مقاتلو الشاشات... لكل حرب رجالها

15-06-2013

مقاتلو الشاشات... لكل حرب رجالها

"الفقراء وقود الحروب"، تتكرر العبارة مراراً لإنصاف المقاتلين في المعارك والحروب الدموية. "ليسوا سوى مجرّد ضحايا لحروب الكبار"، "لو لم تضق بهم الدنيا، لما عمدوا إلى استخدام السلاح للهرب من واقعهم". تصحّ تعابير التبرئة هذه لوصف الحال، أينما كان. يزداد تكرارها حسب الظروف، وحال البلد نموذجي، اليوم كما في السابق. أولئك الذين يقاتلون في طرابلس مثلاً، من دون أن يملكوا ثمن الرصاصات التي يتلقّونها، ينتظر كثر ليصيروا مثلهم. هناك ما يكفي من عاطلين عن العمل يترقبّون وصول الحرب لكي "يتوظفوا".
أثناء هذه المعارك، بالرصاص الحي في الزواريب والشوارع الضيقة، تجري معارك أخرى أقل دموية بالتأكيد، وتخلو من مشاعر الحزن والألم، فهي معارك افتراضية، تجري على التلفاز وشاشات الكمبيوتر، ينعم بها من هم بالتأكيد أكثر يسراً من أولئك الذين يقاتلون "عن جدّ". إنها الحروب والمعارك في الألعاب الإلكترونية، وقودها مختلف هنا، فهو ليس الفقر حتماً. من يملك ما يكفي لشراء جهاز كمبيوتر و"بلاي ستاشن" و"إكس بوكس"، لا تنطبق عليه بالضرورة تعابير التبرئة أعلاه. المشترك الوحيد بين النموذجين ربما رغبة دفينة بالعنف، تحتاج إلى ما يخرجها، سواء بطلقات نارية حقيقية، أو بكبسة زر.
لا يقتصر النقاش حول سلبيات هذه الألعاب على نفوس الأطفال والإدمان التي تتسبب به فحسب، فالألعاب الإلكترونية بواقعيتها المفرطة تأسر مخيلة الكبار أيضاً، لا بل بإمكانها أن تفعل فعلتها على مقاتل خاض معارك حقيقية على أرض الواقع.
يجلس ربيع في غرفته، قرابة منتصف الليل. السبب في اختيار وقت متأخر هو انتظار انخفاض تكلفة الإنترنت، فاللعبة التي يتقنها أجمل وأكثر واقعية في حال مارسها بالاتصال مع رفاقه، كلّ في منزله وعلى جهازه. تمتد فترة اللعب إلى أربع ساعات يومياً، وقد تزيد عن ذلك "حسب حماسة المعركة"، يقول. كل منهم يختار اسما حركياً له، فالمعركة وإن كانت افتراضية، إلا أن واقعيتها تحتّم على اللاعبين التمسّك بتفاصيلها. يختار ربيع لقب "الصقر" أو "هوك" بالإنجليزية، لما فيه من رهبة كما يقول. يواظب على استخدامه منذ مدة طويلة، فهو معروف على ساحة الألعاب الإلكترونية، وللقبه صيت ذائع بين ممارسي اللعبة. في المقلب الآخر، وعلى بعد بضعة كيلومترات من منزله، يجلس "رفيق السلاح" حسن في غرفته هو أيضاً. التواصل يتم من خلال الشبكة، المسافة ليست عقبة إذا. يختار حسن لقباً أكثر التصاقاً بأرض الواقع "الشيخ". السبب وراء اختيار اللقب، هو اقتناع حسن بأن له وقعا أشد، وخصوصا إذا كان بعض الخصوم أجانب يشاركونهم اللعب من بلادهم. "الشيخ ما بينمزح معه، بخافوا من المصطلحات الدينية الجماعة".
وفي حال اقتصرت اللعبة على المحليين تبقى الألقاب على حالها، فالرسائل التي يمكن تبادلها خلال اللعبة، ترقى بالمعركة إلى مرحلة أكثر... واقعية. الاحتقان الطائفي، والحقد المذهبي، يجدان طريقهما أيضاً إلى الألعاب الإلكترونية. يلجأ البعض إلى استخدام ألقاب مذهبية واضحة، تزيد المعركة احتداماً. "أسد الطائفة كذا" بمواجهة "مقتلع قلوب الطائفة كذا". تجسيد المقاتلين في اللعبة لا يمثّل بالتأكيد نماذج عن هذه الطوائف. فاللعبة صناعة أميركية، والطرفان المتحاربان من جنسيات مختلفة بالطبع، "روس وأميركان" في أغلب الأحيان، أقله في لعبة "كول أوف ديوتي" بأحدث نسخها، لكن اللقب يكفي لتوجيه بوصلة المعركة على شكل يشبه الواقع.
يشرح محمد، أو "الجزار"، كما يطلق على نفسه، أن حماسته في اللعبة تزيد كلما حصلت تطورات ما على أرض الواقع. "أجمل اللحظات" كانت في 7 أيار 2008. "البلاد في حرب شوارع ونحن مسمّرون في المنزل، اللعبة كانت متنفسنا الوحيد". وبالرغم من "افتراضية المعارك" التي كان يخوضها، لكن الحافز كان موجوداً. "المعارك الحقيقية كانت تحصل بالرصاص الحي، أما معاركنا فكانت معنوية". والسبب وراء عدم المشاركة في معارك الشارع، ببساطة: "لكل حرب رجالها، قد يأتي يوم استطيع فيه أن أترجم مهارتي في اللعبة على أرض الواقع".
أغرب ما في المشهدين، الواقعي والافتراضي، أن اندلاع المعارك في الشوارع يسجن عدداً كبيراً من "المتحمّسين" في بيوتهم، ليتلقّوا تدريباً افتراضياً يوفّر لهم "بروفة" نوعاً ما، قبل أن يحين دورهم. تؤمن هذه "البروفة" كل متطلبات المعركة الواقعية، التي ينشدها "الجزار" وكثيرون غيره. حماس، تصميم، اقتناع بضرورة التخلص من "الخصم" لكسب الجولة، وحقد وغضب تسمح اللعبة بإخراجهما. الفارق الوحيد، ربما، يكمن في عدم اختبار شعور الانكسار والخسارة، وما يولده من حزن وألم، وهو امتياز لا توفّره سوى معارك الرصاص الحي.
لا يوافق "الفأس" على هذا الاستنتاج، فسقوط رفيق له في المعركة، يولّد لديه غضباً قد لا يختلف كثيراً عن ذاك الذي ينتاب مقاتلاً حقيقياً، رغم عدم اختباره ذلك حتى الآن. "في حال قتل رفيق في المعركة، سيضطر إلى الانتظار بضع دقائق ليعيش من جديد". امتياز توفّره اللعبة هذه المرة، خلافاً للمعارك الحقيقية. ويضيف "الفأس": "ريثما يحصل ذلك، سيتمكن الآخرون من الإجهاز عليّ، وبذلك سنخسر المعركة، وخسارة اللعبة أمام هؤلاء لا يختلف بشيء عن خسارة صديق في أرض المعركة".

مقاتل... في الغرفة
قبل أن تنتشر الألعاب الإلكترونية على "الانترنت" الذي تطوّرت خدماته مؤخراً في لبنان، كانت الوسائل أكثر "بدائية" نسبياً. كان على ممارسي هذه الألعاب تنظيم لقاءات في "مقاهي النتورك"، وهي محال مجهزة بكمبيوترات يتصل بعضها ببعض، وهي لا تزال موجودة حتى الآن، رغم تراجع عددها بشكل كبير.
في هذه الأماكن، كان على "المتحاربين" أو المتبارزين التواجد في المكان نفسه. أيمن الذي نادراً ما يزور هذه الأماكن الآن، بعد أن جهّز غرفته بكل ما يلزم، يستذكر اللعبة الأشهر في تلك الفترة: "كاونتر سترايك"، لعبة معارك شديدة البساطة في حبكتها، وتختصر بفريقين: "الإرهابيين بمواجهة الشرطة"، خلافاً لتعقيدات الألعاب الحديثة، التي تحاكي سيناريوهات تتشابه إلى حد كبير مع الحروب الدائرة في المنطقة والعالم.
رغم تطور هذه النماذج من الألعاب، ظلّت الفكرة الأساس كما هي: طرف عليه التخلص من طرف آخر. الفارق الذي يجده أيمن اليوم مقارنة مع تلك الفترة، هو حتمية تواجد الفريقين في المكان نفسه، وهو الأمر الذي كان يثير الكثير من المشاكل بينهما. "كان الخصم شخصٌا يمكن رؤيته، كان كائنا موجودا "بلحمه ودمه"، أما الآن فالخصم مجرد اسم أو لقب على الشبكة".
لا يبدي أيمن امتعاضه من تبدل الأحوال. انتقاله إلى غرفته الخاصة سمح له بالمزيد من "الحرّية". "التواجد في المكان ذاته كان يفرض علينا غالبا ضبط النفس، نزولا عند شروط صاحب المحل، فنمتنع عن الشتائم والصراخ، وهي عناصر ترافق اللعب في العادة". شروط لم تعد مجدية بعد التحرر من محدودية المكان الذي يفرض على الأعداء الاجتماع، ولو كان ذلك بهدف خوض حرب.

عالم سحري عنيف
"الألعاب الإلكترونية عالم سحري واسع"، يعرّف الباحث في القضايا الاجتماعية زهير حطاب. بالنسبة له إن اختزال التقييم لهذه الألعاب بوصفها مضيعة للوقت أمر غير صائب، رغم مثابرة عدد كبير من الاختصاصيين على وصفها بذلك.
يعتبر حطاب أن الألعاب الإلكترونية عموماً تدمج مبادئ توجيهية عدة ومباشرة، منها الإيجابي ومنها السلبي. الأسلوب البسيط والجذاب الذي تعتمده يسهّل سرعة انتشارها بين مريديها. وهو انتشار لا ضرر منه إطلاقاً، حين يتعلق الأمر بالألعاب التي توظّف لتنمية الإدراك الذهني، وتنشيط المخيلة لدى مستخدميها. والمؤشر على أهميتها، يتمثّل بقدرتها على الاستحواذ على اهتمام الكبار كما الصغار.
أما الألعاب الإلكترونية التي تتسم بالعنف، فانتشارها الكثيف يرتبط بالقدرة على التماهي معها، نظراً إلى الحالة التي تعيش فيها المجتمعات العربية.
ويشير حطاب إلى بعض الدراسات التي قد تفسر تفضيل الألعاب العنيفة، إذ أقدم طلاب عملوا تحت إشرافه على اختيار عدد من الشبان بعد دراسة شخصياتهم وتصرفاتهم، واضعين أمامهم خيارات عدّة لألعاب إلكترونية متنوعة، فعمد هؤلاء على اختيار الألعاب التي تشبه إلى حد كبير شخصيات النماذج المدروسة.
رغم ذلك، يعتبر حطاب أن الرابط بين طبع المستهلك ونوعية اللعبة الإلكترونية ليس كافيا لتلخيص العلاقة بينهما، إذ يشير إلى أن إغراق الأسواق والمجتمعات المستعدة لتلقف الألعاب العنيفة، يأتي بدعم أو بإهمال من القيمين على التحكم بتدفق هذه السلع، لأسباب عدة تبدأ بالسعي إلى الربح وصولا إلى المحافظة أو تشجيع الروح القتالية في المجتمع. وبناء عليه الوسيلة الواحدة لمراقبة هذه الألعاب تكمن في ضرورة تنشيط جمعيات المجتمع الأهلي، كمثيلاتها في البلدان الغربية، من أجل احتوائها والتخفيف من انتشارها.

آدم شمس الدين: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...