها أنها رواية "تعليمية" بالنسبة إليه، على الرغم من أنه عاد وأنكر ذلك، مثلما نجد في أحد مقاطع "موسيقى صغيرة للعشاق". في ذلك العام أيضا، ترك نفسه تنسحب مع الحياة البوهيمية ليذهب إلى جزيرة كورفو. هناك، وجد ملجأه في أحد البيوت المهجورة، ليمضي ساعاته مع الصيادين، ليسبح ويكتب. حول هذه الفترة، يكتب أول كتبه الكبيرة "الدفتر الأسود"، الذي جاء – على قوله – تحت تأثير شكسبير ود. أتش. لورنس. في هذه اليونان التي اكتشفها وأحبها إلى درجة الموت عاش "مع الفقر العاري الذي يسبب فرحا بدون ذلّ" (..) اكتشف "الحانات ذات أكاليل الغار، الحملان المشوية لعيد الفصح، الأبطال الملتحين، القديسين الصغار ذوي الأسماء المحلية...". لكنه في النهاية غادر الجزيرة الإيونية ليذهب إلى مصر في عزّ الحرب العالمية الثانية. كانت الإسكندرية، تلك "المدينة المجاز" و"معصرة الحب الكبيرة". بالنسبة إليه انشده بهذه المدينة الحديثة، الكوسموبوليتية التي تعايش فيها اليونان والإيطاليون واليهود والأقباط والبدو والانكليز ونجوم الغناء الفرنسيون الذي ولدوا في تلك المدينة. مثلت الإسكندرية أيضا، في تلك الفترة، مهد شعراء ما لبثوا أن خطوا اسمهم في تاريخ الشعر: أونغاريتي، جورج شحادة، كافافيس، في تلك الفترة أيضا أعلن داريل عن فترته المليئة بالشعارات، أي موقفه الذي تلخص بإحلال الفضاء بدلا من الزمن، أو بالأحرى كما كان يقول "هذا الوجود المكاني بما يمثله من صفات سحرية". بالنسبة إليه، كان الفضاء يتحرك مثلما كان الزمن يتحرك عند مارسيل بروست. "كل ما يخرج مني بمثابة منظر". هناك أيضا وجد عملا ثابتا، إذ عيّنه مكتب العلاقات البريطانية الخارجية في المركز الثقافي البريطاني هناك، لكنه سرعان ما اضطر إلى مغادرتها إلى الأرجنتين مكرهاً، كمسؤول عن العلاقات العامة. عاد من هناك، ليجد الجزر اليونانية، حيث انتقل إلى رودوس "جزيرة الورد" لمدة سنتين. في مكانه هذا أنهى "سيفالو"، أحد كتبه الأساسية، ولينشر أيضا بعض القصائد.
لم ينج داريل، مرة أخرى، من السحر اليوناني. كانت اليونان بالنسبة إليه، بمثابة "سجل" كبير عرف فيها "أشجار البرتقال السمين" و"الأيام التي لا تفارقها الزرقة"، و"الربيع الإيجي (نسبة إلى بحر إيجيه) الذي يجد توازنه على خيط"، وجد أيضا رعشات البحر، و"الوجوه المدخنة" و"ألم الماندولين المبرح". حول ذلك كله جاء كتابه "فينوس والبحر" (1953) بمثابة تحية إلى جزيرة رودوس.
بعد هذه المرحلة المليئة بالشمس، يغادر الدبلوماسي داريل إلى يوغوسلافيا، وهي من مراحل حياته الأقل معرفة من قبل القراء. كان يكره بلغراد، لكنه أصيب بالدهشة في سراييفو، التي ذكرته ببعض "الرسوم في نهاية القرن التاسع عشر". وبعد أربع سنوات في البلقان، يعود داريل "إلى النبع المتوسطي" ليختار جزيرة قبرص للعيش فيها بين عامي 1953 و1957، وهي الفترة التي أتاحت له كتابة الجزءين الأول والثاني من رباعيته "جوستين" و"بالتازار". في تلك الفترة كتب لهنري ميلر عن قبرص قائلا: "إنها جزء من آسيا الوسطى: جزء منهار من البحر. إنها ليست اليونان: بل الشرق الأوسط حيث روائح تركيا ومصر". لكن عمله الكبير الذي كان السبب في شهرته، لم ينته من كتابته إلا حين أقام في "لو غارد" حيث انتهى من كتابة "ماونت أوليف" و"كليا"، اللذين شكلا الجزء الثالث والرابع من رباعيته الشهيرة. هناك، وهو بعد في الخامسة والأربعين من عمره، تخلى عن كل شيء، ليتفرغ للكتابة. عاش أيضا بعيدا عن الإسكندرية في منطقة "سوميير"، لأكثر من ثلاثة عقود لغاية موته العام 1990. عن تلك المنطقة قال: "مدينة قروسطية صغيرة"، هنا "حيث الحياة اليومية قد احتفظت بكل عراقتها الهادئة مثل بيت شعري لموليير".
في تلك الفترة، بدأ وكأن حقبة جديدة من أدب داريل يتخد مكانه. نشر العديد من الكتب، من بينها كتابه الرائع "الجزر اليونانية"، لكنه كتب عن منطقته "تحية إلى البروفانس"، لعيش بين مدّ وجزر، وليعرف مأساة انتحار ابنته...

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...