المبادىء العمياء في الحرب السورية

21-11-2013

المبادىء العمياء في الحرب السورية

الجمل- ديريك دوغديل- ترجمة- د. مالك سلمان:

غالباً ما يتم استبدال سياسات تحررية بمثالية تحاول الظهور بمظهر السياسات التحررية. تشكل سوريا إحدى هذه الحالات. فقبل سنتين من الآن, قيلَ لنا إن جنود بشار الأسد نزلوا إلى شوارع دمشق وسحقوا احتجاجاً ديمقراطياً سلمياً. ولا يزالون يقولون لنا إن هذا قاد إلى انتفاضة شعبية, أي إلى ثورة.
على الرغم من الانتقادات الحادة والتقارير التي تقول إنه تم تضخيم الحدث - إن لم نقل فبركته - حتى في هذه الأيام, فقد شكلَ الردُ المزعوم على انتفاضات آذار 2011 القاعدة الأخلاقية والقناعة الراسخة بالدعم المبدئي للمعارضة. وفي هذا السياق, يتم تصنيف مجموعات معارضة مثل ‘جبهة النصرة’ و ‘القاعدة’ كلاعبين هامشيين يهددون المعارضة "الجيدة" بقدر ما يهددون النظام.
مما لا شك فيه أن هذا ينطوي على شيء من الحقيقة. فقد تم الحديث المتكرر عن الاقتتال بين المجموعات المعارضة المختلفة, لأن المعارضة مقسمة إلى مئات الميليشيات. ولكن على الرغم من تشظي المعارضة وفوضويتها والجرائم التي ارتكبتها, إلا أن الحكومة هي من لجأ إلى العنف أولاً, ولذلك – من الناحية المبدئية – فهي أسوأ من الناحية الأخلاقية. هذا هو الاعتقاد. هذا هو المبدأ.
والآن, افترضوا للحظة أن الحكومة السورية قد أرسلت فعلاً الجنود لقمع حشود المحتجين السلميين قبل سنتين. افترضوا أن الجنود قد لجؤوا إلى العنف وأطلقوا الذخيرة الحية على المحتجين العزل الذين يلوحون باللافتات, وقتلوا الرجال والنساء الأبرياء. ولكن, حتى في هذه الحالة, قيلَ الكثير عن الطريقة التي يُزعَم أن الحكومة السورية قد سحقت بها تلك الاحتجاجات الأولية, ولكن لم يُقل إلا القليل عن الأسباب الكامنة وراء ذلك.
بعد استقلالها الشكلي عن الحكم الاستعماري الفرنسي في سنة 1946, كانت سوريا واحدة من أكثر البلدان هشاشة في الشرق الأوسط الكبير وشهدت سلسلة من الانقلابات والانقلابات المضادة. حدث الانقلاب الأول في سنة 1949 عندما تمت الإطاحة بالرئيس السوري شكري القوتلي من قبل حسني الزعيم المدعوم من الولايات المتحدة, الذي كان يقوم بمهام قائد الجيش. وفي السنة نفسها, حدث انقلاب آخر أدى إلى الإطاحة بالزعيم وإعدامه. وصل هاشم الأتاسي إلى سدة الحكم هذه المرة لكنه تعرض لانقلاب مضاد بدوره في السنة نفسها بقيادة أديب الشيشكلي.
خلقت الانقلابات الثلاثة في سنة 1949 نمطاً للواحد وعشرين سنة التالية, حيث عانت البلاد من انقلاب إثر انقلاب إلى أن تمكن حافظ الأسد من تعزيز قوته من خلال "الحركة التصحيحية" في سنة 1970. وحتى في ذلك الوقت, حاولت القوى التخريبية داخل سورية إسقاط الحكومة.
مع نهاية السبعينيات من القرن الماضي, تعرضت سوريا لسلسلة من الهجمات الإرهابية الوحشية شنتها مجموعات إسلاموية مختلفة يتم الإشارة إليها بشكل عام تحت مصطلح "الإخوان المسلمين". في البداية, استهدف الإسلامويون السياسيين وأعضاء الحزب بالاغتيالات, لكنهم سرعان ما حولوا هجماتهم ضد الناس العاديين.
في حمام الدم الذي تلا ذلك, قتل الآلاف لكن رد الحكومة السورية كان بطيئاً. وقد بلغ التمرد ذروته مع سيطرة الإسلامويين على مدينة حماة في سنة 1982, مما شكلَ خطراً على مستقبل الدولة السورية. ردت الحكومة السورية باستخدام القوة, حيث قصفت المدينة في معركة دامت ثلاثة أسابيع, إلى أن تمكنت حكومة حافظ الأسد من سحق المتمردين المسلحين واستعادت السيطرة على المدينة مرة ثانية.
كما تعرض وجود سوريا إلى التهديد نتيجة نشوء ‘دولة إسرائيل’, التي تأسست على أراضٍ عرفت فيما مضى ﺑ "سوريا الكبرى" في سنة 1948. ومع انتقال الاهتمام الإمبريالي الأمريكي إلى المنطقة في محاولة لمواجهة النفوذ السوفييتي, قاد تأييد الولايات المتحدة لإسرائيل – التي رأى فيها الأمريكان قوة في مواجهة الروس ومصر عبد الناصر – إلى كابوس جيوسياسي للدولة السورية الجديدة, مما قاد إلى ثلاثة حروب كارثية مع إسرائيل في 1948 و 1967 و 1973.
كما نتج عن سياق سياسات "الحرب الباردة", حيث تنازعت القوتان العظمتان على الهيمنة على المنطقة, دعم سري لمجموعات مختلفة داخل سوريا في محاولة لتصنيع التمرد وكسب القوة السياسية والنفوذ السياسي, وهي سياسة أمريكية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
بينما تمكنَ حافظ الأسد من تعزيز الاستقرار في بلد يعاني من فوضى عارمة والمحافظة على مستوى منى الاحترام والاستقلالية في المعركة الوجودية مع الولايات المتحدة وإسرائيل, إلا أن التوترات الدينية والإثنية والسياسية في الدولة السورية الهشة, إضافة إلى التدخل الإمبريالي في الشؤون السورية, استمرت حتى رحيل حافظ الأسد. وفي الحقيقة, من الجائز القول إن رد فعل الحكومة قبل سنتين على المحتجين كان ينطلق من مخاوف تفكك الدولة الهشة هذه. فبعد سنتين, ومع تنامي احتمالات تقسيم البلد, من الواضح أن هذه المخاوف كانت مبرَرَة تماماً.
في برقية سربتها "ويكيليكس" في سنة 2006, تم الكشف عن مدى التدخل الأمريكي في الشؤون السورية قبل سنة 2011. تتناول البرقية خططاً مكثفة لزعزعة استقرار البلد, بما في ذلك إذكاء التمرد بين المجموعات السنية السورية؛ من خلال توليد النزاعات في الدوائر الحكومية الداخلية؛ والترويج لإشاعات تتعلق بالتخطيط لانقلابات داخل الجيش؛ والتركيز على انتكاسات الإصلاح قبيل انتخابات 2007؛ ودعم التمرد الكردي في شمال البلاد. كما تشير البرقية بشكل واضح إلى "الخطر الممكن على النظام من التواجد المتزايد للمتطرفين الإسلامويين الذين ينتقلون عبر البلاد", وتقترح "بعض الأفعال والتصريحات والإشارات التي يمكن لحكومة الولايات المتحدة أن ترسلها لتحسين إمكانية نشوء هذه الفرص".
على الرغم من ذلك كله, فشل الموقف "المبدئي, الأخلاقي" الذي اتخذه المعلقون خارج سوريا الأخذ بعين الاعتبار الواقع السوري التاريخي والاجتماعي والسياسي. إذ يتم تجاهل حقيقة أن عمر الجمهورية العربية السورية لا يتجاوز 67 عاماً وأنه تم اقتطاعها كقطعة لحم من الأرض. كما يتم تجاهل تكوينها الإثني والديني, المغرَب والمطموس في الغالب والمناوىء للحدود الاستعمارية التي تشكل الدولة السورية بعد الاستقلال, ويتم التعتيم على تاريخ الحكومة العلمانية في التسامح الإثني والديني. وبالطريقة نفسها, لا يتم اعتبار العملية المعقدة لبناء الدولة السورية والعوامل الداخلية والخارجية التي تسعى لتدميرها كجزء من سياق انتفاضات 2011.
إن الوقفة "المبدئية, الأخلاقية" التي يتخذها المعلقون البرجوازيون والليبراليون واليساريون تشكلت في الفراغ: ففي نهاية المطاف, المبدأ هو المهم, المبدأ. لكن هذا نزاعاً شهد مقتلَ أكثر من 100,000 مدنياً وتشريدَ الملايين من اللاجئين والمنفيين.
من المحتمل أن يشهد هذا النزاع على نهاية الجمهورية العربية السورية, التي يمكن أن تتعرض للتقسيم وتختبرَ مستقبلاً من الحرب "المائعة". أليس من الزيف إذاً أن يتمسك المعلقون الليبراليون المرتاحون بمبدأ مجرد مفصول عن الواقع الاجتماعي والتاريخي والسياسي؟
ألم يحن الوقت لكي نتلمسَ تضاريسَ النزاع – الجذور التاريخية, الجذور المسببة لهذا النزاع – قبل أن نتخذ قرارات متشابهة انفعالية ونبني سياساتنا على الحاضر؟ من السهل جداً التمسك بمبدأ ما عندما لا تؤثر عواقبه على وضعنا المريح النائي والمعزول؟
تبعاً لكلمات الأكاديمية اللبنانية الملهمة والناشطة السياسية أمال سعد غريب: "اللاجؤون السوريون ليسوا بحاجة إلى إنسانويتنا الليبرالية, ولا تضامننا الطبقي اليساري, ولا ‘تسامحنا’ الليبرالي لوجودهم بيننا. إن ما يحتاجونه هو استعادة بلدهم."
لا يمكننا أن نعيدَ للمنفيين بلادَهم, ولكن بمقدورنا الإقلاع عن دمج مثاليتنا المريحة بواقع سوريا الأليم.

http://www.atimes.com/atimes/Middle_East/MID-01-141113.html

تُرجم عن ("إيشا تايمز", 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2013)

الجمل
 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...