كلّ شيء عن جوزيه ساراماغو

10-08-2010

كلّ شيء عن جوزيه ساراماغو

«الوحيدون المهتمون بتغيير العالم هم المتشائمون، فالمتفائلون سعداء بما يملكون»

يعدُّ جوزيه ساراماغو (1922- 2010) واحداً من أهم أصوات الضمير الإنساني في وقتنا الراهن، فقد استطاع أن يمثل نموذجاً للكاتب قلّ نظيره في عالمنا المعاصر، بحيث يصعب الفصل بين شخصيته وكتاباته. إنه امتداد للمثقف الكلاسيكي الذي يجمع الحكمة والمعرفة. ‏

المزايا الساراماغوية التي باتت معروفة لدى الجميع هي: البعد الأخلاقي، الالتزام بالفكر الماركسي، الصلابة الشخصية والشجاعة، الفانتازيا، الأسلوب الفاتن. ‏

عاش جوزيه دي سوسا (اسمه الحقيقي) حياة شاقة ملأى بالمتاعب، كانت بدايتها في قرية «أزينهاجا»، قرية جدية لأمّه، التي شكلت مهد تكوينه الأول، ففيها نشأ مع الأرض وارتبط بها. ‏

لاسمه قصة يرويها في سيرة طفولته «الذكريات الصغيرة»، ولأنها قصة تستحق أن تروى فهاكموها: إله الخمر تدخل وغيّر اسم العائلة، فقد قرر موظف السجل المدني الذي كان سكراناً أن يضيف اسم ساراماغو إلى اسم جوزيه دي سوسا، ذلك التزوير لم يكتشف إلا بعد سبع سنوات حين التحق بالمدرسة، وبغضب من الأب، الذي كان يتمنى أن يحمل ولده الاسم الذي اختاره له، غيّر اسمه هو، ليضيف ساراماغو إلى دي سوسا، حتى لا يكون هناك تباين بين اسم الأب وابنه. وبنشوة عارمة سيكتب في «الذكريات الصغيرة»: «أظن أنها الحالة الوحيدة في تاريخ البشرية التي يسمي فيها الابن أباه». ‏

ترحل العائلة عن «أزينهاجا» إلى لشبونة وجوزيه لم يكمل العامين، وهناك في أفقر أحيائها تعيش الأسرة فاقة كبرى، ونتيجة لذلك الفقر المدقع يترك الشاب الدراسة ويبدأ بالعمل، خصوصاً بعد وفاة أخيه الأكبر.. يكتب في ذكرياته: «لا يزال العالم جحيماً يولد فيه الملايين ليتعذّبوا».. خلال ذلك الوقت سيثقف نفسه بنفسه وسيحاول الكتابة، وسيبدأ بالانجذاب نحو الماركسية التي سيتبناها وتصبح قاعدة فكرية يستند عليها، وسيشارك في ثورة «القرنفل» ضد الفاشية البرتغالية، وسيصبح رئيس تحرير جريدة حزبه.. ‏

وفي عام 1947 سيُصدر روايته الأولى بعنوان «أرض الخطيئة»، ويتبعها بكتابات أخرى، لكنه سرعان ما يتوقف عن الكتابة ما يقارب العشرين عاماً.. ليعود ويصدر كتاباً شعرياً تحت عنوان «قصائد محتملة». ينضم سنة 1959 إلى صفوف الحزب الشيوعي البرتغالي، ويبقى عضواً ملتزماً حتى وفاته. ‏

تعثرت لديه البداية كثيراً لكنها ستجد متنفسها في عام 1976 عبر رواية «وجيز الخط والرسم» التي ستلاقي حفاوة كبيرة، ولم يتعرّف إليه قرّاء العالم إلاّ مع روايته النّفيسة «سنة موت ريكاردو ريس» التي صدرت عام 1984، وقتها كان الكاتب الصاعد قد صار في الثانية والستين من عمره، وفي عام 1998 حصل على جائزة نوبل التي وضعت اسم ساراماغو إلى جانب الروائيين الكبار، قالت الأكاديمية السويدية: «إنه يمكّننا باستمرار من إدراك واقع مخادع من خلال حكاياته الرمزية الحافلة بالخيال والحنين والمفارقة». ‏

كان أول برتغاليّ ينال «نوبل» ما جعل بلاده تعيش عرساً حقيقيّاً، وفي حوار أجري معه في تلك الفترة قال: «أصبحت الجائزة حدثاً وطنياً، فالناس يجيئون لا ليهنئوني -وهو الشيء الطبيعي- ولكن ليقولوا شكراً جزيلاً، كما لو أن الجائزة ضربٌ من الاعتراف بكل أبناء بلدي.. وكما لو أن كل برتغالي قد ازداد طوله بوصة كاملة». ‏

«الأسهل من الوصول إلى المريخ ‏ هو الوصول إلى أنفسنا». ‏

‏تنطلق الرواية الساراماغوية دوماً من فرضية أو من سؤال، وتالياً يتحوّل النص إلى برهنة على تلك الفرضية، أو إلى إجابة عن هذا السؤال، ولعل هذا أخصّ أسرار صنعة صاحب «قصة حصار لشبونة». ماذا يحدث لو أصبح الأشخاص الخياليون الذين اخترعهم فرناندو بيسوا أشخاصاً من لحم ودم؟ الجواب هو رواية «سنة موت ريكارو ريس». ماذا يحدث لو انخلعت شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) من جسد القارة الأوروبية وذهبت إلى مكانها المناسب؟ الجواب هو رواية «الطوف الحجري»، هل يمكن تزوير التاريخ بجرة قلم؟ نعم.. عبر مدقق لغوي يضع حرف النفي في متن النص، وللتأكد من صحة الفرضية عليكم بـ«قصة حصار لشبونة». وكيف سيكون حال العالم لو أصبنا جميعاً بالعمى؟ اقرأ روايته «العمى» لكي تعرف! وهل يمكن للموت أن يأخذ إجازة؟ طبعاً هذا ما تقوله «انقطاعات الموت»!! ‏

أضف إلى ذلك الشكل الفريد الذي اخترعه، وهو كتابة النص ككتلةً واحدة، من دون أية علامات للترقيم!! مازجاً أصوات الشخصيات، التي بلا أسماء، على الأغلب، والتي لا يمكن تمييزها إلا بتغميق الحرف الأول من جملة المتكلم، أسلوب غير مسبوق في الرواية العالمية يروم جعل الرواية جملة طويلةً تمور بكل شيء.. كل شيء!! ‏

مواقفه المبدئية جرّت عليه الوبال، خصوصاً عقب ما حدث مع رواية «الإنجيل كما يرويه المسيح» التي اعترض عليها الفاتيكان، ومنعتها حكومة بلاده، ما حدا به إلى المنفى الطوعي في «لانزاروتي» إحدى جزر الكناري، وأعيدت الكرة مع «قايين»، آخر رواية كتبها. ‏

الرواية الساراماغوية سيمفونية كاملة، تتضمن الشعر والدراما والمقال والعلوم والفلسفة والتاريخ، ما جعلها تعبّر عن نظرة كونية للمثقف الحكيم، وقد بدت الإشارة إلى هذه الحكمة في استهلالات رواياته التي يذيلها بأسماء كتب يختلقها، وهي أسماء تعبر عن تواصله مع الأدب في بواكيره الأولى، الشذرة التي يستهل بها «العمى» مقتبسة من «كتاب المواعظ» تقول: «إذا كنت تستطيع أن ترى فانظر.. إذا كنت تستطيع أن تنظر فراقب». شذرة «كل الأسماء» مقتبسة من «كتاب التجليات» تقول: «أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك، لكنك لا تعرف الاسم الذي لك». أما شذرة «انقطاعات الموت» فهي: «إننا نعرف في كل مرة أقل ما هو كائن بشري». ‏

يقسم النقّاد تجربة صاحب «الطوف الحجري» إلى مرحلتين، المرحلة الأولى هي المرحلة التاريخية وتشمل كل الروايات التي كتبها حتى نهاية تسعينيات القرن الماضي، وقد تميزت بالمراجعة النقدية لتاريخ البرتغال، أما المرحلة الثانية فسميت بـ«السلسلة المجازية» وتبدأ مع رواية «الإنجيل كما يرويه المسيح»، حيث راح يمزج في خطابه الفانتازيا بالتهكم بالتأمل.. إلخ.. ‏

«أكتب الروايات لأني لا أستطيع كتابة الأبحاث» ‏

«الطوف الحجري»: يتخيل فيها ساراماغو أن صدعاً قد حدث وأدى إلى انفصال شبة الجزيرة الإيبيرية عن أوروبا حيث أصبحت طوفاً يسير بلا اتجاه، وتوقفت في منتصف المسافة الفاصلة بين إفريقيا وأمريكا الجنوبية، وكأنه يريد أن يخبرنا أن قرابة الفقر والحرمان قوية مع هاتين القارتين. ‏

«العمى»: تدور أحداثها حول عمى غريب ينتقل بالعدوى بين الناس إلى درجة أن الحكومة تقوم بالحجر على العميان، وسرعان ما يتحوّل كل المواطنين إلى مكفوفين. العماء الذي يرسمه بعناية هو تمثيل لفلتان المنطق والعقل، واستشراء النزعة الفردية، وانتشار الفوضى.. إنها مرثية لعصرنا الذي أخذت حضارته بإتلاف نفسها. ‏

«كل الأسماء»: رواية متعددة الطبقات، محورها حياة رجل يدعى دون جوزيه، يعمل في السجل المدني، ويسلّي نفسه بإعداد مجموعة لمئة شخصية من مشاهير البلد، وخلال بحثه يعثر على اسم امرأة مجهولة فيعاف مجموعته ويبدأ بملاحقة تلك المرأة التي يكتشف أنها ميتة، ومن ثم يكتشف أن حياة امرأة مجهولة تستحق اهتماماً أكثر من كل المشاهير.. سخرية مريرة.. تأملات في الحياة والموت، ونقد للبيروقراطية وللشهرة.. ‏

«الكهف»: يقول ساراماغو: «مركز تسوّقٍ ضخمٍ يُبنى فوق كهف أفلاطون. ويوجِد الناس معبداً نظيفاً للحداثة في وسط الوساخة. إنهم يعيشون في شرنقة، وهي تقيهم من الواقع، ومِن تبعات جشعهم و إدمانهم، انظر إلى الأحزمة الزراعية الموحشة حول المدن الرئيسية لأوروبا الغربية، والتي ظهرت في وسط حقولها فجأةً هذه المُجمّعات التسويقية المُفعمة بالحركة. لماذا يَخلقُ الناس مثل هذا العالم لأنفسهم طواعيةً؟ أردتُ أن أُظهِر أن حريتنا يمكنها أن تجعلنا نختار بين الخير والشر، لكننا دائماً نختار الشر ونُقنِع أنفسنا بأنه خير. إننا نظلّ مُحتالين مكفوفين كما في مثال كهف أفلاطون». ‏

الشخصية الرئيسية في الرواية صانع فخّارٍ كبير السن، لم يعُد بإمكانه بيع منتجاته وعليه أن يترك منزل آبائه وأجداده. ‏

«لن نغيّر الحياة ما لم نغيّر الحياة» ‏

سنة 2008 دشّن مدونته على الإنترنت، وبدأ يكتب فيها آراءه في كل ما يحلو له: كتّابه المفضلون، القضايا والملفات الساخنة مثل ما يحدث في فلسطين والعراق.. مثيراً زوابع لا تنتهي، وأبرز ما فيها انتقاداته اللاذعة للرئيس الأميركي جورج بوش الابن.. يقول: «إنه أصغر الرؤساء الأميركيين الصغار. ذكاء عادي، وجهالة صميمية، تعبير شفوي مرتبك ومأخوذ دوماً إلى تجربة لا تقاوم هي تجربة الهراء الخالص، يقدم الرجل نفسه أمام الإنسانية في منطق هرجي لراعي بقر ورث العالم وبات يحيّره إلى درجة ظنّه قطيع ماشية، لا نعرف تماما ما الذي يفكر فيه فعلا، ولا نعرف أيضاً إذا كان يفكر (في المعنى النبيل للكلمة). لا نعرف إذا كان رجلاً آلياً مبرمجاً على نحو سيئ فحسب، يقوم دائماً بخلط الرسائل المحفوظة داخله وتبديلها. غير أنه تميز مرةً في حياته، ذلك أن هناك،في الرجل الآلي رئيس الولايات المتحدة جورج بوش، برنامجاً يعمل على نحو استثنائي: إنه برنامج الكذب». أو تعريته لرئيس الوزراء الإيطالي سيرجيو برلسكوني الذي نعته بـ«الفيروس» و«القيء». ‏

«تبدأ الشيخوخة عندما نفقد الفضول» ‏

وصفه الناقد هارلود بلوم قائلاً: «إنه ليس واحداً من أفضل الروائيين وحسب، بل أحد العبقريات القليلة بين الأحياء في عالم اليوم». ‏

رحل جوزيه عن هذا العالم مفعماً بالحبّ، حب الحياة والناس، مبادئه، الشعوب المضطهدة، وحب زوجته بيلار التي أهداها كل ما كتبه منذ تعرف إليها، فقلما يعثر القارئ على كتاب دون إهداء إلى هذه الصحفية والمترجمة المعتمدة لكل أعماله إلى اللغة الإسبانية، ففي كتاب انقطاعات الموت يكتب: «إلى بيلار، بيتي»، وفي سيرة الطفولة يقول: «إلى بيلار التي لم تكن قد ولدت بعد، وتأخرت في المجيء»، وفي الرواية المثيرة «الآخر مثلي» يقول لها: «إلى بيلار حتى اللحظة الأخيرة»، وفي «قايين» آخر أعماله التي رأت النور قبل رحيله يكتب إهداءً سحرياً: «إلى بيلار.. كمن يقول ماء».. عاشق بهذا المستوى جدير بأن ينوء ظهره بالأحلام الكبرى والتغيير، وأن يجعل من الكتابة الروائية نوعاً من الدفاع عن كل مظاليم هذا العالم، وأن يعيد الاعتبار إلى الإنسانية الغائبة.. هذه هي دروس الكاتب البرتغالي الذي استطاع أن يجعل من معاناته الشخصية تعبيراً عن كل من عانوا في التاريخ، وجعلها إدانة للمجتمعات والحكومات في العصر الراهن -وهي تدأب على تحويل الإنسان إلى كائن بلا قيمة- من خلال إشعاعات أخلاق اليسار الملتزم، وقبل كل شيء من التزامه هو نفسه بتقديم روايات عظيمة. ‏

رائد وحش

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...