غازي أبو عقل: تأملات في الظاهرة الكلبية

20-04-2010

غازي أبو عقل: تأملات في الظاهرة الكلبية

تأملات في الظاهرة الكلبية

(( 1 ))

        منذ فجر الاستقلال، مع خروج طلائع الأجيال الشابة إلى الحياة العملية عرفت الأوساط الأدبية والسياسية شابا شديد الحماسة اتخذ من الأدب وسيلة للنضال من أجل ما يتقد أنه الحق. كان هذا الشاب يدعى صدقي إسماعيل، من مواليد لواء الاسكندرون وممن حملوا منذ نعومة أظفارهم هموم الوطن الكبير.
        تميز صدقي إسماعيل بمقدة فذة على النقد الساخر اللاذع، الذي يتفوق على الجد في أكثر الأحيان، لا بل أنه الجد كله عندما يصبح الواقع مهزلة تبكي ولا تضحك.
        ولما كان الجو الاجتماعي في ذلك الوقت أسير الجمود الذي ساد فترة الانتداب، وكان التعبير يدور ضمن إطار الأشكال التقليدية، ومع أن صدقي كان يكتب المقالة والمسرحية والقصة، إلا أنها كلها لم ترض نزوعه العجيب إلى الرسم (الكاريكاتوري) بالكلمات، وبالشعر الموزون المقفى على وجه التحديد وهكذا ضمن هذه الأطر الصلبة فجر صدقي ثورة في التعبير عندنا أنشأ جريدته غير المعروفة – الكلب – في مطلع الخمسينات..
- الكلب – ليست جريدة بالمعنى التقليدي، أي أنها لم تطبع إلا مرة واحدة في عام 1969 أي بعد عشرين عاماً من بدء (صدورها). وما كانت تصدر في مواعيد منتظمة، بل كلما التقط رئيس تحريرها حادثة ما فأعمل فيها قلمه البارع كان صدقي يكتب العدد بخط يده فيتوزعه (القراء) من الأصدقاء الأقربين وكثيراً ما كان  العدد يختفي لدى أحدهم. الذي يضن به ولا يعترف بوجوده لديه. وهكذا ضاعت قصائد ثمينة لأن من الحب ما قتل.. وسرعان ما أصبح الكلب ظاهرة فريدة في الأدب السياسي والاجتماعي، وذلك أن الرؤيا الواضحة التي كان يتحلى بها رئيس التحرير، جعلت من جريدته مرصداً فريداً للأحداث الأدبية والسياسية والاجتماعة ليس في سورية وحدها وفي الوطن العربي، بل أنه تجاوز حدود الوطن الكبير ليسجل أهم الأحداث التي شهدها العالم بين بداية الخمسينات وبداية السبعينات من هذا القرن كان الناس يشهدون للأحداث أو عليها من زاوية، أما جريدة الكلب فكانت زاويتها الخاصة الفريدة في نوعها واستمرت شاهداً على هذا العصر يندر له مثيل. ولما كان الكلب (محدود التوزيع) فلا يسعنا أن نقيم موقف الجمهور منه. أما حكم الخاصة من المطلعين عليه فهو معروف بوضوح ولدينا عليه شواهد كثيرة وهي كلها تعتبره نمةوذجا فريدا في العربية. يعض الآراء كانت تقول أن مثل هذا الشعر لن يدوم ولن يبقى للتاريخ، ومع مخالفتي الجازمة لهذا الافتراض إلا أنني لن أتعرض له بالمناقشة الآن على الأقل..
        لقد أتيحت لي مؤخراً فرصة الاطلاع على مجموعة كبيرة من أعداد الكلاب هذه الجريدة التي لم تتحدث عنها الجرائد إلا حديثين أو ثلاثة، خلال ربع قرن ومع أن الوقت لم يحن بعد للحديث المفصل عن هذا الجزء من التراث الأدبي الحديث، إلا أنني لم أستطع مقاومة الرغبة التي سيطرت علىي لتعريف الجمهور على بعض ملامح هذا الأثر الشعري الفريد وهكذا فإنني سأبدأ محاولة صعبة لرسم لوحة متفرقة لريشة تتعمد عدم اسكمال للوحة  لألف سبب...
        لست على ثقة من أن أحداً يعرف متى بدأ صدقي إسماعيل بنظم هذا النوع من الشعر لساخر، ذلك أن نزوعه إلى لشعر تجلى منذ حداثته وعندي شواهد نادرة لم تنشر من أشعاره (الرصينة) وهو يافع أما ول – الوثائق – التي بين يدي من شعره – الكلبي – فتعود إلى نهاية عام 1950،  وهي قصيدة في أكثر من مئة وعشرة أبيات عنوانها (ملحمة العام لسنة 1951) وهي من البحر – الطويل – مقسمة إلى فقرات تعالج كل منها موضوعاً منفرداً والملحمة تبدأ بمناجاة الأطلال وذم الزمان، مثلها مثل أية معلقة جاهلية ثم تنتقل إلى الغزل والنسيب. ويفرد فيها لشاعر قسماً خاصاً بعنوان – أنا وغرفتي – وينتقل بعد ذلك إلى الفخر وذكر الأخوان ثم يقف الشاعر ليلقي (نظرة إلى الأوضاع العامة) قبل لأن يختتم الملحمة بأبيات اختلطت فيها الحماسة بالسخرية المرة.
        الملحمة تبدأ كما قلنا بمناجاة الأطلال وذم الزمان وفي ذلك يقول صدقي:
أناتك أن الصخر لا يتكلم


 فلا تشك للجدران ما أنت تكتم


تسير وفي صمت الشوارع هدأة


 وليل عميق لا يزول وأنجم


وتحلم بالسلوان والعيش شره


 إذا كان سلطانا عليه التوهم


اتنكر لليل البهيم قتامه


 وقلبك من فرط الشكاية أقتم


تحمل شقاء الرض ان كنت صادقا


 قبعض جراح القلب للقلب بلسم


هي النار لولا الريح تعصف حولها


 لما كنت تلقاها تشب وتضرم


ولولا المآسي في الحياة وعضها


 لما عرف الإنسان كيف التنعم


اتشكو الظمأ والنبع حولك دافق


 وكل فجاج الأرض غصن مبرعم


فراديس من نعمى الوجود تظلنا


 وتمنحنا فوق الذي نحن نحلم


هي الأرض أعطتنا الحياة سخية


 أنهجرها والقلب بالحب مفعم


        ومن التأرجح بين التشاؤم والتفاؤل ينتقل صدقي إلى الغزل والنسيب، وسرعان ما تليها الكبمات الساخرة بالظهور تليها أبيات كاملة من السخرية اللاذعة المغموسة بعاطفة شفافة:
وكم قصة للحب عاشت هنيهة


 بقلبي وقلبي هادىء يتبسم


يريق على صفو الحياة ومرها


 ينابيع من لذاته ليس (تنضم)


سمراء كالطفل الوديع عشقتها


 وآلمني منها الجفا والتجهم


أجد وتلهو والعذاب محالفي


 وأحنو عليها وهي رعناء تحجم


أحدثها شيئا وتفهم غيره


 فيا لي من محبوبة ليس تفهم


تعيش بأفكاري ويعشقها دمي


 وهل ينكر الإنسان ما يعشق الدم


وكل غرامي أنها ليس غيرها


 شبيها بها أني بذلك أقسم


فلا هي كالأخرى لتي كان حبها


 سريعا كما يلغى قرار ويحسم


لها سمرة كالخمر طال اختزانها


 وطعم خلود إذ تضم وتلثم


ولا عيب فيها غير أن اضطرابها


 كثير وبعض الاضطراب مذمم


موزعة الأنظار دوما كأنها


 تغازل كل الناس حين تسلم


وما هي إلا شعلة جن وقدها


 وأطفأها نوع من الشك مبهم


أكل نساء الأرض أو هي من الهوى


 أكل قلوب الغيد نهب مقسم


        ومن الغزل ينتقل شاعرنا إلى الفخر محافظاً على سلاسة النظم وعذوبة الإيقاع وعلى هذا لمزج السهل الممتنع بين الاجد والهزل..
أنا الشارد النشوان مالي من الدنى


 سوى شارع خال وصمت يغمغم


صديقي كناس و – كرسون – قهوة


 وطفل صغير باللغى يتلعثم


أمتع روحي بالطبيعة أن صفت


 وبالسحب الكدراء حين تغيم


ويأسرني شوق إلى السر جارف


 يحدثني عنه الجمال فأفحم


أجن بوجه فاتن وبنظرة


 ويأسرني خصر جميل ومعصم


(وأركيلتي) خير الصحاب عشية


 وخير أحباي السكون المخيم


وأسمع صوت السرمدية في الدجى


 بأعذب ألحان الهوى تترنم


فقير كشعبي ثائر الروح مثله


 يسير بنفسي أن أموت ويسلم


وحلو كأس الشاي للصحب دائما


 مريرٌ على الباغي كأني علقم


ونفسك أكرمها فإنك ان تهن


 عليك فما شخص لها قط يكرم


        أهنالك حاجة للتوقف عند الأبيات لمضيئة التي نتمناهما أكثر القصائد جدية والتزاما، أم الأفضل أن نتركها لبديهة القارىء ونمر مرور الكرام على البيات التي خصصها الشاعر للأوضاع العامة في البلاد ولم يقتصر فيها على الأوضاع الداخلية التي كانت سائدة في لك العام – 1950 – بل انها نظرة شاملة على الوطن العربي يلخص كل بيت فيها وضع قطر من أقطار العروبة كما هو في الواقع.. وعندما يصل صدقي إلى خاتمة ملحمة العام نراه يستشف المسقبل بتفاؤل وإيمان بالشعب غير أن الروح الساخرة النقادة لا تستطيع إلانزواء فتطل علينا في البيت الأخير بكلمتين ولا أروع..
رويدا صديقي أن شعبا كشعبنا


 لأعظَم شأنا وهو شقيان معدم


نبارك فيه ثورة ذر قرنها


 تزلزل عرش الحاكمين وتهدم


جماهير تنسى الثأر من مستغلها


 جماهير فيها الحقد دوما مجسم


لنا مشعل يضوي وسيف مخضب


 ومستقبل كالورد والله أعلم "غ"


(( 2  ))

أمامي الآن نسخة مصورة من العدد الأول من "الكلب" لا تحمل تاريخا غير أننا نقرأ تحت اسم الجريدة هذه الجملة. جريدة شعبية انتقادية تصدر مرة في الأسبوع ونجد في صدر الصفحة وفي الزاوية اليمنى – كما جرت العادة في جرائدنا المقال الافتتاحي،  وهذا نصه الحرفي:
للمقال الافتتاحي،


 خطر عند الصباح


عادة يقرؤه الإنسان


 من دون انشراح


سيما في صحف اليوم


 الكثيرات النباح،


التي ديدنها التزييف


 في كل لنواحي


والتي أصبح فيها


 الفكر فوشا كالرياح


وغدا وجدانها – حاشاك -


 - كالشيء المباح -


هذه النشرة لا


 تصدر إلا للمزاح


وهي تغنيك عن


الأنباء


بالقول الصراح


دعيت بالكلب والاسم


لها


محض اصطلاح


فإذا كان لدى


قرائها


أي اقتراح


فليكن شعرا ... أصاح


 أنت أم لست بصاح


        ويمتد على عرض الصفحة الأولى عنوان كبير يقول: سليمان العيسى يهجو جمهور دمشق ويدافع عن قصيدته في حفلة المالكي. ويلي العنوان نبأ موجز نقرأ فيه: حلب: أدلى الشاعر لسياسي المعروف سليمان العيسى بتصريح شخصي هام حول موقف جمهور المستمعين في دمشق من قصيدته العصماء في تأبين المالكي. ولننقل فيما يلي أهم ما جاء في هذا التصريح:
لم يفهم الجمهور أشعاري


 أدمشق أنك وصمة العار


ذوبت عاطفتي وشعلتها


 مشحونة بالجمر والنار


أرسلت كالزلزال أغنيتي


 ونثرت كالبركان اعصاري


عجبا وما اهتزت وما فهمت


 قطعا دمشق جمال أفكاري


وندبت عدنانا وفي كبدي


 مزق ودمع في دمي جاري


فتلفت الجمهور مندهشا


 وكأنه مجموع أبقار


يا للبلادة في الوجوه وقد


 أبصرتها من خلف منظاري


وذكرت مأساة البلاد فلم


 اسمع سوى ضحكات مهزار


وضجيج نسوان معطرة


 بطيوبهن جرحن منخاري


ماذا ولا التصفيق مرتفع


 شعبا أرى أم صف أحجار


وحماستي في الأوج هادرة


 ومن انطلاق السيل تياري


ودمشق لم تهتف وكم هتفت


 دوني لمرتزق وثرثار


        ولسوف نقرأ على صفحات الكلب وعبر ربع قرن من الزمن مداعبات لا حصر لها استهدفت الشاعر سليمان العيسى، زميل صدقي منذ البداية، وأحد أهم المحررين في الكلب، والذي تجرأ مرة فأقدم على الانفصال عن الجريدة الأم وأصدر في حلب جريدته لخاصة المسماة (ابن الكلب) التزاما منه رغم كل شيء بالنهج الذي اختطه الكلب. ماذا كان رد الفعل الذي تلا صدور هذا العدد (الأول) من الكلب.... ليس بين أيدينا ويا للأسف سوى شهادتين شعريتين كتب الأول الدكتور عبد السلام العجيلي فيها يقول:
الكلب أعجبني إلا يا حبذا


 لو كان كل الكاتبين كلابا


في هزله حكم في طيها نقم


 سم أدير على الطغاة شرابا


        وصاحب الشهادة الثانية هو الشاعر شوقي بغدادي الذي استقبل الكلب بهذه الأبيات:
ليس نباحا صوتها


 فانني عرفتها


عرفت فيها نقمة


 في خافقي حبأتها


وكلمات حلوة


 وددت لو شرحتها


لكنما الدنيا ظروف


 صعبة حملتها


فإن أكم منها بعيدا


 فأنا أحببتها


وفي قريب ستضم


 قلمي صفحتها


        هاتلن الشهادتان نشرتا في عدد تال من الكلب تحت عنونا آراء القراء، هؤلاء القراء الذين لم يفلحوا في النجاة قط من أنياب جريدتهم المحبوبة.

(( 3  ))

        كتبت في ختام مقالة سابقة أن قراء جريدة "الكلب" لم يفلحوا في النجاة من أنيابها. والواقع أن العلاقة بين هذه لجريدة الفريدة، وبين قرائها هي أيضاً علاقة فريدة وطريقة في آن معاً. فهي الجريدة الوحيدة على ما أعرف، التي ظهر على صفحاتها أسماء قرائها أجمعين، ولا نستثني منهم أحداً.
        وإن قراء "الكلب" في الواقع ليسوا من الكثرة حتى تضيق صفحاها عن  ذكرهم، بل ان كثيراً من مقالات (الكلب) ما كانت لتظهر لولاهم، ذلك أن رئيس التحرير كان يجد في قرائه المصدر الأغزر للتعليقات ويصل عن طريق التعرض لهم إلى ما وراء الأحداث لتي يكونون على صلة بها، لا بل انه كثيراً ما شرح الأحداث التي كانت تجري عبر الاتيان على ذكر هذا الرفيق أو ذلك الصديق، ممن كانت تربطهم "بالكلب" أوثق الصلات، أو أوهاها أحياناً.
        أما إذا استعرنا قلم الناقد الأدبي فلعله يجوز لنا القول بأن أستاذنا لكبير صدقي إسماعيل هو من أبرع شعرائنا المعاصرين في أدب "الأخوانيات". فهو لا ينسى أصدقاءه في شعره، ولا يكتفي بالاتيان على ذكرهم، بل غنه يسجل عليهم مواقفهم، ويرصد آراءهم وحولاتها، ويمازحهم بقسوة لا محو آثارها إلا براعة صدقي في السخرية وصفاء قلبه. وهو كثيراً ما يستفيد كم "الأخوانيات" للتعرض إلى الأوضاع العامة ن مواقف الأصدقاء الخاصة..
        جريدة الكلب حافلة منذ نعومة أظفارها بهذه الشواهد، ولم تتخل أبداً عن هذا التقليد حتى العدد الأخير الذي صدر قبيل رحيل أستاذنا الكبير عن العالم.
        سأكتفي في هذه المقالة بسرد قصيدة واحدة قي بضعة وعشرين بيتاً، ولكنها تشكل نموذجاً خاصاً عن هذا النوع من الشعر الذي لا نجد له مثيلاً إلا في "الكلب". ولن أزعج القارىء بالشرح والتعليق، بل سأكتفي بإيضاح أسماء "الأخوان" الذين جاء كرهم في هذه الأبيات:
أتعرف أن "وهيبا"([1]) خطب


 "ويوسف"([2]) زف و "صدقي"([3]) أحب


وأن "سليمان"([4]) منذ القديم


 تزوج أيضاً وقد صار أب


وان "أبا مازن"([5]) انجبت


 له "عفة" مازنا في حلب


و "عبده"([6]) بحمص غدا عاشقا


 وفلت عزيمته واضطرب


و "فيصل ركبي" الخطيب الجديد


 لمثل الذي ارتكبوه ارتكب


وان "جمالا"([7]) له طفلتان


 تبارك سبحانه ما وهب


و "مسعود"([8]) ما زال في عبثه


 يفتش عن منزل ذي حسب


و "صبحي المحاسب" ابن الذين


 لهم عيلة في الشباب انحسب


و "يحيي"([9]) الإذاعة لهفي عليه


 سيصبح جداً لنا في رجب


و "أحمد"([10]) ميعاد تزويجه


 بإحدى بنات الحلال اقترب


وإن المذيع "سهيل الصغير"


 يراقب أخوانه في طرب


وأن "أديبا"([11]) برغم النضال


 سيهوي ولن يستطيع الهرب


وأن أخي "أدهما"([12]) صامد


 أمام الحسان لذاك اغترب


و "إيميل"([13]) مسيقتل لو يرى


 فتاة تغازله لانجذب


وما من رفيق سوى والحسان


 غدون له عز دين الطلب


هجوما كما هجم الظامئون


 إلا أنها قلة في الأدب


وهيب! أرى حلم الانطلاق


 يذوب أمام نداء العصب


وما كان أقوى من العاصفات


 وأصلب من أزلي الحقب


وما كان ليس له في الحياة


 قرار وليس له من أرب


تخدره همسة حلوة


 أما أنت سميت هذا تعب


وعينان في زرقة اللازورد


 وشعر غدائره من ذهب


وقد كما نصلت في الظلام


 ذؤابة نور تثير العجب


وحسن بشقرته ساحر


 وأن كان من غير لون العرب


أسرت به وأرى أنه


 عليه وليس عليك العتب


وهيب! أهذا مصير الشباب؟


 أنحن الدخان وهن اللهب؟


(( 4 ))

        سألني صديق قديم: ما الذي دعاك إلى الكتابة عن شعر المرحوم صدقي إسماعيل،  وبخاصة ما كان ينشره في جريدته الشخصية (الكلب).. وأضاف الصديق: هل أنت مرتاح الضمير إلى أن الموضوع يأخذ ما يستحقه من الاهتمام ليشرح تلك الظاهرة الفريدة في أدبنا المعاصر..
        لم أفجأ بالسؤالين، كما أنني ام أتحير بحثا عن الجواب..
        فمنذ الحلقة الأولى التي ظهرت في "الثقافة الأسبوعية" كتبت منوها (بأنني سأبدأ محاولة صعبة لرسم لوحة غير كاملة من خلال ضربات متفرقة لريشة تتعمد عدم استكمال للوحة لألف سبب)..
        ذلك أنني أعتقد أن الوقت لم يحن بعد لتقديم تلك التجربة كاملة، ولست أقصد بالوقت هنا المعنى الزمني للكلمة..
        لأنه قد يكون من الضروري قبل تعريف الجمهور العريض بهذا الجزء من التراث، أن يتعرض تفكيره (الجمهور أعني) إلى تهوية شاملة تزيل من خلايا دناغه دخان سنوات من الجمود الفكري.. وفي غياب مثل هذا الشرط قد تكون الكتابة اساءة إلى ذكرى استاذنا الكبير...
        إلا أنني فكرت بالأمر مليا، ووضعت نصب عيني هدفا (مرحليا) اقتنعت بفائدته، وهو بدء إخراج هذا النوع من شعرنا لحديث من الحلقة الضيقة التي ولد فيها وعاش وتفاعل معها، إلى حلقة أكثر اتساعا، عبر صفحات "الثقافة الأسبوعية".
        ومع أن مجلتنا هذه لا تعانق الدائرة الأوسع التي نطمح أن ننقل إليها حكاية (الكلب) الشعرية، إلا أنه ليس بالإمكان (أوسع) مما كان... ولأن صدرها – وهو يضيق أحياناً عن قبول أبيات  شاعرنا الراحل – إلا أنه يظل أكثر رحابة من غيره، والأمور كلها في نهاية المطاف نسبية كما تعلمون.. هذا من جهة، وتبقى أمامنا جهة ثانية نتطلع إليها مع حديثنا عن شعر الأستاذ صدقي الذي اشتهر به. ففي وسعنا أن ننتقي من صفحات (القلب) نماذج شعرية فريدة – تشكل كلُ منها ضربة ريشة منفردة كما أسلفنا – تساعدنا على استشفاف بعض الملامح الأساسية التي تميز بها هذا النوع من الشعر.. فإذا حافنا لتوفيق وقدمنا إلى القراء عدداً مقبولاً من النماذج فقد نكون قطعنا شوطاً على طريق فك الحصار عن (الكلب)..
        انطلاقاً من هذه الفكرة، انتقيت لحلقة اليوم قصيدة نادرة، المثال ظهرت على صفحات (الكلب) منذ عدة سنوات – أقل من عشر سنوات على وجه التحديد – وكانت بعنوان (فلسفة النبات).. كان عنوانها الأصلي (فلسفة الزرع)، كما تشهد على ذلك ورقة المسودة الأصلية الباقية بخط صدقي وعليها التعديلات التي أدخلها عليها.
        هذه الأبيات التي يحسبها القارىء المتسرع كلاما مقفى وغير (موزون)، يجدها القارىء المتمعن المتأمل ذات وزن وقافية ومعان عميقة الغور بعيدة القرار.
        وانتقاء الشاعر (للنبات) ميدانا للتأمل فيه من الجدة والإصابة شيء كثير. فإذا أسقط الشاعر نتائج تأملاته عني رافع الحال، وجد القارىء نفسه أمام مواقف مبدئية، وأمام لوحات ساخرة لاذعة، وأمام جو شعري منفرد. وأنا على ثقة من أن القارىء الجاد لا يمكن إلا أن يشرد متأملاً بعد قراءة هذه الأبيات، و لسوف يعجب حين يجد ميدان تأملاته قد امتد وعائق جوانب كبيرة من الحياة منها ما هو عام ومنها ما هو خاص.. لن أطيل في (التفريط) والشرح لأن قؤراءة (فلسفة النبات) أمنع وأجدى..
رأي إليه قد انتهيت


 الزرع أعقل ما رأيت


ينمو طليقاً في الفضاء


الرحب لا يغريه بيت


متشبث بالرض ليس يقول أعقل لو مشيت


كالدهر لا يخشى الفناء


 لأنه حي وميت


تسقيه نصف سقاية فيقول: شكراً ارتويت


ويجيئه حتى الجراد يصيح: الآن احتميت


لو كان إنساناً لقال عرفت أصلي فاهتديت


ووضعت فلسفة وفي تفسيرها دوما حكيت


بالعقل واللاعقل ... لو غيري استحى كنت استحيت


شاهدتم يتنازعون على الحماقة فانتحيت


ورأيتهم جحدوا الماسم والفصول وقد وفيت


ورويت أمثالاً لها مغزى وهذا ما رويت:


قال الجبان لنفسه لو كان لي سهم رميت


وسمعت فروجا يصيح بفرن صاحيه: ارتخيت


زوج يحدث نفسه: يا حسرتي كيف ارتخيت


وزجاجة الويسكي تغمغم قد سكرت بما احتويت


مثل يقول: إذا غوى قومي وما ارتدعوا غويت


أعجبت باللامنتمي وإلى جماعته انتمت


كم وحدي قال يوم الانفصال: لقد بكيت


وأنا ؤغبت بوحدة ما بعدها كيت وكيت


خبز وملح بيننا ما بيننا خل وزيت


حدث انقلاب في العراق .. فقيل دبره الكويت


سافرت من بلدي وحين رجعت قلت: لقد أتيت


حين ارتمى هذا على هذا على ذاك ارتميت


التاء للتأنيث لكن ذكرتها الآن (أيت)


يا من تأبط (بطحة) أني بمنظرك انتشيت


أمثولة معروفة: قد نال غيري ما اشتهيت


ساومت في سعر الشراء وحين وافقني اشتريت


ودخلت جامع (دنكز) بعد الصلاة وقد نويت


كم من وزير قال: إني بالسفير قد اختليت


لعن الآباء أبا الذين أبوا .. لذلك ما أبيت


(( 5 ))

        الرحلة لتي بدأناها على هذه الصفحة، عبر شعر الستاذ صدقي إسماعيل الذي كان يظهر على صفحات (الكلب)، تقودنا كل مرة إلى الدهشة، ثم تتركنا مع التأمل الحزين.
        الدهشة، شعور لا بد أن ينتاب كل من يقرأ ذلك لشعر، لأنها تجيء فجأة ودونما توقع. بعد كلمة أو فكرة في بيت من الشعر. و لمحة عابرة كما نصلت في الظلام ذؤابة نور تثير العجب) تبقى في الذاكرة كما يبقى النور في ذاكرة العين المنبهرة (أو المبهورة)...
        وعلى قارىء هذا الشعر أن يعمل باحدى وصايا إدارة المرو: (توقع غير المتوقع) أو بالأحرى (توقع الغير متوقع) حتى لا يتهمنا المرور بتحريف وصاياه...
        فالشاعر يبدأ قصيدته بفكرة أو بكلمات توحي إليك جوا معينا، وإذا به يقفز بك برشاقة عبر حشد من الأفكار، وينقلك من جو إلى جو وأنت تستعذب سرعة النقلة، لأن الإيقاع الشعري، والكلمة لعذبة السلسة، التي تتاخم الجزالة، لا يمكن أن يفلتا من يد المعلم.. وما أرشقه حينما توشك اللغة أن تخونه فيغير حتى القافية ولا تغير معنى الكلمة، ولا ينس بأدب الكاتب الجم أن يلفت نظرك بهامش صغير قد يكون شعراً أكثر الأحيان.
        القصيدة التي انقيتها لحلقة السوم قد لا تكون النموذج الذي يؤيد ما ذهبت إليه، غير أنها تتضمن بعض ما رغبت بإيضاحه من خصائص هذا لشعر الذي انفرد به صدقي إسماعيل. وهي تقع في أكثر من ستين بيتاً. كنت قد وجدتها على (المسودة) غير منشورة كما أنها قصيدة من غير عنوان، مما يجعلنا لا نتبين غرضها الأساسي بادىء ذي بدء. ويستهلها أستاذنا الراحل (بنشرة جوية) عن الطقس وقدوم الربيع فيقول:
سلام على الطقس إذ يمطر


 بنيسان الورد إذ يزهر


على عائدات السنون تقول


 بأن الربيع أتى ... فابشروا


على شجر البيلسان الصغير


 بباب حديقتنا يكبر


على كل آنسة في لطريق


 تطول وأثوابها تقصر


على ذكريات طواها الزمان


 على بالنا اصبحت تخطر


على الشاعر الفحل بعد الغيا


 ب إلى درس طلابه يحضر


        من هنا نبدأ نتبين (غرض) الشاعر، فهو بعد هذه التحيات لتي يوزعها على الربيع والسنون والبيلسان ولابسات (الميني) التي لا ينس أن يرصدها كظاهرة اجتماعية طارئة، ينتقل إلى زميله لشاعر الذي كان (غائبا) أو مسافرا أو كان في (جو) آخر وعاد (إلى قواعده). والشاعر العائد هو الأستاذ سليمان العيسى الذي يرسم لنا صدقي لوحة عودته إلى التدريس بهذه الأبيات التي تجعلنا نتنفس جو (الصف)([14]):
يعود سليماً قوي الجنان


 يلف كرامته مئزر


مهابا من الصف يخشى أذاه


 لكسول المؤدي والأزعر


إذا طالب شاء بعض الكلام


 ففي الحال ترتفع الخضر


وان خلص الدرس صاح الجميع


 سنبقى ففاق الذي يشخر


إذا افتخر الروس (بسبوتنيك)


 فنحن بأستاذنا نفخر


فاشعاره في قلوب الجميع


 صواريخ ما مثلها فجروا


تزمجر من ثوران الخليج


 إلى الأطلسي لذي يهدر


ولو لم يكن أشقر الوجنتين


 نحيلا وأفكاره تحذر


ولولا وجود الرئيس العظيم


 لقلنا هو المارد الأسمر


        هنا يستعير صدقي تعابير الشاعر سليمان العيسى في تلك الفترة التي سبقت الوحدة 1958 وتلتها مباشرة وكلنا نذكر تلك لقصائد الملتهبة التي أطقلها يومئذ، حتى دخلت بعض تعابيرها في لغة الصحافة السياسية. وحتى أوشك أستاذنا صدقي  أن يلتبس عليه الأمر فلا يميز بين (شاعر) المرحلة وبين (رائدها)...
        نجد أنفسنا بعد ذلك أمام مجموعة من الأبيات ذات موضوع واحد. فالشاعر يتخذ من (عودة) بعض رفاق النضال إلى قواعدهم، بعد خيبة أملهم ن المسؤولين عن الوحدة، أو خيبة أمل المسؤولين منهم، يتخذ من هذه العودة قاسما مشتركا ويعدد لنا اسماء العائدين، والاختصاص الأصلي الاذي عاد إليه كل منهم.. ولنقرأ:
سليمان كل طليق يعود وعودة أمثالم تشكر


أما قال (أستاذنا)([15]) من زمان بأن نهايتنا لمصدر


وقد عاد قبلك (عبد الكريم)([16]) إلى درسه وهو يستغفر


يداوم منذ انبلاج الصباح وفوق مخاطيطه يسهر


وعاد (جمال)([17]) بآلاته إلى حيث صار له مخبر


وصارت جماهيره في المصح عقولا نخض وتستغفر


وأمسى أخونا (رياض)([18]) الوزير قديما، بمكتبه يفطر


وإن كان صارت له شهرة بكسب الدعاوى التي تخسر


و (فتاح)([19]) قال لبعض الرفاق بأن السياسة لا تثمر


أكاذيبها ضد روح النضال لذلك قالوا له تكفر


والقى (وهيب)([20]) عصا الثائرين وصار بأصبعه ينقر


وعادت عيادته كالقديم بها الشعب من مرض يحشر


وقالوا يطالع عند المساء ويكتب أشياء لا تنشر


و (نخلة)([21]) رائدنا أجمعين إذا كنت عن ذاك تستفسر


يقول لنا لن يعود الشباب وقد راح من يدكم فاسكروا


        في القصيدة أسماء رفاق آخرين لم نأت على ذكرهم هنا بداعي الاختصار.. غير أنه قد اتضح لقارىء كيف برع أستاذنا صدقي بالغوص في مواضيع جادة مع أنه يخيل إلينا بأنه يمزح.
        وهو لا يفتأ يدهشنا من حيث لا نتوقع. فما كنا نحسبه قصيدة قيلت لمداعبة زميل، تحول تدريجياً إلى صورة لبعض جوانب الموقف السياسي في تلك الفترة دون أن نحس بصدمة الانتقال، وبعد أن يفرغ صدقي من اغناء موضوعه يعود إلى مداعبة زميل الصبا بأبيات تثير القهقهة العالية فينادي (أبا معن) قائلاً:
تعلم (أبا معن)([22]) أن الحياة بدون مهابيلها تقفر


تخليت عن مكتب من يراه يقول بأنك مستوزر


وعن آذن قيل كنت المطيع لديه وكان الذي يأمر


وتلك اشتراكية في الصميم تطبق فيك ولا تشعر


وقد سرقوا منكم (البسكليت) وأنت لسارقه تنظر


فلا تأس للحادثات لضخام إذا زاد عن طوقك الأصغر


وان الحكاية في كل حال مذلة شعب ومستعمر


يراد لنا أن نطيل الرقاد وما غير ذاك هو المظهر


تهان العروبة حسب الأصول وحسب الأصول لها نثأر


ونقهر أعداءنا كل يوم وجوع لجماهير لا يقهر


        لفهم المعنى المزدوج لذي تضمنته الأبيات الأربعة الأخيرة يجب العودة إلى الجو السياسي السائد في تلك لفترة، وأكتفي هنا بالإشارة إلى ذلك. كما أنه يجدر لتنويه برشاقة انتقال الشاعر من الهزل الذي يثير الضحك، إلى السخرية التي تدعو إلى التأمل..
        وقبيل نهاية القصيدة يرسم أستاذنا صدقي لوحة (للأركيلة) ولا أحلى ويدعو رفيقه إلى دخانها الذي يبقى أفضل من أشياء كثيرة غيرها فيقول:
فيا شاعر المعجزات لفخام إليك الدخان كما تؤثر


بأركيلة لف بربيشها عليها كحسناء تستنظر


بأسفلها الماء ما أن تسيل، وفي  رأسها النار لا تسعر


وتصنع من قرقرات المياه حبابا هو الدر أن ينثر


على متنها تنبك أعجمي من اللاذقية يستحضر


وقال لنا الشيخ عبد الغفور أرى أنها دنس منكر


فقلنا له جائز إنما..............................


        وأضرب صفحا عن ذكر مداعبة الأستاذ صدقي (للشيخ عبد الغفور) حتى لا تحرج أحداً. وإلى الحلقة القادمة

(( 6 ))
فن الإعلان في الكلب

        الكلب كانت جريدة لا كغيرها، فهي أولاً شعرية... وعلى ما أعلم فليس في العالم كله جريدة انتقادية ساخرة تكتب شعراً كلها. والمجلات التي يمكن تشبيهها بالكلب، (الكانار انشيني) الفرنسية، و (كروكوديل) الروسية تعتمد قليلاً على الشعر وكثيراً على الرسم "الكاريكاتور" ثم أساساً على المقالات الانتقادية السخرة. أما أن تكون مجلة بكاملها "على قلة عدد صفحاتها" مكتوبة بأبيات ذات وزن وقافية تعالج بها المواضع كلها سياسية واجتماعية وفنية وأدبية، فها ما لم تختص به إلاها.
        وهذا ما لاحظه أيضاً الشاعر العظيم بابلو نيرودا عندما حدثه شاعرنا الأستاذ سليمالن العيسى عن الكلب وترجم ه بعض مقالاتها عندما التقيا ذات يوم في مؤتمر عقد في هلسنكي.
        وما دامت الكلب جريدة فعليها أن تهتم بالفن الصحفي وتعالج ما تعالجه الجرائد والمجلات. وكلنا يعرف مدى اهتمام الصحافة بالإعلان، بأشكاله المتنوعة، حتى أن أكثرية المنشورات الصحفية ما هي إلا "إعلانات" تخدم أغراضاً بأساليب شتى.
        ولقد اهتمت الكلب بالإعلان منذ ظهور عددها الأول من ربع قرن مضى. وأهم مقومات الإعلان الحديث أن تقنع الجريدة قراءها وأصحاب الإعلانات والمصالح بأن يعلنوا فيها، وهذا ما تفعله كبريات صحف اليوم. ولم تتخلف الكلب في هذا الميدان فنراها منذ نعومة أظفارها تنادي بل تنبح عليهم ليعلنوا فيها، فكانت تنشر دورياً هذا النداء:
أعلنوا عندنا فللكب فن


 لا يجاري في صنعه الإعلان


أي شيء مثل النباح يخلي


 معظم المشترين في الدكان


        هنا يتجلى مفهوم الإعلان لدى صدقي، فهو يسخر منه ويعتبره من قبيل النباح على المشترين، وهذا البيت لوحة كاريكاتورية في رأيي. والمواطن المسكين في مجتمع الاستهلاك المعاصر لا يستطيع الفرار من هذا (النباح الإعلاني). فإذا تناول جريدته وجدها مليئة بالإعلانات وإذا دخل إلى السينما أضاع ثلث وقت العرض في مشاهدة الإعلانات التجارية، هذا إن لم يكن الفلم اعلاناً عن شيء ما وإذا مشى في الشارع فلا يرى شجرة ولا جداراً ولا عمود إنارة ولا موقف سيارة إلا وقد تحول إلى لوحة إعلان.. وإذا جلس المساء أمام (تلفازه) في المساء أغار عليه جراد من الإعلانات المتنوعة الأشكال والأنواع.. أفليس هذا كله  من قبيل النباح المستمر على إنسان مجتمع الاستهلاك..؟
        والجريدة التي تقنع قراءها بالإعلان فيها يجب عليها تخصيص مكان ملائم على صفحاتها لهذا الغرض.
        وكثيراً ما قرأنا في الكلب فوق المساحات الفارغة هذين البيتين:
هذا المكان لإعلان نخصصه


 لمن سيفلس حتما دون إعلان


إن في التجارة أو في السينما ولقد


 تكون شغلته في غير ميدان.
        وتستمر الجريدة بإغراء زبائنها بالإعلان فيها، ولا تكتفي بالتلويح لهم بالإفلاس إذا هم اهملوا فن الإعلان، ولكنها تلوح لهم بإغراءات من كل نوع إذا هم أعلنوا فيها فتقول لهم:
شخص هنا أعلن عن نفسه


 فصار في مدة شهر وزير


وأنت قلده وكن مثله


 تجد على بلبك حالاً خفير


        من الواضح أن الخفير المنوه به: هو الذي يوضع على أبواب الوزراء للحراسة.
        ويبدو أن جريدة الكلب قد انساقت وراء مغريات مجتمع الاستهلاك وكانت تدعو قراءها إلى الشراء،  وتعلن للك عن جميع البضائع بدون تمييز:
أعلنوا في صحيفة الكلب فالكلب


 حريص على رواج البضائع


        حتى شفرات الحلاقة كانت الكلب تدعو إلى استهلاكها ولها في ذلك مآرب يفصح عنها هذا الإعلان الطريف:
اشتروا شفرة الحلاقة (ناسيت)


 فقد طالت اللحى في البلاد


        في نهايات الأربعينات كان حزب البعث في بداية ظهوره ولم ينس الأستاذ صدقي وهو من مؤسسي الحزب القدامى أن يدعو قراءه إلى الانتساب إلى الحزب، فنشر ذات يوم في أحد الأعداد الأولى من جريدته هذا الإعلان:
أدخلوا ابعث فهو حزب جديد


 سوف يعطي لكل عضو بطاقة


        لست أدري لماذا لم يجد الأستاذ إلا البطاقة لتشجيع قرائه على الانتساب هل لأن الأحزاب يومئذ كان أغلبها تجمعات أشخاص وشخصيات تنمو وتضمحل لاعتبارات شخصية أيضاً، فكانت بطاقة لعضوية الرسمية سمة مميزة للأحزاب العقائدية..
        لم أعرف أن أستاذنا صدقي إسماعيل كان من رواد "المرابع الليلية" ولكني عثرت في أحد  أعداد الكلب على هذا الإعلان عن ملهى دمشقي قديم مازال موجوداً حتى الآن وان تغير اسمه:
اسهر في ملهى الكوريدا


 فكأنك تشهد مدريدا


وتعيش في لجو الإسباني


 بل ترقص بين الثيران


        أما ما لا شك فيه هو حب الأستاذ صدقي للسينما لأن أعداد الكلب مليئة بالإعلانات السينمائية وبعضها كان يعطي فكرة حتى عن موضوع الفلم:
في سينما "بلقيس" فلم به


 (أرجوحة حمراء) من مخمل


تركب فيها غادة حلوة


 قال صدقي ليتها اليوم لي


قصتها حب عظيم به


 عيب لأن الحب لم يكمل


        وهذا إعلان فلم أظنه من الأفلام الهندية:
في سينما الأهرام


 (أمطار رانشيبود


من أحسن الأفلام


 موضوعها المذكور


        وإعلان آخر عن فلم يمثل فيه (ريتشار ويدمارك):
(قافلة الموت) ترى في "أمير"


 منها ترى ويدمارك حقا مثير


        ولا ينسى الأستاذ صدقي تحذير قرائه إذا أحس بأن الفلم قد يحاول خداع المشاهدين، ولا يفعل كما يفعلون اليوم إذ يعطون الفلم جوائز أوسكار ويغيرون أسماء الممثلين إلى غير ذلك من أساليب الخداع.. ذات يوم ظهر في الكلب هذا الإعلان:
ستعرض سينما دنيا


 قريباً فيلم جنكيز خان


وفيه دعاية حتما


 لتركيا فكن يقظان


        وإليكم هذا الإعلان الموجه لتوعية المواطنين ومنعهم من حضور الأفلام الرديئة:
في سينما الفردوس فيلم


 لا أريدك أن تراه


وإذا دعاك إليه


 بعض الأصدقاء فقل: بلاه


        وكان الأستاذ صدقي في تلك الفترة المضطربة من تاريخ الوطن، وفي مطلع الخمسينات لا يفتأ يحذر قراءه من الغد المجهول ويدعوهم إلى المزيد من الوعي وبعد النظر.. ولعل أجمل وأطرف كا ظهر من الإعلانات في تلك الفترة على صفحات الكلب هذاالإعلان:
قريباً قريباً


 ترى في بلادك شيئاً عجيبا


فكن مرحا أو كئيبا


 فسيان هذا لديك


        فقد قدروا كل شيء عليك.
        إعلان واحد نسيته، ظهر في العدد الأول،  والذين يعرفون رئيس تحرير الكلب يعرفون مدى تعلقه بذلك المقهى الشعبي العريق الذي كان على كتف النهر في الجسر الأبيض، ففيه ولدت أولى أعداد الكلب. وفيه كتب صدقي كثيراً من نتاجه الدبي. وكان لولب المقهى (ونادله) النشيط الذي لا يفارق مكان عمله شاب كادح قصير القامة جم النشاط يلبي الطلبات ببشاشة وسرعة وكان اسمه (أبو عدنان)، فأعلن الستاذ صدقي عن المقهى في أحد أعداده قائلاً:
(قهوة) الجسر اقصدوها


 فأبو عدنان فيها


        كما أن الستاذ سليمان العيسى له قصيدة نشرت في الآداب عام 1954 يقول فيها:
وإذا أعتيك النرجيلة


 فأبو عدنان أخو حيلة


؟؟؟؟؟ نارك فانتظر


 لكل عسير تذليله.. الكلب


(( 7 ))

        كلما عكفت على ما جمعته من أعداد جريدة "الكلب" وأعدت قراءة ذلك لشعر المتفرد، كلما فعلت، عاودني شعور بالمرارة والأسى.
        ذلك أن هذا الشعر يحتاج إلى دراسة أشمل وأعمق أولاً، إلى مناخ ملائم وعقلية متفهمة تستوعبه أسلوباً ومحتوى.
        ذلك أن هذا الشعر يحتاج إلى دراسة أشمل وأعمق شعر الأستاذ المرحوم صدقي إسماعيل كما كان يقدمه في تلك الجريدة الفريدة، أقول لنفسي إنها المرة الأخيرة، ومع ذلك أجد بعض العذر لاستمراري في هذا (المسلسل) منطلقاً من القول المعروف: (ما لا يدرك كله لا يترك جله).
        جمعت لحلقة اليوم عدداً من القصائد صنفتها ضمن باب (الرثاء) ومع أن "الكلب" (لم تصدر إلا المزاح) كما جاء في افتتاحية العدد لأول، وشتان بين الرثاء والمزاح، إلا أن القارىء سيذرف الدموع وهو يقرأ مراثي الكلب، وقد تكون الدموع من عنف لسخرية وشدة الضحك، وشر البلية ما يضحك كما تعرفون.
        المرثية ألأولى التي تقرؤها كتبها أستاذنا صدقي منذ سنوات عندما شاهد ورقة نعي وعليها اسم حسيب كيالي، فتبادر فوراً إلى ذهنه أن المتوفي هو أديبنا الكبير المعروف – المغترب حالياً – حسيب كيالي فخاطبه قائلاً:
كل المآدب لا تطيب


 من بعد فقدك يا حسيب


أنا لا أصدق أن مثلكم


 له أجل قريب


فالله يأنف أن يعامل


 من هوايته الذنوب


أولم تقل يوماً لغسان([23])


 بأنك لا تتوب


        وفي حزيران من عام 1971 وكان الأستاذ صدقي رئيساً لاتحاد الكتاب العرب يعاونه الدكتور غسان الرفاعي، سرت إشاعة بوفاة الشاعر المعروف محمد الحريري، فأسرع غسان يخبر الأستاذ صدقي – بالهاتف الآلي – ويسأله عما يجب فعله باسم الاتحاد في هكذا مناسبة. وبعد فترة من الاضطراب، انجلى الأمر وتبين أن الشاعر الحريري يجلس على شرفته ولا علم له بما يحدث. وهنا أصدر الأستاذ صدقي ملحقاً خاصاً بالعدد 105 من جريدة الكلب اقتصر على رثاء محمد الحريري بمناسبة وفاته المزعومة، إليكم فيما يلي نص القصيدة بدون تعليق:
خسىء الزاعمون أن محمد


 مات .. ما عاد في الحقيقة يوجد


قد دعاه رب السماء فلباه


 وهذا ما كان فيه مقيد


فهو – أعني محمدا – ثوري


 منذ أن ودع الطفولة ألحد


وتحدى حماة والشعب فيها


 خشية النار كله يتعبد


وتصلي حتى النواعير أيضاً


 في انتحاب من ألف عام تردد


ويصوم الرجال زهدا وتقوى


 فجميع النساء يلبسن أسود


بينما الشاعر الحريري أفتى


 أن من يترك لشراب .. معقد


بل مريض .. دواؤه ريق سعدى


 بأبيها الأمير صار مخلد


خمرته كروم زحلة قرنين


 وحتى أيامنا لم يقلد


إنما في حماه .. قلد ساقيه


 فإن الغيداء صارت أغيد


أويجدي هذا؟ وقد قضي الأمر


 وسهم المنون صار مسدد


قد نعاه إلي بالهاتف الآلي


 شخص .. مازال شبه مجند([24])


في اتحاد الكتاب نصف رئيس


 وإلى الآن عقله ما توحد


كل سبت يلقي على أخطر الأحداث


 ضوءاً فيه الظلام تجسد


ويرينا الرائي على شاشة البيت


 وجوها في هضمها تتردد


صار يختص بالعدو .. ومن هم


 خلفه .. أهو مثلهم قد تهود؟


نرجع الآن للفقيد وطبعاً


 د. غسان .. كلنا سوف نفقد


قلت لي "قلبه توقف"


 - لا .. قلت وأبقيت هيكلي فوق مقعد
فهو في الوزن ضعف ضعفي – عدا العقل وفي الجسم ربما كان أزود


وتصورت كم سيترك في الشام


 فارغا والشعر تم سوف يكسد


شعلة لوحي أطفئت سوف يرثيه


 بهذا أحمد سليمان أحمد


وعلي الجندي ينثر فيه


 ما به حزنه الترابي يشتد


وسليمان([25]) سوف يكتب عنه


 فكرة اليوم .. في الإذاعة تورد


وسيذور منشار غازي أبي عقل


 عليه .. دمع الوفاء .. مجمد


كل هذا سهل إذا قيس بالكلب


 وحتماً أعداها سوف تنفد


أمن العدل أن يقول رثاء


 فيه كلب على المزاح، تعود


كم هجوناه وهو يضحك كالطفل


 وهذا طبع به قد تفرد ..


ضحكة الحب والحياة بعينيه


 إذا ما غمرته تتجدد ..


ومن المستحيل أن يتوارى


 هكذا في إشاعة لم تؤكد


قد سألت السمان عن صحة


 الأمر فكان الجواب هذا: كأن قد


رحمة الله يا محمد لا تزعل


 لأمر في فرضه الله عند


جاء في شعرك المهذب أن


 الشاعر الفذ قد يموت ليولد


        ولعل أطرف مرثية ظهرت على صفحات "الكلب" تلك التي كتبها الأستاذ صدقي بعد وفاة (باتا) صاحب مصانع الأحذية الشهيرة. هذه المرة كانت وفاة المرثي حقيقية إذ قضى باتا نحبه عن ثمانين عاماً لم يسأم خلالها من غزو أسواق العالم (بالمتانة والذوق والرخص) حتى صار علماً من الأعلام. فاستحق الرثاء في الكلب، ونلفت الأنظار إلى أن القصيدة يعود تاريخها إلى أواسط الخمسينات، وإن الأبيات المنشورة هنا تشكل جزءاً منها إذ أنه ليس بالمستطاع نشرها كلها...
مات باتا بالأمس (رب ملك) الصرامي


 فاندبوا واحداً من الأعلام


واذكروا فضله عليكم وأعني


 فضل صباطه على الأقدام


طبق الخافقين ذوقا ورخصا


 من ضواحي كوبا إلى فيتنام


        وبعد أن يشيد صدقي بشهرة (باتا) ويقارنها بشهرة سواه من المشاهير الذين لا تدوم لهم شهرة، يقول:
بينما خلدت مواهب باتا


 واستمرت حتى لدى الإسلام


فانظروا مدخل المساجد يوما


 كيف يعلو إنتاجه كالركام


نصف ما يحتذي المصلون باتا


 وأضيفوا أيضاً حذاء الإمام


ملك الناس بالمتانة في الجلد


 وضبط الأسعار (والأرقام)


عنده النعل في سماكة عقلين


 لديكم برغم كل احترامي


ولديه الكعب الطويل خصوصاً


 للواقي أردن طوال القوام


وضيان يضب رجلك صيفاً


 وشتاء شبهته (بالفرام)


(ولسان) مخبأ لست تشكو


 طوله خذ لسان بعض الأنام


(ورباط) يريح والعهد دوماً


 أن يكون الرباط مثل اللجام


صنع باتا ولست أعرف شخصاً


 لاسمه السحر بين كل الأسامي


ورفيق مناضل وهو حاف


 واحتذى عنده فصار انهزامي


يتساوى لديه بوط لشرطي نشيط وصندل للحرامي


كان دوماً تقدمياً وحتماً قبل لينين من دعاة السلام


هل لبست الحذاء يوماً لتمشي خطوة للوراء لا للأمام؟


من مراثي (الكلب) 2

        قد كان ما خفت أن يكونا. واختفت بعض لقصائد التي بدأنا ننشرها على هذه الصفحة من (الثقافة الأسبوعية) بعد أن نبشناها من مخبئها الذي يضم ما خلفه لنا أستاذنا لكبير صدقي إسماعيل بعد رحيله عن هذا العالم.
        كنت على ثقة من أن كثيراً من قصائد جريدة (الكلب) غير قادرة على التنفس في أجوائنا الفكرية والأدبية.. غير أن الحلقة السابعة من هذه السلسة جعلت اليأس يحل في نفسي.. فلقد ابتدأ المقالة بخطأ في ترتيب الأسطر أضاع الفكرة التي أردت إبرازها.. وبعد المقدمة جاءت الأبيات الأولى التي قالها الأستاذ صدقي في (رثاء) حسيب كيالي، جاءت مبتورة بعد أن اقتطعت منها أجمل أبياتها، وكان من المفروض وضع ثلاث نقط مكان كلمة أو كلمتين لا أكثر حتى يتمكن القارىء (اللبيب) من فهم المعنى المقصود.
        ولم يسلم رثاء (باتا) من قلم رئيس التحرير، إذ عدل في البيت الأول من القصيدة ووضع كلمة (ملك) بدل كلمة (رب). وضعها دون شكل فخرج البيت مكسوراً. مع أن خشية رئيس التحرير ليست في محلها. فكلمة رب تعني في لعربية صاحب (رب العمل رب البيت) هذا إذا ضربنا صفحاً عن أنها تجيء كصفة أو اسم أحياناً كما في قولك (رب البندورة) فأي ضر إذا وصف باتا بأنه رب الصرامي أي صاحبها وصانعها؟
        ومع أنني مارست رقابة ذاتية على الأبيات، لأساعد رئيس التحرير على أداء مهمته، إلا أنني استغربت جداً كيف يضيق صدر (الثقافة) عن أبيات مليئة بالذكاء والفكر اللماح والثقافة الرفيعة، وكيف يتسع لمثل هذا لكلام:
        ضعف النظر.. ريب البصر.. يا لوحة أيامي.. أضناني السفر.. أرهقني  لعمر.
        ألعب حافي القدمين أغني ...
        والحلوى في ايدي الغلمان
        تحيا تصبح باهظة الأثمان
        وأقول لنفسي ما زلت صغيرا
        لا أبدا أصبحت كبيرا ...
        هذا ونضرب صفحاً عن (درر) شعرية أخرى، لأننا لسنا في مجال تحليل قصائد العدد الماضي...
        ومع ذلك، وفي سبيل اخراج شعر جريدة (الكلب) من الحلقة لضيقة التي حوصر فيها، رأيت الاستمرار في تقديم هذه السلسلة، التي يقول الأستاذ مدحت رئيس تحرير الثقافة أنها تلقى تجاوبا من القراء، مع أنه لم يعرض علي أية رسالة قد تكون جاءت إلى المجلة عليقاً على المقالات. ولعله فاعل ذلك قريبا...
        حلقة اليوم ستكون مخصصة (للرثاء) أيضاً، ذلك أن ضيق الوقت المجال جعلنا نقدم نصف الموضوع في الحلقة الماضية.
        كان الأستاذ صدقي إنساني الشعور والاهتمامات، والشاهد على ذلك أن جريدته لم تخل يوماً من أبيات ذات علاقة بحادثة جرت في هذه البقعة، أو تلك من كوكبنا الأرضي، وتركت صداها لدى أبناء الإنسانية. وفي الأبيات التالية شاهد ونموذج. والقصيدة قيلت بعد الحادث الذب أودى بحياة ثلاثة من رواد الفضاء السوفييت وشاءت الظروف أن يكون الأستاذ صدقي يومئذ في الاتحاد السوفييت. ونظرة سريعة إلى القصيدة تزيدنا معرفة بأسلوب استاذنا المتفرد في معالجة مواضيع شتى وانتقاله ضمن خط الموضوع الرئيسي إلى مواضيع أخرى، كالعازف الذي ينتقل من وتر إلى وتر وهو يؤدي لحنا منسجما:
ذهب الموت برواد الفضاء


 فليطب نفسا أمير الشعراء


كان ضد العلم رجعيا وان


 عده النقاد([26]) موهوب الأداء


قد تولى المدح في عائلة


 حكمت مصر بلا أدنى حياء


ورأى طيارة في عمره


 ظنها احدى أعاجيب السماء


لم يكن يفهم ن تركيبها


 غير (موتور) به نار وماء


طائر ضخم الجناحين له


 هيكل معدنه من توتياء


وضعوا (فرفيرة) قدامه


 لا يمشيها سوى ضغط الهواء


ولكي يُغرى به ركابُه


 وضعوا في جوفه أحلى النساء


قال شوقي: نصفه من بشر


 وهو يعنيهن وأفهم ما تشاء


عقله لسحري ما زال إلى


 عصرنا في رأس بعض الأدباء


شمتوا بالروس في كارثة


 هي أحرى أن تثير الكبرياء


كشف الرواد فيها عالما


 ضاع حتى من خيال الأنبياء


عالم الإجرام في أفلاكه


 لم يعد سرا أمام العلماء


صار بالإمكان أن يرتادها


 أينا في نزهة عند المساء


وغدت (فينوس) في غاباتها


 قيد أسبوع مقاسا بالضياء


تمتطي باخرة جوية


 فتعلي فيك فور الامتطاء


ثم تعغدو غير أرضي بلا


 ثقل بل أنت والطيف سواء


مطلق كالروح – لولا العيب -


 للاشتراكيين هذا الادعاء


عقلهم بالعلم دوماً واقف


 ضد ما تدعوه: (ميتافيزياء)


فلم الرواد ماتوا وهمو


 في فضاء الرض والصيف عراء؟


جو موسكو كان صحوا عندما


 كنت في التشييع في شبه بكاء


ما يفيد الدمع والموكب في


 طوله يمتد ن دون انتهاء؟


بالملايين ترى الشعب وقد


 صف عفويا بلا أي استياء


وبرغم الحزن شاهدت على


 كل وجه صحة فيها امتلاء


        المراثي في (الكلب) عديدة، فقد كان رئيس تحريرها ينفعل لسقوط ورقة ن شجرة، أو لشجرة منعزلة واقفة وحيدة على رصيف في يوم قائظ، أو لغياب جريدة وتوقفها عن لصدور..
        وقصيدته في رثاء جريدة (الجماهير)، التي صدرت في أوائل أيام الوحدة مع مصر والتي تطوع لتحريرها مجموعة من حملة الأقلام ندر أن اجتمعت لتحرير صحيفة سوها. ولكنها كفت عن لصدور لأسباب غامضة، فكتب الأستاذ بالمناسبة قصيدة طولة جاء في مطلعها:
توقفت الجماهير


 فيا أخواننا سيروا


فإن لكرم قد هجرته


 بالأمس النواطير


وأن العقل مهما قيل


 حر فهو مأسور..


        أليس كذلك أستاذنا رئيس تحرير الثقافة...
        ومن القصيدة أيضاً هذه الأبيات التي عبر فيها الأستاذ صدقي عن آراء بعض الذين كانوا يكتبون (للجماهير)...
وقد زعمت (سمية)([27])


 إن هذا الجيل مغرور


فليس نقيده صحف


 ولا يجديه تنوير


(ونخلة)([28]) قال في أمل


 بأن الأمر تأخير


فظلوا في مكاتبكم


 إلى أن ينفخ الصور


        وجريدة (الكلب) التي رثى شعرها كل شيء لم تنج هي من الرثاء، مع أنها كانت على قيد الحياة، ومع أن الرثاء جاء على قلم شاعر من (أبناء الجريدة) وثيق الصلة بها، إلا أنني كنت دائماً استغرب لماذا أقدم الأستاذ لشاعر سليمان العيسى على رثاء (الكلب) لأن مجلة (الأسبوع العربي) نشرت تحقيقاً صحفياً مصوراً عن الجريدة في خريف عام 1963... بقي استغرابي حتى بدأت أكتب هذه السلسلة من المقالات، فاكتشفت بأن كثيراً من شعر (الكلب) يموت فعلاً إذا حاولنا نشره، لأنك مضطر إلى (مراعاة الخواطر) فتحذف أكثر الأبيات إثارة للمتعة وأغناها باللمحات الفكرية الحادة الذكاء أو القاتلة السخرية.
        واستكمالاً للبحث وتعميماً للفائدة وانسجاماً مع وحدة الموضوع رأيت من المناسب ذكر أبيات من القصيدة الوحيدة التي قيلت في رثاء (الكلب) عندما (اشتهر) أمره على صفحات الصحف...
زعلت على الكلب العزيز يصور


 وفي صفحة (الأسبوع)([29]) بالأمس ينشر


زعلتى عليه صار كلبا كغيره


 له ذنب مثل (الجميع) يجرجر


يلوح غريبا في المجلة شاردا


 ويحزن حتى الكلب حين يزور


تصدر في (الأسبوع) أحسن صفحة


 فهل غره كالبعض كسم ومظهر؟


وكان عزاء الأصدقاء وانسهم


 (يفشون فيه خلقهم) حين يصدر


يلف على الأصحاب في كل موسم


 وقرؤه منهم (سفيل) وعسكر


وكان سجل الحادثات .. كبيرها


 على شعره من ذيله الحر يصغر


يمر على التاريخ بيتا ونكتة


 تفقع ضحكاً من يحس ويشعر


لك لله يا كلب النضال صحبتنا


 على الدرب ربع القرن لا تتغير


* * *
لك الله .. ودعت الرفاق وجوهم


 وكم يخسر الإنسان متاعة يشهر


وأصبحت جارا للكبار ومثلهم


 بأعلى مكان في الجريدة تظهر


أضاعك (صدقي) خلف فنجان قهوة


 وساقوك من قدامه وهو ينظر


* * *
أأغراك في بيروت شيء؟ فإنها


 بكل (الهوايات الرفيعة) تزخر


تراث حفظناه طويلاً لأننا


 نرى حنظلاً ما في فم البعض سكر


وداعا وملء القب ذكراك حية


 وما كل كلب من في الدرب يذكر ..


(( 9 ))

        كلما حان موعد كتابة حلقة جديدة من هذا (المسلسل) الأدجبي الذي نقدمه للتعريف بملامح الشعر الخاص الذي ظهر على صفحات الجريدة الخاصة (الكلب) خلال ربع القرن الماضي، كلما حان الموعد أجد نفسي نهباً لمشاعر شتى، لعل أبرزها هذه الخشية من عدم إيفاء الموضوع حقه للأسباب التي سبق لي ونوهت بها في مقالات سابقة، فلقد يجد بعض القراء ممن لم يسبق لهم الاطلاع على هذا الجزء من أدبنا الحديث، أنه ليس كما كانوا يتوقعون (جدية، ومستوى ولغة) وقد يخيب أمل العارفين به ممن كانت لهم صلات مع أستاذنا صدقي، لأنهم لا يجدون في المقالات ذلك الجانب السياسي الذي وسمه أشعار جريدة "الكلب" بالسمة الرئيسية التي ميزتها عن كل ما عداها.
        إن السياسة هي فن الممكن، كما قال، غير أنها في شعر الأستاذ صدقي فن القراءة ما بين السطور، وتسليط الضوء على ما وراء الحداث والمظاهر، مع تزيين الحدث (بديكور) من السخرية اللاذعة يتصاعد مع القصيدة حتى يجيء البيت (أو الأبيات) المشابهة للضربه القاضية في الملاكمة.
        لذلك فأنا أعتذر من ذكرى الأستاذ صدقي عن عدم مقدرتي على نقل كل (الجولات) التي برع فيها أستاذنا، مع أني أحاول قدر الإمكان نقل وقائعها بطريقة الاختزال.
        عكفت على المجموعة التي لدى من هذا التراث الفريد، وأمعنت النظر محاولاً انتقاء موضوع محدد لمقالة اليوم، فلم أتمكن من الاستقرار على رأي، حتى عثرت على افتتاحية عدد قديم بعنوان (الامتحان) وتذكرت أن الجو الان جو امتحانات فوجدت من المناسب اطلاعكم على مفهوم الامتحان لدى أستاذنا:
يكرم الإنسان دوماً أو يهان


 عندما يأتي أوان الامتحان


مثل صار قديماً حكمة


 لم تزل تروى على مر الزمان


ليس من أجل التلاميذ فقط


 إنما تعني فلاناً وفلان


كلهم ينجح في شيء وفي


 أخطر الأشياء يكبو ويُدان


طالب يسقط في الفحص وقد


 كان في الشارع أذكى (دونجوان)


وفتاة (نجحت) في ثوبها


 حاسراً تظهر نه الركبتان


ثم صارت زوجة وامتحنت


 سقطت لم تجد فيها الدورتان


وفتاة تبهر العين بها


 قصةُ الشعر وتخضيب البنان


وإذا حادثتها أسقطتها


 عقلها في نصف حجم الكستبان


ووزير ناجح في طقمه


 في (الإتيكيت) وفي الحكي كمان


وتراهُ غير ماش حاله


 في شؤون الحكم .. للحكم أوان


والحكومات لها فحص إذا


 نشرت خطتها ضمن بيان


بعضها يسقط ثورياً وفي


 العد القادم تحديد المكان


        ولما كنا في صدد الامتحانات، وهي ذات علاقة بالتربية بمعنى (الوزارة) ويمعنى (التعليم والتقويم)، فلنلق نظرة على هذا (التوجيه التربوي) الذي خاطب به الأستاذ صدقي وله قائلاً:
لا تصبح مثلي با ولدي


 بل قلد زعران البلد


فتح عينيك وكن حذراً


 مني ن عقلي من عقدي


حتى من قولي أمس: لقد


 قصرت بدرسك فاجتهد


أو شعرك صار له ذنب


 ان لم تحلقه تُنتقد


حتى من رأيي فيك وفي


 جيل يتفاقم([30]) بالعدد


يتمرد، يرفض، يخلعها


 من سقف البيت إلى الوتد


فالثورة لم تولد إلا


 فوق الأنقاض .. ولم تلد


أجيال الأمس ستجرفها


 أجيال تأتي بعد غدِ


        لست أدري ما إذا كان أستاذنا قد تأثر بثورات الطلاب بخاصة في فرانسا في أيار 1968، إلا أن هذه الأبيات برأيي، لو ترجمت إلى الفرنسية لكانت تجسيداً لمطالب الشباب لرافض المتمرد الذي قاد أحداث تلك الفترة ولاختيارها لترفع على واحدة من لافتتاهم.
        هذه الأبيات لبسيطة يقولها أستاذ موهوب مارس التدريس أعواماً طوالا، بالإضافة إلى كونه الشاعر النقاد، أراها مليئة بالحكمة حتى لا أقول بالفسلفة، فصراع الأجيال الدائم منذ الخليقة يتصف دائماً برغبة الجيل القديم، جيل (الآباء) بأن يجعلوا أبناءهم على غرارهم وشعارهم – كن كأبيك – وتطلعات (الأبناء) تتجاوز دائماً آفاق عالم آبائهم الذي يرونه سجنهم لا أكثر.. هذه حقيقة بسيطة قد يعرفها كثيرون ولكن قل من يريد الاعتراف بها، ومن هنا قيمةهذه الأبيات كأسلوب تربوي يأخذ الآن مكانه في العالم المتقدم.
        لا تصبح مثلي يا ولدي
        كن حذراً حتى من رأيي فيك ...
        فالثورة تهدم لتبنى، ولن يقوم بناء جديد على أسس قديمة أرهقها مرور الزمان.

(( 10 ))

        زميل شاعر يهتم بهذه المسلسلة التي أكتبها عن الشعر كما كان ينظمه أستاذنا الراحل صدقي اسماعيل وينشره في جريدته (الكلب)، قال لي ذات يوم: ايكون بوسعنا اعتبار هذا النوع من الشعر شعراً حقيقياً سوف يكتب له البقاء؟ طرح علي الزميل السؤال وأظهر تحفظه لا بل شكه بذلك.. من تاريخنا فلست اشك بأن هذا النوع من شعر الأستاذ صدقي سيكون في المقدمة.
        فهو أولاً يمتاز بصدق عفوي بعيد الغور، صدق لا يتحرج امام اية حقيقة، وقد يكون انتشاره المحدود حافزاً للشاعر على قول كل ما لا ياقل عندما كان يعالج قضية ما. من البديهي أن قول ما لا يقوله الآخرون، أو بأسلوب مغاير يعطي للشعر والشاعر سمة التفرد. ومن هنا فإن قصائد – لكلب – كلها تمتاز عن كل ما عداها. فهي كالتراث الشعبي – الفولكلور – كلما كان نفرده أكثر وضوحاً كلما كا أكثر اصالة، كلما كان أكثر – عالمية-. هذا ما يقوله نقاد اليوم على الأقل.
        أما إذا كان نصر على أن تكون القصيدة – وقورة – لكيلا أقول جادة، حتى تعلق بين نظائرها، ويعترف بها المجتمع الأدبي، إذا كان هذا هو المقياس فقد لا يكن شعر الأستاذ صدقي (شعرا) لأن جديته من نوع خاص يقبل عليه القارىء لا بل يبحث عنه. وأكبر دليل على ما أقول هو سقوط أكثرية القصائد (الوقورة) – ذات الوزن والقافية وتلك التي بلا وزن ولا قافية – واختفتؤها من التداول بسرعة مذهلة، وتهرب القراء من هذا الشعر الذي يزعم لنفسه الجدية في زمن سقطت فيه قيم كثيرة، فلم يبق لأكثرية تلك القصائد إلا إطار الوقار المتكلف الذي تغلف نفسها به، معتقدة بأنها ستبقى على لوح لخلود.
        وحتى يعرف القراء مقدرة أستاذنا الراحل على – قول الشعر – ومدى اتساع خياله ورشاقة تعابيره، أسوق لهم اليوم مختارات من قصائد واترك لهم متعة تذوقها والحكم لها بلا أدنى شك...
        تذكرون الحلقة الأولى من مقالانا هذه عندما قدمت لكم (ملحمة العام 1951) التي يبدؤها أستاذنا بمناجاة الأطلال وذم الزمان وينتقل بعدها إلى الغزل والنسشيب.. ولكن من يذكر منكم هذا البيت الذي يتغزل به أستاذنا (بسمرائه) والذي يليق بأكثيرة قصائدنا رقة وعذوبة:
لها سمرة كالخمر طال اختزانها


 وطعم خلود إذ تضم وتلثم


        قد يكون قراء كثر مروا على هذا البيت مرور الكرام لأنه جاء بعد بيت هزلي، وتلاه كذلك رسم ساخر في بيت آخر فضاعت – جديته -. ولكن يبقى هذا البيت وفي القصيدة نفسها أبيات أخرى مثله – يبقى نقطة مضيئة.
        وقد يقول قائل بأن الزهرة لا تصنع ربيعاً، فليكن. وما علينا إلا أن نحاول جمع الأزهار المنفردة المتناثرة في روضة صدقي إسماعيل الشعرية، وأنا على ثقة من أننا سنحصل على حديقة كاملة. فلنتابع.
        في قصيدة طويلة قالها أستاذنا في مطلع – الخمسينات – نقرأ البساطة والموسيقى والعذوبة في هذه الأبيات:
إذا كنت ذا قلب فأنت المعذب


 وإلا فطب نفسا بما أنت ترغب


تنام على صفو وقد لذ مأكل


 لديك من النعمى وقد طاب مشرب


صباحا ترى الدنيا جنانا وريقة


 وليلا على مهد الكرى تتقلب


مقيم على اللذات ما اشتد ساعد


 وما دمت ذا سن تعض وتقضب


وإن كنت ضجراناً فتحت "محطة"


 فمطربة فيها تغنى ومطرب


وقد تتسلى بالروايات قارئا


 بالسينما حينا تسر وتعجب


وتهتم حينا بالسياسة طالبا


 مبادئها الأولى وقد تتحَزب


وتغريك ساحات النضال وعندما


 تحف بك الأخطار قد تتهرب


فتنظم شعرا أو تخط مقالة


 وقدام جمهور من الناس تخطب


وتمضي بك الأيام يوم كفيره


 نهار يولي بعده الليل يعقب


وأنت على ما أنت لا القلب طالب


 قضيته الكبرى ولا العقل يطلب


ولا قائل هذا مصيري أفي يدي


 زمام مصيري أم سواي المرتب


        أعتذر عن متابعة سرد القصيدة لأسأل: أليس هذا هو الشعر الحديث كما ينبغي له أن يكون، الحداثة هي حداثة لموضوع وحداثة الأفكار، أفلا ترون في هذه الأبيات صورة نابضة لمجتمع أوائل الخمسينات، مجتمع الشباب المثقف الخارج لتوه من سجن الانتداب، الداخل إلى متاهات فوضى الاستقلال لسياسية.
        أفلا نجد في هذه الأبيات طعم بدايات خيبات الأمل المريرة لطلائع الجيل لذي أخذ على عاتقه إعادة – ترتيب – الوطن وابتدأ يكتشف أن عملية الترتيب شاقة عسيرة تحتاج إلى تضحيات مادية ومعنوية وإلى إطالة وارتباط راسخ بالجذور، لم يرب الكثيرون على معاناتها... ولنعد إلى القصيدة "بعد أن نتجاوز عدة أبيات لضيق المقام":
وجود مليء بالمعاناة عاصف


 إذا قر فيه لولب دار لولب


يرى في حياة لحس آفاق عالم


 بعيد الرؤى فهو البصير المجرب


بمقدار هم المرء يعرف قدره


 ومستغرق في راحة العقل أجدب


وشتان بين الخالق النبع قلبه


 وبين الذي يأتيه ماء فيشرب


أرى البحر أسمى ما يكن بهاؤه


 جلالا إذا ما صارع لموج مركب


ولا فضل للأمواج أطلق قيدها


 ويستأهل التقدير في البحر طحلب


له قدر قاس فكل وجوده


 صراع مع الأقدار هيهات يتعب


        وهل لي أن أرجو من لديه لوقت من القراء بأن يعيد قراءة الأبيات ويتأمل صورة الأمواج يصارعها الطحلب، هذا الصراع الأبدي الذي يجسد دياليكتيك الحياة..
        في القصيدة نفسها نموذج آخر (للوقار والجدية)، لا بل مثال فريد لعمق ثقافة أستاذنا الراحل، فهو يبدؤها بمداعبة رفيقه الشاعر سليمان العيسى متعمداً إثارته (بشعر مداعب):
إذا المرء لم يلعب بعقل صديقه


 فأي مجال فيه يلهو ويلعب؟


وقد لامني أني عن الصحب عازف


 وغيري مثل لنحل في الناس يصحب


        ومن هذا المزاح البين الجلي يقفز أستاذنا فجأة ليدافع عن دراسة كتبها عن الشاعر الكبير (رامبو) وهو في الحقيقة لا يقصد الدفاع عما كتبه، بقدر ما يريد عرض هموم العباقرة الذين سبقوه على الطريق:
وإني عن رامبو كتبت دراسة


 وإني عن فان غوخ في الصيف أكتب


وللمتنبي في يراعي رسالة


 خلاصتها: هذا ضمير معذب


مجانين ساروا والقطيع أمامهم


 يغني بأخلاق العبيد ويطنب


أرادوا فداء العصر بالإثم تاره


 وما كل منساق مع الحس مذنب


خطيئة رامبو أنه ظن مخلصا


 من القاع نحو اللانهاية يوثب


وطورا أرادوا بالعذاب ولا أرى


 ملوما فتى ذا مبدأ حين يصلب


        أهناك أرق من هذا الدفاع عن العباقرة الذين يعتبرهم القطيع مجانين، أهنالك كثر أيجازاً وتركيزاً للأفكار؟ ألم يلخص أستاذنا صدقي (فلسفة) رامبو ببيت وحيد...
        ولنستمر مع هذه القصيدة لفريدة، ولنقرأ رسالة صدقي إلى صديقه سليمان عن ماهية الشعر ورسالة الشاعر:
سليمان هل تدري بأنك شاعر


 وتعرف ماذا فوق ذا يترتب


إذا أنت لم تمدد إلى السر مرة


 يديك. ويحملك الغروب المذهب


وتفتح جفون اناس في كل لحظة


 على غيهب في لكون يطويه غيهب


وتلهب كيان القارئين بشهوة


 إلى جوهر في لشيء لله ينسب


فما الشعر بالمرتاد عندك مأربا


 وللعر عند الشاعر منفذ مأرب


أرى اللفظ ثوبا لا يكون لذاته


 ولكنه في اللبس يحلو ويقشب


أتعلم أن الثوب يبلى ويهتري


 ويلبث بعد الثوب حيط مشجب


وقد ينتشي الإنسان من سحر لفظةٍ


 ولكنه من فكرةٍ يتهذب


سليمان إن الشعر شتى فنونه


 وما كل ما يدمى به الجسم مخلب


وما فخرت بكر بسحر بيانه


 تراه سخيفا في التعابير تغلب


وقيمة ما في الشعر نوع امتيازه


 أيبلغ شأو القطن خيش وقنب


وعلمنا الأجداد إيجاز فكرة


 ولا خير في شعر يقول فيسهب


        لست هنا في صدد سرد (المناسبة) التي قيلت القصيدة فيها، لأن الشرح قد يطول ولنا عودة إلى هذه (لعلقة) ولكنني سأختم حلقة اليوم بكلمات هي تحصيل الحاصل، فالأبيات الأخيرة أطروحة فيلنقد الأدبي، مركزة جامعة، وهي تتسلل إلى القلب بيسر وسهولة وتنتقل برشاقة إلى الدماغ فتسكن فيه مع الأفكار وتخلد... هذه هي بعض سمات شعر الأستاذ صدقي إسماعيل، و بعض ملامح امتيازه وتفرده. ولدينا من تراثه أمثلة شتى لعلنا نوفيها حقها في حلقات قادمة.
* * * * *


([1]) وهيب الغانم.
([2]) يوسف شقرا.
([3]) صدقي إسماعيل.
([4]) سليمان العيسى.
([5]) بدر الدين علوش.
([6]) عبد البر عيون السود.
([7]) جمال الأتاسي.
([8]) مسعود لغانم.
([9]) يحي الشهابي.
([10]) أحمد إبراهيم عبد الله.
([11]) أديب النحوي.
([12]) أدهم إسماعيل.
([13]) إميل شويري.
([14]) كان الأستاذ سليمان العيسى قد كلف في مطلع عهد الوحدة لمدة شهرين برئاسة دائرة الثقافة والإرشاد القومي في حلب. وبعد أن تبين له عدم جدوى العمل أغلق لدائرة وعاد مدسراً.
([15]) إشارة إلى فلسفة الأستاذ زكي الأرسوزي الذي كان يؤكد على العودة إلى الجذور وإلى الأصل لبعث تراث العروبة وحضارتها.
([16]) الأستاذ عبد الكريم زهور.
([17]) الدكتور جمال الأتاسي.
([18]) الأستاذ رياض المالكي.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...