وداعاً أيها الصافي (ملف)

12-10-2013

وداعاً أيها الصافي (ملف)

أطلق وديع الصافي آهاته الشجية ورحل طاوياً معه عصر الطرب، وقد ترك صدى صوته المنشي يتردد في أجواء الوطن العربي جميعاً، بمشرقه ومغربه.
انطوت صفحة ولا أبهى من تاريخ الغناء العربي، الغناء الذي يذهب إلى الوجدان فينعشه إلى حد البكاء شجناً.
أطلق صوته العفي فملأ هواء دنيا العرب من أدناها إلى أقصاها، وهو الذي غنى مع لبنان وله سوريا بدمشقها ومصر بقاهرتها والعراق ببغدادها وبلغ صوت الفرح أقصى المغرب وأدنى المشرق، فكان مطرب العرب بحق، متجاوزاً الحدود وأنظمة القمع رابطاً بين الإنسان وأرضه.
مدّ صوته بساطاً سحرياً للطرب الأصيل، وديع الصافي في دار الأوبرا السورية في دمشق (أرشيف «السفير») من غير أن ينسى أشجان وطنه وإنسانه، ببيوته الصامدة في الجنوب... وغنى بلداته وقراه، بأسمائها متعددة الأصل.
غنى فرح الحب وأشجانه.
غنى للعشاق والمغرمين،
غنى للملاحين وريسهم وللصيادين،
غنى لأبناء الحياة، وشهق بالبكاء مع المحبين، وأطلق صوته زغرودة فرح ليندفع العشاق إلى الدبكة وقد أنشاهم وأدخلهم إلى عالم النشوة بسحره جميعاً.
لم يكن وديع الصافي مطرب الناس فحسب، بل هو قد طار إلى المهاجرين يشدهم مجدداً إلى الوطن، يحمل إليهم أنفاس أمهاتهم والآباء.
كانت تنتظره دمشق فتتزيّن له وتذهب إليه بشوقها إلى الحياة فيطربها حتى النشوة... ويلتف من حوله شيوخ طربها والأجيال الجديدة من المغنين والمغنيات يتعلمون منه وهم يتأوهون.
وكانت تنتظره القاهرة بأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ والشعراء الذين يأخذهم صوته إلى القصيدة.
ولقد طاف جميع العواصم فغنى الناس وغنوا معه، وتأوّهوا وهم يسرحون مع آهاته كما مع أبو الزلف... بل انهم حفظوا له كل أغانيه التي لحّن معظمها، أو تلك التي لحنها له الرحابنة في بعض مسرحياتهم التي انتعشت بمشاركته فيها.
لقد دخل بصوته حياتنا جميعاً، بالأفراح فيها وأسباب الشجن... فغنى للناس ووزع البهجة على جمهور بالملايين في مشارق الأرض العربية ومغاربها.
صوت لبنان العفي، الشجي، المبهج، المنشي، المطرب، الممتع، الممتلئ عافية ونغماً مصفى.
لقد أعطانا ستين عاماً من الطرب وألف ألف أغنية لحنها بإحساسه وحبه للناس الذين كانوا يسمعون منه صوت الفرح والحماسة والشجن والفخر ويتسلقون معراجه إلى النشوة.
يغيب وديع الصافي لكن صوته الذي انبثق من صلابة صخورنا وترقرق كمياه أنهارنا وحلّق كصلوات وتنهدات عذارانا. صوته الذي كان ذخيرتنا ومؤونتنا وكنزنا يبقى جوّاباً في نسيمنا وفي عواصفنا وفي جبالنا. الصوت الذي هو في حجم وطن وملحمة شعب وذاكرة بلاد لن يختفي وسيبقى عزاءنا في هذه الأوقات الصاخبة الغاضبة الملعونة، غير أن العصف لن يصرفنا عن رؤية النسر الذي هوى في ضربة درامية، ملحمية، لنا وللعالم. غناؤه لم يكن وقفات جمال كبيرة فحسب، ففيه خفقات الوجد والقوة معاً، وهواجس القبض على كل العزم في الصوت البشري، وفيه ذلك النسيج التفصيلي لكل مرادفات الحنان، وإيقاعات الغوى المتعددة.
«شو طمّعك يا زين تهجر حيّنا»، كان يسأل وديع في الشريط الإنساني للحب، بصوته الذي يرى إلى ما فوق الكائن البشري، إلى الصوت الأعلى والحلقة الذهبية ما بين الإله والرجل.
أليس اقتران الصوت بالكلمة، والحنان بالقوة، والبساطة بالدربة هي أغنيات الصافي، راشحة بكل ما أبدعه الرب من سحر خلق الأصوات وكينونتها. ما الذي سوف نردده ونعدده مما غناه الصافي، وماذا ننتقي لندرجه هنا كمثال على عذوبة صوته ورفعة ذلك الصوت؟ الحقيقة أن كل ما شدا به الصافي يليق بأن يكون تذكيراً وداعياً فاخراً، وكل ما همس به، ما أعلى به الصوت أو أخفضه، يستحق أن يقال بأنه صفحة جمالية متعالية على أغلب ما نسمعه الآن، بل إنه البون الشاسع بين ما تجاوزه صوته، والضجيج الذي نسمع، وكم يبدو رخواً ومطاطاً قبالة غناء الصافي العــذب، الذي هدانا جميـــعاً إلى العذوبة كما ينبغي أن تكون تماماً.
رحيله وجعٌ جديد، يضاف إلى أوجاعنا البائتة، سكنت أخيراً لجّة صوته وأنفاسه وغدا الوقت وحلاً وفراغاً صدئاً. ضاعت الماسة، وها هنا المعنى من غيابه، الذي لا يتيسّر لنا استيعابه تماماً. وسترتسم سيرة حياته كلها على صفحة هذا البلد الذي يخون أبناءه، يرسلهم ليغرقوا أو يتعفنوا أو يتشظوا في موت لا يتزعزع. رحل الصافي وقد عاش لنا، عاش لشغفه وصوته، وعاش لكي يستلّ من قلوبنا أحلى انفعالاتنا، وهذا هو الحب الذي خلّفه لنا. لكن الموت ليس وداعاً فحسب، إنه ليذكّر أيضاً، أن من عاش بيننا، خلّد بعد رحيله، قرباناً بهذه الضخامة.
(«السفير»)

عَشق الشام في حياته، ووحّدها في مماته
ليت أحدهم يملك آلةً للزمن ليعيدنا إلى الخمسينيات، وتحديداً أيام الوحدة بين سوريا ومصر، لنتابع بمتعة مشهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر يستقل طائرته من القاهرة إلى دمشق، كي يحضر إحدى حفلات وديع الصافي. للراحل حكاية طويلة مع عاصمة الياسمين قد تكون بدايتها سنة 1952، عندما أطلق أغنية لحنها بنفسه هي «عاللومة اللومة» من إذاعة دمشق.
قلب الراحل توقف عن النبض، وهو لطالما خفق عشقاً للشام وهوائها. مرة، قال «أعتذر من الشعب اللبناني، فالشعب السوري يحبّني حتى القداسة». وبالفعل، كان لأغنيات الصافي وقع خاص في نفوس السوريين، كلما اشتدت المصائب على عاصمة الأمويين، سمعت صوته يصدح من نوافذ البيوت «يا ابني بلادك قلبك عطيها وغير فكرك ما بيغنيها». هي الكلمات التي غرّدت بها المغنية السورية فرح يوسف فور انتشار خبر رحيل الصافي أمس، وكلما «راح الغوالي» في زمن الموت المجاني، شاركهم العملاق بصوته وهو يصدح بهذه الأغنية.
عرف المسؤولون السوريون قيمة صاحب «يا بيت صامد بالجنوب»، فاهتم القصر الجمهوري به، وأُفردت له مكانة خاصة وحجزت له دعوات دائمة إلى مهرجانات وحفلات رسمية، وكان يلبي الدعوة سريعاً. حتى عندما مرض ذات مرة، أصر الرئيس السوري بشار الأسد على معالجته على نفقة الدولة في مستشفيات دمشق سنة 2008، فأثار قبول الصافي حنق بعض السياسيين اللبنانيين، وحاولوا إعادته إلى بيروت، لكنّ عائلته رفضت. عرف الصافي كيف يحفظ الوفاء، فغنى «سوريا وطن السلام». وعلى العهد، بقي الصافي وفياً حتى بعد اندلاع الأحداث، فلم ينافق ولم يركب الموجة كما فعل كثيرون، بل اختار موقفاً واضحاً وغنى للرئيس الأسد شخصياً «إلاك لا أمل».
خبر رحيله أمس حوّل مواقع التواصل الاجتماعي إلى جدران علّق عليها النجوم السوريون حنينهم إلى أغنياته، وحزنهم على فراقه، وصوراً نادرة له، ومقاطع خاصة من أغنياته، إضافة إلى صورة «سلطان الطرب» جورج وسوف وهو يقبّل يده. كتب أيمن زيدان على فايسبوك: «هي الذكريات والدروب التي نزحت عني برحيلك. كم سأشتاق إلى التجلي بعد غيابك أيها الكبير»، فيما اكتفت أصالة نصري بصورة كبيرة جمعتها به، ودعت له بالرحمة. وهنا، انتبه أحد الصحافيين إلى أنّ «وديع الصافي برحيلك وحّدت السوريين هذا المساء». أما شكران مرتجى، فكتبت «رحل عصفور النهرين وليلى تبكي بعدما راحو الغوالي ولبنان سيبقى قطعة سما وعلى رمش عيونها دموع الفراق».

وسام كنعان

المصدر: الأخبار

أحد أجمل الأصوات في تاريخنا
عندما يرحل فنان بحجم وديع الصافي عن عمر قارب الـ92، لا يمكن الكلام، ولو عاطفياً، عن خسارة للفن أو للغناء. هو خسارة أكيدة لعائلته، لكن القول إننا خسرنا ما كان بإمكان الراحل تقديمه بعد، هو محض استغلال لاسمه، كما حصل معه (ومع صباح، أطال الله في عمرها) في آخر حياته.
لا علم الموسيقى ولا المقارنة بأصوات أخرى تستطيع تحديد قيمة وأهمية وقوة صوت وديع الصافي. إنه فوق «الامتحان». الذائقة وحدها تحدِّد علاقة الناس بصوته. أن لا تحب صوت وديع ــ وهذا نادر جداً ــ فهو أن لا تستسيغ نبرته فقط. كذلك، أن لا تسمع أغانيه يعني أن لا تهوى اللون الغنائي الذي أعطاه الكثير، أي الفولكلور اللبناني في الدرجة الأولى. انتقاده، إن وُجِد، يقتصر على استثناءات من أعماله القديمة (غير الموفّقة، ومن يدّعي الكمال؟) والكثير ممّا غنّاه في السنوات الأخيرة، أي تلك الأغنيات التي لا تليق بتاريخه ولن يُذكر بفضلها في المستقبل (فهي لسوء الحظ ليست من النوع الذي يدوم) ولا في الحاضر (بما أنها لا تحاكي الموجة السائدة لحسن الحظ). قد يكون هو أساء إلى نفسه عندما قبل غناء (وتصوير) هذه الأعمال، ومن بينها ما قدّمه إلى المؤسسة العسكرية وقبلها تلك التي أقحمه فيها نجوم عصرهم من الجيل الجديد، لكن هذه الإساءة إن كانت تُغفَر له لطيبته ولشعوره بأبوة تجاه العاملين في الفن، فالمذكورون يتحمّلون المسؤولية عن سوء نية (استغلال مادي بحت) مبطّنة برغبة كاذبة في تكريمه.
رحل وديع الصافي. الرثاء الوحيد، الصادق والمختصر، هو التالي: رحم الله أحد أجمل الأصوات في تاريخ منطقتنا. ولا كلمة إضافية، سوى ما يمكن طرحه كفكرة لتكريمٍ لائق له بعد رحيله. وهنا أدقّ الكلام. تكريم هذا الرجل لا يكون إلا باستعادة مجتمعنا لتقدير قيمة الصوت البشري في الأغنية. الصوت عند وديع الصافي كان أهم شيء، ونكاد نقول كل شيء. فلا هو مدرسة في التأليف (الذي مارسه تلحيناً وأهمله توزيعاً جدّياً)، ولا هو أهم عازف عود في الوطن العربي، ولم يكن مطلوباً منه أساساً إلا الغناء. أن تملك صوتاً كهذا هو أن تتفرَّغ للغناء، وهكذا حسناً فعَلَ الراحل، علماً أنه أبدع بعض الألحان العذبة. ثمة مقولة جميلة عن الأصوات الجميلة والقوية: مثل الجرس. اليوم نودّع ثاني أصفى الأجراس، بعد نصري شمس الدين.

بشير صفير- الأخبار

وديع الصافي يلتحــق بالاسطورة

ولــو!

حين يصلك الخبر المحزن، فيقطع سهرة الجمعة بالآهات، تستفيق «الفراقيّات» التي يحفل بها التراث الغنائي اللبناني، وقد حملها المطرب الراحل بصوته الرخيم إلى مصاف الكلاسيكيّة. هل نحن بحاجة لأن نتذكّر كم أن وديع الصافي يسكن ذاكرتنا، بالبصمات النورانيّة التي تركها على الذوق العام واللاوعي الجماعي؟ كلّ منّا يردد أغنياته كأنّها من ملكياته الحميمة. «ولو؟ هيك بتطلعوا منّا؟». هذه المرّة صحّت الشائعة للأسف، ورحل مطرب المطربين في مطلع تسعينيّاته، بعد معاناة مضنية مع المرض. «آه يا زمان يا زمان يا زمان، لو تغلط مرّة وتعطيني الأمان».

وديع (فرنسيس) الصافي، ابن رقيب الدرك، الذي شهد ولادته الثانية مراهقاً في «إذاعة الشرق الأدنى» (الاذاعة الوطنيّة اللبنانيّة مطلع الأربعينيات) على يد ميشال خيّاط وسليم الحلو، بات منذ عقود من معالم الهويّة اللبنانيّة، لكن نزول ستارة الفصل الأخير على حياته الحافلة ليلة الأمس، يكرّس تلك الحقيقة، ويعطيها بعدها الرسمي والنهائي.
مات وديع الصافي ليأخذ مكانه نهائيّاً في سجل الخالدين. علماً أن هذا العملاق لم يحظَ بالاهتمام الرسمي في بلده إلا متأخّراً. أما الدعم والرعاية في اللحظات الصعبة فجاءاه من خارج لبنان. ولا غروَ في ذلك، فوديع ليس حكراً على لبنان. ومدرسته الغنائيّة «اللبنانيّة» ليست من الشوفينيّة أو الانعزاليّة في شيء. أبعد من اللون الجبلي الذي برع فيه، أو الغناء التقليدي اللبناني الذي يقترن به في التصنيفات السائدة، خلّد وديع الصافي التراث المشرقي العربي، وأحياه وجدّده. فالغناء الشعبي اللبناني، بشتّى أنماطه وقوالبه (من الميجانا وأبو الزلف، إلى المعنّى والعتابا، مروراً بالشروقي والقرّادي…)، له امتداداته وتفرّعاته في فلسطين وسوريا والأردن والعراق. ابن نيحا الشوف حمل الفولكلور إلى قلب الأغنية الحديثة، فأعطاها مذاقها الخاص، برخامة صوته، ورهافة شعره، وقوالبه الموسيقيّة الفريدة. تلك هي «مدرسة وديع الصافي»، في صلب الأغنية العربيّة المعاصرة التي بلغت معه واحدة من ذرواتها النادرة.
اليوم نلتفت وراءنا من على رصيف المشيّعين، ونستعيد محطّات على الطريق الطويل. وديع الصافي تاريخ حافل من الحقب والأسماء، أسعد السبعلي ومارون كرم، إيليا أبو ماضي وسعيد عقل، فيلمون وهبي والرحابنة وزكي ناصيف، فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب. «عظيمة يا مصر» وسوريا وفلسطين. الأرز وبيت الدين. «مهرجانات فرقة الأنوار» مطلع الستينيات، وقد صدر بعض أرشيفه على أسطوانة رقميّة في التسعينيات. «بعلبك» مع فيروز، و«موسم العزّ» مع صباح، وحواريّاته مع نجاح سلام في أفلام محمد سلمان… حين وضع له محمد عبد الوهاب لحن «عندك بحرية يا ريس»، علّق موسيقار الأجيال قائلاً: «ألحّن له إيه؟ أيّ حاجة يقولها حلوة!». مغنية الأوبرا المصريّة والناقدة الراحلة رتيبة الحفني، كتبت عن صاحب الحنجرة الذهبيّة: «لا نغالي إن قلنا بأن صوت وديع الصافي أقوى أصوات الرجال في العالم العربي بلا استثناء، مداه ديوانان ونصف ديوان تقريباً، أي 18 مقاماً أو نغمة. ويهبط صوته، بسهولة متناهية، من أقصى الحدة إلى أقصى الغلظ. هذا الصوت ضخم جذل، وفي الوقت نفسه رقيق رشيق…».
وديع تنحّى اليوم، فاسحاً الطريق أمام الورثة والفنانين الشباب. هؤلاء يجدون فيه أكثر من مطرب فريد، إنّه أحد رموز النهضة الموسيقيّة العربيّة.

بيار أبي صعب- الأخبار

مسيرة فريدة تختصر هوية الأغنية اللبنانية
عن عمر ناهز 92 عاماً، رحل وديع الصافي (وديع فرنسيس، 1921ـــ 2013) بعدما أصيب بوعكة عند السابعة من ليل أمس، حين كان في منزل نجله طوني، فنقل إلى مستشفى Bellevue في المنصوريّة حيث فارق الحياة. برحيله حكاية من عمر لبنان انطوت. حكاية فن وعشق قاربت الـ 75 عاماً من العطاء، بدأها في «راديو الشرق» في سن السابعة عشرة (1938)، وتوّجها بنجاحات كبيرة في المهرجانات، بين بعلبك وجبيل أواخر الخمسينيّات، ومطلع الستينيات.

ابن بلدة نيحا الشوفيّة، منها كانت انطلاقته الأولى. هناك، لفت انتباه أساتذته في مدرسة الضيعة، ثم في مدرسة الآباء المخلصين في بلدة جون. ووصلت أصداء شهرته إلى أنحاء العالم، وحمل أربع جنسيات هي المصريّة، والفرنسية، والبرازيلية، إضافة إلى جنسيته اللبنانية.
وقع خبر رحيله كالصاعقة على محبيه. فور إعلان الخبر، امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بعبارات التعزية والمواساة. المطربة الكبيرة سعاد هاشم نعت «وديع الخسارة الكبيرة. حين أسمع صوته، أتذكر لبنان بصخره وزهره وشموخ أرزه». تتذكر لقاءهما في «مهرجانات الأنوار» (أنشأها الصحافي الراحل سعيد فريحة) في الستينيات. يومها تحدى أحدهما الآخر بمواويل العتابا وأبو الزلف، وغنيا معاً «ودي يا بحر ودي/ طولنا بغيبتنا/ ودي سلامي لبيت جدي/ وللتوتة اللي بدارتنا». وأشارت هاشم إلى الصولات والجولات التي قاما بها معاً في العواصم العربيّة، منها الكويت ومصر، مشيرة إلى أنّ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر كان يزور السفارة اللبنانيّة في مصر، ليستمتع بصوت وديع وسعاد. لفت صاحب «لبنان يا قطعة سما» الأنظار منذ كان صغيراً. خاله نمر العجيل كان أول من اكتشف موهبته، فعلّمه عزف العود، وأهداه آلة عود، احتفظ بها حتى آخر أيامه. عاش طفولة متواضعة، ودرس في «مدرسة دير المخلص»، وما لبث أن توقف عن متابعة تحصيله العلمي، بعدما سرقته الموسيقى والفن من علمه، فوجد في الغناء متعة وفرصة لمساعدة والده على إعالة العائلة. وكان أكبر أجر تقاضاه يومها ثماني ليرات ذهبيّة من الست نظيرة جنبلاط (والدة كمال جنبلاط)، وكان يومها لا يتجاوز الحادية عشرة.
شاءت الظروف أن يحمل له شقيقه توفيق، قصاصة ورق عن إعلان لمسابقة غنائيّة تنظمها «إذاعة لبنان» الرسمية المعروفة يومذاك بـ«إذاعة الشرق الأدنى». شارك وديع في المسابقة ونال الجائزة الأولى في الغناء من بين 40 متبارياً. وكانت اللجنة الفاحصة مؤلّفة من ميشال خياط، سليم الحلو، ألبير ديب ومحيي الدين سلام. وانتسب بعدها إلى الإذاعة، التي كانت بمثابة معهد فني، ساعدته على إنضاج موهبته. وهناك أطلق عليه اسم وديع الصافي بدلاً من وديع فرنسيس، كما أثبت سريعاً تميّزه، وكانت أولى أغنياته الخاصة «يا مرسال النغم».
يعد الشاعر أسعد السبعلي صاحب بصمة مهمة في مشوار التعاون مع الصافي. كانت البداية مع أغنية «طل الصباح وتكتك العصفور» عام 1940. خلال مشواره، تعاون مع مجموعة كبيرة من الشعراء. وكان مارون كرم أكثر من جمعه تعاون به امتدّ حتى السنوات الأخيرة من حياة كرم، الذي رحل قبل ثلاث سنوات. قدم إليه مئات الأغاني، أشهرها «بيت صامد بالجنوب»، «لا انت راضي»، «ندم» (دق باب البيت عالسكيت)، «مرسال الهوى». وفي نهاية الخمسينيات، انطلق العمل بين عدد من الموسيقيين من خلال «مهرجانات بعلبك»، التي جمعت وديع الصافي، وفيلمون وهبي، والأخوين رحباني، وزكي ناصيف، ووليد غلمية، وعفيف رضوان، وتوفيق الباشا، وسامي الصيداوي وسواهم. أما لقاؤه الأول بعبد الوهاب، فكان عام 1944، يوم سافر إلى مصر. مع بداية الحرب اللبنانية، غادر وديع إلى مصر عام 1976، ثمّ إلى بريطانيا، ليستقرّ عام 1978 في باريس. وكان سفره اعتراضاً على الحرب الدائرة في لبنان، كما عاش فترة في البرازيل. خضع الصافي عام 1990، لعملية قلب مفتوح، لكنها لم توقفه عن العطاء الفني تلحيناً وغناءً. وافق على المشاركة مع المنتج اللبناني ميشال الفتريادس في حفلات غنائية في لبنان، وخارجه مع المغني خوسيه فرنانديز والمطربة حنين.
رغم أن الراحل غنى ألحان الأخوين رحباني وزكي ناصيف (طلوا احبابنا)، ومحمد عبد الوهاب (عندك بحرية) وفريد الأطرش (على الله تعود)، لكن حصّة الأسد من أعماله، لحنها بنفسه، كما كانت له مشاركات في أفلام ومسلسلات مصريّة ولبنانيّة، منها «نار الشوق» (1970)، «الاستعراض الكبير» (1975)، «ليالي الشرق» (1965)، «إنت عمري» (1964)، إضافة إلى مسلسل «كانت إيام» (1964)، لكن السينما لم تكن ملعبه.
كرّمه لبنان مراراً، كما وضعت صورته على الطوابع البريدية مع صباح وفيروز، وحمل خمسة أوسمة نالها أيام الرؤساء كميل شمعون، وفؤاد شهاب، وسليمان فرنجية، والياس الهراوي، ومنحه الرئيس السابق إميل لحود وسام الأرز برتبة فارس، كما منحته «جامعة الروح القدس» في الكسليك دكتوراه فخرية في الموسيقى عام 1991. هكذا، طوى وديع الصفحة الأخيرة من مشواره الفني، تاركاً أكثر من 5 آلاف أغنية. رصيد ضخم أسهم في نحت «هوية» فنية لبنانية انطلاقاً من أصولها الفولكلورية وتراث بلاد الشام بصوت «أبوي» نادراً ما يتكرّر.

باسم الحكيم-الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...