وَهْمُ السينما المستقلة

08-03-2011

وَهْمُ السينما المستقلة

من بين مآثره العديدة، يحسب لمهرجان «أيام سينما الواقع، دوكس بوكس» في دمشق، وهو يعقد دورته الرابعة هذه الأيام، أنه صنع جمهوراً للسينما التسجيلية ينتظر المهرجان من عام إلى آخر. لقطة من «سقف دمشق وحكايات الجنّة» لسؤدد كعدانيصعب أن يتخيّل المرء حشداً على باب فيلم تسجيلي، وهو بالكاد يجد ثلة من متابعي الفيلم الروائي، الذي هو السينما في عرف بلادنا. كان من البديهي أن يكون هذا الجمهور من الشباب، ولعلّهم يدركون اليوم، مع التطوّرات الراهنة، ماذا يعني التسجيل في بلد بكر: لا أرشيف، ولا اهتمام بالوثيقة، وبالتالي لا ذاكرة. وهنا تأتي مأثرة أخرى للمهرجان، نعني بها العمل على التدريب والتأسيس عبر مشاريع وورشات عمل تدريبية وتمكينية وتشبيكية، وذلك كلّه يشكّل رصيداً من المعرفة والتعلّم يُشكّل بدوره بديلاً واضحاً من غياب معهد للسينما.
تظاهرة أميرالاي
استطاع المهرجان فعلاً أن يخطّ لنفسه طريقاً ثابتة وواضحة، ويتحوّل إلى درس، نتمنّى للمؤسّسة الرسمية مع تاريخها الطويل في الإدارة الثقافية أن تتعلّم منه: درس في التنظيم والإعلان واختيار الضيوف والأفلام. واليوم، يستضيف المهرجان خمسة وأربعين فيلماً تسجيلياً، موزّعة على تظاهرات مختلفة، منها تظاهرة «المختارات الدولية» التي تنافس على جائزة الجمهور، وتظاهرات «في البحث عن حياة أفضل» و«عن الرجال» و«روائع المهرجانات» التي تعرض جديد الفيلم التسجيلي في العالم، إلى جانب تظاهرة جديدة لليافعين بعنوان «إنه عالمي». وفي خضم هذا كلّه من أفلام وضيوف من أصقاع الأرض، وجهد وتعب هائلَين لمنظّمين شباب، لن نعثر إلاّ على تظاهرة صغيرة وحزينة طبعاً لعمر أميرالاي، الراحل الكبير الذي يعتبره منظّمو التظاهرة، وكما نعده جميعنا، أستاذاً ومنارة. تظاهرة فيها ثلاثة أفلام: «الحب الموءود» الذي يستكشف المخرج السوري عبره واقع المرأة المصرية، و«عن ثورة» الذي يتحدّث عن الثورة في جبال اليمن، وهو يمثّل المرحلة الأولى من العمل السينمائي لأميرالاي، و«نور وظلال» الذي أخرجه الراحل مع محمد ملص وأسامة محمد عن السينمائي السوري الرائد نزيه الشهبندر.
تلك هي إذاً تظاهرة عمر أميرالاي: عن مصر واليمن. لا أفلام عن الفرات، ولا عن الحياة في قرية سورية، ولا من يحزنون. لا نستطيع بالتأكيد أن نغضّ الطرف. نعرف أن ذلك إنجاز حين يصبح مجرّد اسم أميرالاي ممنوعاً. بل حين تصبح الإساءة إليه توجّهاً رسمياً، كما حدث غداة وفاته على التلفزيون الحكومي، عندما تولّى مدير «المؤسّسة العامة للسينما»، أحد الرعاة الأبرز لـ«أيام سينما الواقع». نعرف أن ذلك إنجازاً. ولكن: هل نتوقّف عند هذا الحدّ إزاء كل ما يجري حولنا، ونعجز عن ثلاثة أفلام أخرى لمبدع السينما التسجيلية السورية وشيخها؟ نعرف أن المنظّمين يضعون في الميزان الاستمرار ومجرّد بقاء المهرجان. ولا ندري إن كان ذلك يستحق. لا ندري إن كان الأمر يستحق أن نبقى مع هذا القدر من الإهانة. إن ذلك يقود بالتأكيد إلى اكتشاف وهم الاستقلالية، الذي يفترض به أن يميّز التظاهرة. ما هي الاستقلالية، إذا لم يستطع المرء أن يرفع رأسه بوجه مدير كمحمد الأحمد، مدير «المؤسّسة العامّة للسينما»؟
الرقابة الحكومية
الأغرب من هذا، كامنٌ في معركة الاستقلالية تلك: كيفية تعاطي المهرجان مع مسألة الرقابة. يثير الاستغراب حديث مسؤولة الأنشطة التخصّصية في المهرجان ديانا الجيرودي لـ«يوميات ثقافية، آذار 2011» حين تقول: «حتى اليوم، لم نصطدم مع الرقابة الحكومية. الموضوع بالنسبة إلينا بسيط. نحن نخضع لقوانين الرقابة السورية، وعلينا التقيّد بها، أو السعي إلى تغيير القوانين، وليس تخطّيها أو التحايل عليها». قوانين؟ من قال إن قوانين الرقابة دستور ينبغي تقديسه؟ وهل تاريخ الإبداع في التاريخ سوى هذه المعارك المستمرة في التحايل، وفي تخطّي الرقابة أعرافاً وقوانين؟ أليست سينما عمر أميرالاي، والعديد من المبدعين السوريين، هي هذان التحايل والتخطّي؟
كان يُمكن ألاّ نلقي بالاً إلى هذا الكلام لولا أن المهرجان صادق عليه بالفعل عبر معركة جانبية دارت حول فيلم «آيدل» («أيها القلب» بالكردية) للسينمائي الشاب زياد كلثوم، الذي يرصد الطريقة التي تتفجّع بها النساء وهن يبكين رجالهنّ الغائبين في قرية في الشمال السوري. الفيلم ناطق باللغة الكردية، لأن نساء تلك القرية لا يعرفن لغة غيرها. لكنه ليس فيلماً سياسياً في أية حال. غير أن المهرجان لم يوصل الفيلم إلى لجان الرقابة المختصّة، مفضّلاً أن يبتّ الأمر من عنده. ولعلّه وجد الفتوى حين يُسأل، وقد يروّج أن الفيلم رديء فنياً، مع العلم أن فيلم حازم الحموي «الشعراني» الذي شاهدناه أمس في المهرجان لا يُدانى في الرداءة. رديء فنياً، أو أنه يطرق موضوعاً حساساً. انظروا كيف نقدّم حججاً تريح الرقابة سلفاً. من سوء حظ المخرج كلثوم أن فيلمه عالق في أيدي منظّمين يبدون أقرب إلى مزاج المعارضة، وبالتالي يكسب كلامهم مصداقية أكبر، كما وقع أيضاً بين أيدي من هم أذكى من محمد الأحمد، وهم أقدر على المواجهة والمحاججة. لكن، أن يكون هؤلاء ألحن بحجتهم لا يعني أبداً أنهم على حقّ.
كان يُمكن لفيلم «آيدل» أن يُدرج ضمن تظاهرة «أصوات من سوريا»، التي تضمّ إلى جانب فيلم «الشعراني» فيلم «راقصون وجدران» لإياس مقداد و«سقف دمشق وحكايات الجنّة» لسؤدد كعدان و«صفقة مع السرطان» لأديب الصفدي و«في انتظار أبو زيد» لمحمد علي الأتاسي و«مدينة الفراغ» لعلي الشيخ خضر. من دون ذلك، كيف يمكن أن نسميها «أصوات من سوريا».

راشد عيسى

المصدر: السفير

التعليقات

عزيز راشد. لابد من التقليل من شأن الجوائز حتى تستقل السينما. خصوصا في عصر الاتصالات. لابد من اسقاط سلطة المنابر. الميزة في سوريا اننا نملك هذا الخيار لأننا مازلنا في البداية و شهدنا عصر الاتصالات. أي مازلنا أحرارا بجهلنا و كيف نتعلم . عندما تسافر في العالم تكتشف الطريقة التي ترسم بها السياسة. نساء تمنح جوائز في مهرجانات ليس لأنها جديرة . و لكن للتشجيع. و لكن لا احد يقول هذا لأن هذا يسيء للمهرجان و للمشروع. و هذا لا ينطبق فقط على المرأة . بل حتى على الدول. فلابد من تزيين المهرجانات بضيوف من دول ضعيفة. إنه التوجه السياسي الذي ترسمه الدول المكتنزة باناها. غير عابئة بإسقاط السياسي على الفن و الأدب بل و الحياة الشخصية لكل فرد. المطلوب ان يكون هناك تمثيل محدد للنساء و تمثيل للمعوقين و تمثيل للسود . هذا ليس في البرلمانات . بل في الشركات و في المهرجانات الفنية. إنه احتقار من نوع آخر للقيم الداخلية للمهنة - للفن - للزراعة- سمها ما شئت و تغليب للسياسي عليها. يبقى كيف يكون الخيار. إعمل اليوم فيلم عن اغتصاب المرأة و ستدور العالم. إعمل فيلم عن الأكراد و ستدور العالم . عارض دولتك و ستدور العالم. ليس انت من يقرر تسييس الفيلم بل الموزاييك الذي يصب في سلة السياسي القادر على إدارة اللعبة. هل الجوائز او الاستضافات تجعل الفنان مهم فنيا ؟؟؟ هذا يجعل بالمقابل شخصية متل سعد الحريري أو رفعت الأسد او مامون البني ثواراُ أممين مثل غيفارا ؟؟؟؟

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...