فتيان الزنك: تخوم الواقع والخيال

29-03-2024

فتيان الزنك: تخوم الواقع والخيال

يدجوك أقويت

توطئة: [لا يمكن للحيوان أن يكون قاسياً كالإنسان الذي يتفنن ويبتكر أساليب ممارسة القسوة]. _ إيفان كارامازوف

(1)

عكفتُ مؤخراً على التنقيب في الأدب السوداني شمالاً وجنوباً، معلناً بطريقةٍ ضمنية مقاطعتي للأدب العالمي في محاولة لمنح المنتوج السوداني من الأدب ما يستحق من القراءة والنقد، خصوصاً وأن ساحتنا النقدية إجمالاً قاحلة، يسودها نقد "المجاملات الاجتماعية" المهذب وتفتقد غالباً – باستثناء كتابات محترمة ورصينة أحياناً – للنقد المؤسس. إلا أنه، وباقتراحٍ من صديق لدود، تكرم أيضاً بإرسال نسخةٍ من الرواية؛ تعرَّفتُ على الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش الفائزة بجائزة نوبل للآداب 2015، والأهم، تعرفت على "فتيان الزنك". الرواية الصادرة عام 2013، ونقلها للعربية عبد الله حبه عام 2016 ومنشورة عن دار ممدوح عدلان للنشر والتوزيع السورية، والتي تقع في 366 صفحة من القطع المتوسطة، شاملاً مقتطفات من الكتابات والجدل القانوني الذي أعقب الرواية؛ إذ واجهت المؤلفة دعاوى قضائية من بعض أبطال روايتها، وأثارت الرواية جدلاً لأنها لا تخضع لمنطق التصنيف المُتَّبع في الأدب عموماً، والرواية بشكل خاص، مما صَعَّب تحديد أي موقف من محتواها.

(2)

شاع في التصنيف الأدبي، تسمية الرواية بالعمل الاختلاقي Fiction انطلاقاً من أن الأخيلة، تشكل العمود الفقري لأيّ عمل روائي. إلا أن بعض التجارب شكَّلت تحدياً حقيقيَّاً لهذا الاختزال؛ فجدلية التاريخي والخيالي في الرواية لا زالت محطّ تناظرٍ نقديّ حتى الآن. ما بين فريق يعتبر الرواية سليلة التاريخ الرسمي ومحاولة تأريخ غير المؤرخ، وفريق آخر يرفض التشبيه بين المفهومين. ويُعتَبَر مروجو مصطلح "التَّخيل التاريخي" الفريق الآقل تطرفاً في هذا التناظر. وأعتقد أن "فتيان الزنك" من الأعمال القليلة التي قد تعيد الجدل للمربع الأول.

(3)

المادة الأساسية للرواية مُستقاة من مقابلات شخصية بين المؤلفة وبعض الشباب العائدين من حرب أفغانستان من جانب، وأمّهات (الأبطال الشهداء؟) والأرامل من جانبٍ آخر. هذا المنحى التوثيقي في جمع المعلومات، بطريقةٍ مباشرة، جديدٌ على الكتابة الروائية، وتنتفي هنا الأخيلة كشرطٍ أساسي للرواية بالمفهوم الكلاسيكي. الجمع ما بين التوثيق وإعمال الخيال، لوضع النص في إطار جمالي إنساني يعكس خبايا النفس البشرية، هو ما ميَّز العمل، وقادَ الكاتبة لسوح المحاكم أيضاً. التوثيق قد يُسهم في الخروج بمادة خام للكتابة، إلا أن أليكسييفيتش لم تكن تبحث عن معرفة تفاصيل الحرب والتوثيق لجرائمها فقط. تكتب الروائية، "إنني أتابع الشعور، وليس الحدث. ربَّما كان ما أقوم به يشبه عمل المورِّخ، لكنني مؤرِّخ لما هو بدون أَثَر". التاريخ للغير مؤرخ، لتفاصيل البشر العاديين المُهمَلين في التاريخ والخطاب الرسمي تحتل أولويات الكاتبة.

(4)

علاقة الرواية والتاريخ في "فتيان الزنك" شائكة جداً. فالرواية لا تستخدم تاريخ الحرب السوفيتية الأفغانية فقط كخلفية لمناقشة ثيمة الرواية، بل التاريخ يشكل قوام العمل. نجد في بعض الأعمال أن الهدف الضمني هو إعادة كتابة التاريخ، وفي أعمالٍ أخرى يكون التاريخ الهدف والغاية من الكتابة كما في الرواية موضع المقال. في رواية فتيان الزنك، يبدو أن التاريخ ليس الغاية في حدِّ ذاته، وإنما الخلفية التي تَقرَأ من خلالها الروائية البيلاروسية التاريخ الرسمي للاتحاد السوفيتي وأداتها لتوصيل نسختها من تاريخ الحرب للقارئ؛ تصحيح رؤى خاطئة، واستحضار المُغَيَّب من التاريخ الرسمي، الذي لم يعترف به الخطاب المهيمن والمؤيد للحرب بالضرورة. قد حاولت الكاتبة بكل جهدٍ تقديم بديلٍ روائيٍّ لتاريخٍ مُنتَهَكٍ ومُغيَّب، تاريخ الجنود الأبطال الذين خاضوا الحرب بأفغانتسان؛ أحلامهم، كوابيسهم، ومعاناتهم مع الوحش النابع من ذواتهم بعد الحرب، دموع الثكالى واليتامى الذين سُلِبوا من أحبائهم باسم الأممية. ما يُميِّز فتيان الزنك هو تجاوزها للحضور التقليدي للتاريخ في الرواية كرقعة تُزيِّن العمل الأدبي، أو جسرٍ يعبر الروائي عبره لاكتساب الشرعية الأدبية. تعود بنا أليكسييفيتش إلى الحادثة التاريخية في متون روايتها، الحادثة التاريخية التي تُمثِّل مرتكزاً شرعياً إبداعياً نقيضاً لشرعية الحرب والقتل الرسمي المزيف بالوطنية، والملوث بالتحفظ. في الرواية يتداخل السياسي، الاجتماعي، النفسي، الفني والتاريخي لدرجة تصير من الصعوبة بمكان مقاربة الرواية من خلفية أحادية والإمساك بالإشكالية التي يطرحها النص الروائي. الخروج من ربقة التاريخ الرسمي الذي يمُارس سلطةً رمزيةً على المُخيِّلة، وتجاوز الحصار الآيديولوجي على التاريخ مَيَّز الرواية، والقدرة على إنتاج عمل روائي يعيد إنتاج لحظة تاريخية مهمة في قالب فني يوفر المتعة للقارئ، كما يوفر له مساحة لإعادة صياغة أسئلته التاريخية؛ موضعت الروائية ضمن أفضل كتاب الرواية التاريخية، وقادتها للمحاكمات أيضاً.

(5)

رواية فتيان الزنك المتعددة الأصوات ووجهات النظر مرافعة ضدَّ أسطورة أن الإنسان كائن مستأنس بالفعل. وكأن الروائية تريد أن تقول للبشرية إن الإنسان كائن أناني بالفطرة. يفعل كل ما يستطيع للعيش وإن كان على حساب حياة الآخرين، وأنَّ في الحرب، يسود منطقٌ مُختلف؛ فالحرب في حدِّ ذاتها شُروعٌ فِعليٌّ لإلغاء الآخر وتصفيته جسدياً. هذا العنف، غالباً ما يُبَرَّر بدعاوى الدفاع عن الأرض، والشعب من قبل الآلة الإعلامية الضخمة التي تُحوِّل الأفراد المُستَهدَفين إلى مجرد أرقام. لكن المأساة لا تنتفي بنهاية الحرب. المعارك الفعلية تبدأ بعد انتهاء القتل، حين يجد المحارب نفسه وقد استحال تماماً إلى آلة قتل. في الحرب، بوجود سلطةٍ تَحثّ على ممارسة القتل، وبالتالي تُعفِي مرتكبي الجرائم من حمل وزر الجرم فإن "الوحش ينبجس من الإنسان في لحظةٍ خاطفة، وقبل أن يرفَّ له جفن. ويكفي أن يتملكه الخوف على نفسه، وعلى حياته، أو يمتلك سلطة، سلطة صغيرة جداً!". هذا الوحش الذي يخرج منَّا ويدمر كل شيء، مُأصَّلٌ فينا.

___________________

ملف الممر الثقافي، صحيفة السوداني 2017م.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...