على هامش مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني

05-03-2009

على هامش مذكرة التوقيف بحق الرئيس السوداني

الجمل: أصدرت ظهر أمس المحكمة الجنائية الدولية (ICC) مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني عمر حسن البشير بناء على الطلب الذي قدمه مدعي عام المحكمة مورينو أوكامبا. هذا، وبرغم أن صدور قرار التوقيف بحق الرئيس السوداني كان متوقعاً فإن صدوره كما يرى المحللون السياسيون وخبراء القانون الدولي والنظام الدولي سيشكل نقطة تحول بارزة في الطبيعة المؤسسية – القيمية – التفاعلية للنظام الدولي.
* خلفيات المحكمة الجنائية الدولية:
يخلط الكثير من المحللين وشرائح الرأي العام بين المحكمة الجنائية الدولية (ICC) التي أصدرت قرار توقيف الرئيس البشير، وبين محكمة العدل الدولية (ICC) ويتزايد الخلط والالتباس بقدر أكبر لجهة أن مقر محكمة العدل الدولية هو العاصمة الهولندية لاهاي، أما المدينة الهولندية التي تستضيف حالياً المحكمة الجنائية الدولية فهي مدينة هاغيو. ولتوضيح الفرق نشير إلى أن محكمة العدل الدولية  معتمدة بالأساس ضمن مواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي أما المحكمة الجنائية الدولية فهي كيان دولي تم تأسيسه بمبادرات طوعية من خارج إطار الأمم المتحدة وبحسب القانون الدولي فإن معاهدة المحكمة الجنائية الدولية تعتبر ملزمة بالنسبة للأطراف التي أقرت الالتزام بتطبيق هذه المعاهدة والإقرار بالمعنى القانوني الدولي يتضمن حصراً التوقيع على المعاهدة وإجازتها بواسطة السلطة التشريعية الوطنية وبكلمات أخرى فإن الدول التي لم تقم بإقرار المعاهدة عن طريق التوقيع والمصادقة التشريعية تعتبر غير ملزمة بالمحكمة الجنائية الدولية إضافة إلى أنه ليس لها الحق في الولاية على هذه الدول باعتبارها تقع خارج نطاق اختصاص المحكمة.
برزت المحكمة الجنائية الدولية إلى الوجود في 1/7/2002 وهو التاريخ الذي يمثل بالنسبة لمؤسسي المحكمة دخول الاتفاقية التي أسست المحكمة حيز التنفيذ وتم تحديد اختصاص المحكمة لجهة محاكمة الأفراد عن الآتي:
• جرائم المذابح.
• الجرائم ضد الإنسانية.
• جرائم الحرب.
• جريمة العدوان.
اللافت للنظر في عضوية المحكمة أن الولايات المتحدة ظلت من جهة ترفض الانضمام إلى اتفاقيتها ولكنها في الوقت نفسه ظلت تمارس الضغوط على الدول الأخرى من أجل الانضمام إلى المحكمة وإضافة لذلك، فقد رفضت كل من روسيا والصين والهند ليس الانضمام لاتفاقية المحكمة وإنما ظلت هذه الدول توجه المزيد من الانتقادات لهذه المحكمة.
حتى الآن تضم عضوية المحكمة 120 دولة، وما هو جدير بالذكر أن 40 منها وقعت على اتفاقية المحكمة ولكنها لم تقم بإجراءات المصادقة عليها تشريعياً، وبالتالي فإن هذه الدول وبحسب القانون الدولي واتفاقية المحكمة نفسها لا تعتبر أنها قد أقرت الاتفاقية وبالتالي لا يمكن منحها صفة عضوية الاتفاقية بالمعنى الإلزامي القانوني الدولي الذي يفرض على عاتق هذه الدول الأربعين مسؤولية الالتزام بالمحكمة.
* الرئيس عمر البشير وسردية المحكمة الجنائية الدولية:
النوايا الأمريكية – الأوروبية لجهة تقديم الرئيس البشير إلى العدالة الدولية تعود إلى أكثر من 15 عاماً، فعندما تولى البشير السلطة منتصف عام 1989 كانت حركة التمرد في جنوب السودان تسيطر على 50% من مدن الإقليم وحوالي 65% من مساحة الإقليم إضافة إلى قيام قواتها بمحاصرة أكثر من 20 كتيبة للجيش السوداني.
شن البشير حملة عسكرية أطلق عليها الاسم الكودي "صيف العبور"، واستطاعت هذه الحملة الكبيرة تحقيق النجاحات الآتية:
• استرداد كل المدن من حركة التمرد ما عدا مدينة واحدة نجح الجيش في فرض الحصار المحكم عليها وكان من الممكن أن ينجح اقتحامها ولكن بسبب احتمالات سقوط آلاف المدنيين وما يمكن أن يترتب عليه من إثارة الرأي العام الإفريقي ضد السودان فقد اكتفى البشير بمحاصرة المدينة.
• فتح كل الطرق الرئيسية بجنوب السودان.
• فتح ممرات الملاحة النهرية بين الجنوب والشمال.
• فك الحصار عن كل وحدات الجيش التي كانت مطوقة في الجنوب.
أدت حملة صيف العبور إلى إيقاع الخسائر الواسعة بحركة التمرد بما أدى إلى انشقاقها إلى جناحين وصلت خلافاتهما إلى مرحلة القتال والحرب الجنوبية – الجنوبية وإضافة لذلك فقط اضطرت حركة التمرد إلى سحب 70% من قدراتها من دول الجوار الإفريقي وتحديداً كينيا وأوغندا.
على خلفية نجاحات حملة صيف العبور وسيطرة البشير عسكرياً على جنوب السودان بدأت أجهزة الإعلام الأمريكية والغربية ومنظمات اللوبي الإسرائيلي تتحدث عن قيام الشمال العربي الإسلامي بارتكاب مجازر ومذابح في الجنوب الإفريقي المسيحي، ونشطت في هذا الخصوص المنظمات الكنسية التابعة لجماعات شهود يهوه والمنظمات الكنسية الإنجليكانية – البروتستانتية، وتصاعدت الحملات الغربية والأمريكية إلى حد اتهام سكان الشمال العربي – الإسلامي بممارسة الرق ضد سكان الجنوب.
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وبعض المنظمات غير الحكومية الدولية دفع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى فرض العقوبات ضد السودان إضافة إلى تقديم الرئيس السوداني عمر البشير إلى العدالة الدولية ضمن سيناريو المحاكمات الدولية التي تمت ضد يوغوسلافيا ورواندا وسيراليون وليبيريا، ولكن جهود الولايات المتحدة لم تكلل بالنجاح لعدة أسباب أبرزها:
• فشل حملة بناء الذرائع وتوافر الأدلة والبينات.
• معارضة الزعماء الأفارقة والاتحاد الإفريقي.
• توقيع اتفاقية السلام السودانية مع الجنوبيين.
بعد ذلك، تحولت حملة بناء الذرائع ضد البشير باتجاه استغلال وتوظيف ملف صراع دارفور ضمن سيناريو جديد للإيقاع بالرئيس عمر البشير وكبار المسؤولين في حكومته.
سمع العالم بصراع دارفور في العام 2003 ولكن ما لم يسمع به العالم هو أن صراع دارفور قد بدأ منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي ويمكن باختصار توضيح ذلك ضمن النقاط الآتية:
• عدد سكان دارفور يبلغ 6 مليون نسمة منهم 3 مليون ذوي أصول عربية ويقطنون في وسط وشرق دارفور، و3 مليون ذوي أصول إفريقية ويقطنون في غرب دارفور وداخل الأراضي التشادية.
• خلال فترة الحرب الأهلية التشادية حصلت قبائل دارفور ذات الأصول الإفريقية على السلاح وظهرت في أوساطها الكثير من الجماعات المسلحة التي تقوم بشن الغارات ضد القبائل ذات الأصول العربية.
• حدثت عمليات نزوح واسعة بواسطة قبائل دارفور ذات الأصول العربية بسبب عمليات التطهير العرقي التي كانت تمارس ضدها بواسطة قبائل دارفور المسلحة ذات الأصول الإفريقية.
• زودت حكومة البشير قبائل دارفور ذات الأصول العربية بالسلاح للدفاع عن نفسها ومناطقها وثرواتها وعندها برزت ظاهرة "الجنجويد".
• نجحت جماعات اللوبي الإسرائيلي والولايات المتحدة وفرنسا في دعم الجماعات المسلحة الدارفورية وصولاً لمرحلة تحويلها إلى حركات تمرد نظامية ذات توجهات سياسية، تعمل بالتنسيق مع الحكومة التشادية.
• اتهمت الإدارة الأمريكية بأن حكومة البشير ترتكب المذابح والجرائم وعمليات الإبادة الجماعية ضد سكان دارفور ذوي الأصول الإفريقية.
• لجان التحقيق التي تم تكوينها بواسطة الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة نفت وجود أي مذابح إضافة إلى تعرض عناصر الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة إلى اعتداءات حركات التمرد الدارفورية.
• تقدمت حركات التمرد بالعديد من الشكاوي ورفعت التقارير التي تتهم البشير وحكومته بارتكاب المذابح والجرائم في دارفور.
• تبنت الإدارة الأمريكية شكاوى حركات التمرد وتقدم السفير الأمريكي السابق جون بولتون بطلب لمجلس الأمن الدولي يطالب بتحويل الشكاوى والملفات إلى المحكمة الجنائية الدولية.
• تم تحويل الملفات إلى المحكمة الجنائية وكان اللافت للنظر أن الصين وروسيا لم تستخدما حق الفيتو في مواجهة تصويت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة إلى جانب القرار وفقط اكتفتا بالامتناع عن التصويت.
بعد مرور أربعة أشهر أصدر المدعي العام للمحكمة أوكامبو مذكرته لقاضي المحكمة الذي وافق ظهر أمس على إصدار مذكرة التوقيف الدولي في حق الرئيس البشير مع ملاحظة أن اثنين من المسؤولين السودانيين سبق أن أصدرت هذه المحكمة مذكرة توقيف في حقهم.
* سيناريو المواجهة بين البشير والمحكمة الجنائية الدولية: إلى أين؟
أصدرت المحكمة ظهر أمس مذكرة توقيف في حق البشير وبالمقابل أعلنت السلطات السودانية رفضها ليس للمذكرة وحسب وإنما لشرعية المحكمة كذلك، وبحسب ما هو متوقع فإن المحكمة سترفع المذكرة إلى مجلس الأمن الدولي باعتباره يمثل:
• الطرف الذي أرسل أوراق وملفات القضية طالباً من المحكمة النظر في الأمر.
• الطرف المعني باستخدام القوة لجهة إلزام السودان بتنفيذ مذكرة التوقيف.
على خلفية ذلك، فإن التطور الدراماتيكي لمذكرة توقيف الرئيس البشير سيحدث في مسرح مجلس الأمن الدولي:
• على مستوى الدول الخمسة دائمة العضوية في المجلس نلاحظ أن روسيا والصين تعارضان المذكرة وذلك في مواجهة مواقف أمريكا وبريطانيا وفرنسا المؤيدة لتنفيذ المذكرة.
• على مستوى الدول غير دائمة العضوية في المجلس فإن الأغلبية تصوت إلى جانب أمريكا وبريطانيا وفرنسا.
إقليمياً تعارض جامعة الدول العربية المذكرة ويعارض الاتحاد الإفريقي المذكرة، ولكن وبرغم هذه المعارضة فإن صدور أي قرار من مجلس الأمن ستترتب عليه تداعيات كارثية لجهة زعزعة استقرار السودان وتقويض اتفاقيات السلام الجارية التنفيذ وتداعيات كارثية إقليمية كذلك لجهة زعزعة استقرار مناطق القرن الإفريقي وتشاد ومنطقة البحيرات العظمى الإفريقية.
من الصعب إذا صدر قرار مجلس الأمن أن تتم عملية غزو عسكري للسودان ولكن على الأرجح أن تتم عملية تنفيذ سلسلة عقوبات دولية متعددة الأطراف ضد السودان وتحديداً بواسطة أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الإفريقية المعادية لنظام البشير وتحديداً تشاد وأوغندا وكينيا.
إضافة لذلك، فمن المتوقع أن يثير قرار المحكمة العديد من التداعيات في أوساط الدول التي سبق أن وقعت على اتفاقيتها وتقول بعض التحليلات أن الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي إضافة إلى هيئة المحكمة نفسها أصبحوا أكثر تخوفاً من أن يؤدي قرار مذكرة التوقيف إلى دفع العديد من الدول الأعضاء إلى إعلان الانسحاب من اتفاقية المحكمة بما يعرضها إلى الانهيار!

 

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...