“أسرار” الهيمنة العالمية للدولار

18-03-2019

“أسرار” الهيمنة العالمية للدولار

بعد الحرب العالمية الثانية سيطرت أميركا على السياسة والاقتصاد العالميين وأصبحت تمثل القطب الدولي الأول في العالم، وتحول الدولار الى العملة الدولية الأولى وسيد الاقتصاد العالمي.

 لا شك أن أميركا دولة كبيرة وغنية وقوية. ولكن هناك نقطة جوهرية ينبغي أخذها تماماً بعين الاعتبار وهي أن أميركا لم تفرض نفسها في مركز الزعامة الدولية بقوتها وغناها الخاصين، بل أنها ـ بناء على ذلك ـ حصلت على تفويض عالمي بأن تكون زعيمة العالم بعد الحرب العالمية الثانية.


ولننظر إلى ذلك عن قرب:


أولاً ـ عشية نهاية الحرب العالمية الثانية (في 1 الى 22 حزيران/ يونيو 1944) عقد في غابة “بريتون وودز” في الولايات المتحدة الأميركية المؤتمر المعروف بهذا الاسم والذي دعت إليه الولايات المتحدة وحضره زعماء وممثلو 45 دولة في العالم. وفي هذا المؤتمر أقر إنشاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتنظيم حركة الرأسمال العالمي. ولكن أهم قرار صدر عن هذا المؤتمر هو قرار اعتبار الدولار العملة الرئيسية لدول العالم أجمع، بدون تغطية ذهبية، أي عملياً إلغاء القاعدة الذهبية في المعاملات التجارية الخارجية واعتبار الدولار الورقي الأميركي (الذي لا قيمة فعلية له بدون تغطيته الذهبية كأي عملة وطنية أخرى) بديلا عن الذهب، أي أنه صار بإمكان الولايات المتحدة الأميركية بموجب هذا التفويض أن تطبع ما تشاء من عملتها الورقية وتلقي بها في السوق المالية والتجارية العالمية وتتحكم بمالية واقتصاد العالم أجمع ومالية كل دولة على حدة. ولكن بالمقابل فإن ممثلي الولايات المتحدة تعهدوا (شفاهيا أو خطيا وهذه مسألة شكلية تماما بالفعل) بأن كل بنك أو شركة أو دولة أجنبية تريد أن تستبدل الدولارات الورقية التي بحوزتها بالذهب، فإن الدولة الاميركية تدفع لها مقابل كل 35 دولارا أميركيا ورقيا أونصة ذهبية أو ما يعادلها من السلع والمنتوجات الضرورية. وهذه المعادلة صارت منذ ذلك الحين كقاعدة متعارف عليها وهي: أن أونصة الذهب تساوي 35 دولارا أميركيا.


وبموجب ما يسمى “اتفاقية بريتون وودز” العالمية، أصبح الدولار العملة العالمية الأولى والوحيدة (بدون تغطية ذهبية فعلية)، واصبحت كل عملات العالم عملات وطنية لكل بلد (مع تغطية ذهبية الزامية). وبناء على ذلك اصدرت أميركا فيما بعد ما يسمى اليورودولار لإنعاش الاقتصاد الأوروبي المنهار بموجب “مشروع مارشال” كما أصدرت البترودولار لدفع مستحقات نفط السعودية والخليج. وهذا ما يمكن أن نسميه مجازاً (وفعليا): عصر هيمنة الدولار على العالم.


ثانياً ـ بعد بضعة أشهر فقط من مؤتمر (واتفاقية) بريتون وودز، وفي 4 ـ 11 شباط/ فبراير 1945، انعقد في يالطا في الاتحاد السوفياتي السابق ما يسمى “مؤتمر يالطا” الذي صدرت عنه ما تسمى “اتفاقية يالطا” التي تحمل تواقيع “المنتصرين” الرئيس الأميركي الأشهر روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، والزعيم السوفياتي جوزف ستالين.


ثالثاً ـ بعد نهاية مؤتمر يالطا طار ستالين عائدا إلى موسكو، وتشرشل عائدا إلى لندن، أما روزفلت فطار إلى مصر، واجتمع في 14 شباط/ فبراير 1945 مع ملك النفط السعودي عبد العزيز آل سعود، وذلك على متن الطراد الحربي الأميركي USS كوينسي الذي كان راسيا في البحيرات المرة في قناة السويس (وهذا بحد ذاته له دلالته التجارية الدولية، إضافة إلى دلالته العسكرية والسياسية، فيما يتعلق بأهمية قناة السويس). وكان الملك عبد العزيز قد أمر بنصب خيمة عربية أصيلة على متن الطراد كوينسي كي يستقبل فيها “ضيفه” و”صديقه” الأميركي رفيع المستوى في “جو عربي” خالص يليق بملك السعودية وبـ”الضيافة العربية”.


وفي 14 شباط/ فبراير 1945 دخل الرئيس الأميركي المقعد على كرسيه المتحرك إلى هذه الخيمة العربية ليجتمع بالملك عبد العزيز، وتم الاتفاق بينهما على تسليم النفط السعودي إلى الولايات المتحدة الأميركية، كي تهتم هي بكل “متاعب!” ومنغصات التنقيب والاستخراج والنقل والتكرير والتصنيع والتسويق، مقابل تأمين الحماية الأميركية الكاملة، داخليا وخارجيا، لحكم الأسرة السعودية، وأن يقبض الملك وأفراد أسرته وحواشيهم ما بين 2 – 3 دولارات أميركية مقابل كل برميل نفط خام مستخرج، ولا يكون من شغل للعائلة المالكة سوى أن تحصي البراميل وتقبض الدولارات وتنفقها وتكدسها على هواها. ويقال، والعهدة على الراوي، أن مدة الاتفاقية هي 60 سنة قابلة للتجديد حسب اتفاق الطرفين “الصديقين”.


وأذا أجرينا قسمة بسيطة لـ 35 دولارا (سعر اونصة الذهب بالدولار الورقي، كما تعهدت أميركا في مؤتمر بريتون وودز) على 2 – 3 دولارات تقبضها السعودية عن كل برميل نفط خام مستخرج، ومع حساب ذبذبة أسعار السوق الطبيعية، تطلع معنا ببساطة نتيجة أن سعر أونصة الذهب (35 دولارا) يساوي ما بين 10 و 20 برميل نفط خام. واذا اجرينا اي عملية حسابية بسيطة لسعر اونصة الذهب المعلن والسعر المعلن لبرميل النفط الخام، منذ ايام اتفاقية روزفلت ـ عبد العزيز الى يومنا هذا، لوجدنا أن سعر أونصة الذهب كان دائما يساوي من 10 الى 20 برميل نفط خام، أي أن أميركا تعطي السعودية الحد الادنى وما دون (وهو على كل حال كثير جدا) وتتصرف وتتحكم بأسعار النفط الخام والمصنّع كما تشاء وتسيطر على البورصات والحركة المالية والتجارية والاقتصادية للعالم.


وهكذا ـ ومن خارج دورتها الاقتصاية الخاصة تماما ـ وتقريباً بدون مقابل، ضمنت أميركا لدولاراتها الورقية التافهة والتي هي بدون تغطية ذهبية، تغطية أهم وأسهل هي التغطية النفطية. وربما لهذا السبب سمي النفط “الذهب الاسود”. وفيما بعد جرى مد خط انبوب النفط (التابلاين) من السعودية إلى ترمينال الزهراني في لبنان، كما جرى “سرا!” مد فرع منه من الجولان السوري إلى حيفا في الأراضي الفلسطينية المحتلة.


خلاصة ما تقدم: وضعت أميركا في جيبها اتفاقية بريتون وودز الدولية التي تخولها استخدام الدولار الورقي بدون تغطية ذهبية، واتفاقية يالطا التي تمنح أميركا السيادة الاستراتيجية (العسكرية ـ الأمنية ـ السياسية) التي تفوضها تحطيم رأس كل من يجرؤ أن يقول “لا!” لأميركا، وأخيرا الاتفاقية مع السعودية التي تمنحها امتياز تأمين التغطية النفطية لدولاراتها التي هي بدون تغطية ذهبية.


هذا هو “سر” أو “اسرار” معبودية الدولار وهيمنته على التوليفة العالمية الاستراتيجية، الاقتصادية، السياسية والإعلامية.
الآن بدأ زمن آخر، وهو ما نتناوله على حدة.


العهد - جورج حداد 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...