ما علاقة فن الطبخ بالكتابة؟ خمسة شعراء يجيبون

13-09-2010

ما علاقة فن الطبخ بالكتابة؟ خمسة شعراء يجيبون

عديدون هم المفكرون والكتّاب الذين تحدثوا عن العلاقة ما بين فن الطبخ والكتابة. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، ينحو الإيطالي امبرتو إيكو إلى اعتبار هذا الفن، واحداً من أكبر فنون العالم، بل يذهب إلى أكثر من ذلك، حين يجد أنه يدلّ على حضارة الشعوب وتطورها. صحيح أن «الطبخ» يبدو للوهلة الأولى كأنه عامل حياتي، بمعنى أنه ضرورة غذائية، لكن، وبعيداً عن ذلك، لا يمكننا في حياتنا الالفنان الفرنسي سيمون شاردين (١٧٣٨).معاصرة اعتباره مجرد حالة غذائية، بل يذهب إلى أن يكون فناً حقيقياً.
هذا الفن، تعرض له الكثير من الكتاب. ففي الرواية مثلا، غالبا ما نجد مشاهد تروى عن مآدب تشكل جزءاً أساسياً من متن النص وحياته، وبخاصة في روايات القرن التاسع عشر. يحضرني الآن على سبيل المثال، ذاك المشهد الرائع الذي يصفه فلوبير في روايته الموسومة «مدام بوفاري»، وهو مشهد لم يكن عابراً، إذ لعب دورا كبيرا في التأثير في حياة الشخصية الرئيسية التي أدهشها الحفل، لتبدأ معه رحلتها في «الانحراف»، لتصل في النهاية إلى الانتحار.
في أيّ حال، أعترف أن فكرة استعادة طرح هذه «القضية» هنا، جاءتني مؤخراً بعد قراءتي لمراجعة في صحيفة «لوموند» الفرنسية حول كتاب مختارات أعده الروائي الفرنسي ماتياس إينار، إذ يستعيد فيه العديد من النصوص، المستلة من الروايات الفرنسية، والتي تتحدث عن «فن الطهو والطعام». وتستشهد بأحد الإخوة غونكور الذي أعد مأدبة دعا إليها زولا وفلوبير ودوديه وغيرهم من روائيي تلك الفترة، حيث حضر بنفسه العام. من هنا، حاولت طرح السؤال على عدد الكتاب، عن علاقتهم بالطعام، وعمّا إذا كانوا يملكون موهبة إعداده. الكلام الأول للشاعر محمد علي شمس الدين الذي قال: «لست شرهاً. إن طعامي على العموم قليل، ومؤخرا هناك أكلات أحبها صار لزاماً عليّ أن أغادرها كلياً أو جزئياً. بالطبع لديّ مزاج لبعض الأطعمة ولكن دائماً بمقادير قليلة. وموعدي مع الطعام هو موعد غير منتظر، بمعنى أنني أيسّر لنفسي ما يتيسر»، ويضيف الشاعر اللبناني: «يحضرني في هذا المقام بيت شعر رائع قاله المتنبي في وصفه لحرب شعواء تقوم بين بعض الأجساد وأقرانها أو خصومها وهو الطعام، يقول: «بأجساد يحرّ القتل فيها/ وما أقرانها إلا الطعام».
السلطة الجنسية
من ناحيته، وجواباً عن السؤال، يقسم الشاعر شوقي بزيع «الأمر إلى مرحلتين، يقول إنه كانت هناك مرحلتان: «مرحلة ما قبل الزواج ومرحلة ما بعده. في المرحلة الأولى، ولأني تركت البيت العائلي منذ سنّ العاشرة متنقلاً ما بين صور وبيروت، خلال المراحل التعليمية المختلفة، وكنت أسكن مع فتيان يافعين من عمري، كان لا بدّ أن نتشارك في تحضير الطعام، كما في التهامه، ولذلك كان لا بدّ من أن أتقن بعض الأكلات الشاحبة والفقيرة التي لا تحتاج إلى ذكاء عال، بالنسبة إلى تحضيرها ومقاديرها، وهي تتراوح ما بين البيض المقلي والمسلوق وبين البطاطا بأنواعها المختلفة (المقلية والمسلوقة...) والكوسا والمتبلات والسلطات. أعقد طبق حضرته في حياتي هو اللوبياء بالزيت، أما كل أنواع الطبخ فلا أتقنها على الإطلاق».
يعتبر بزيع أن الطبق الذي يجيد صنعه بشكل خارق، والذي يقف على رأس المتع ويقع في مرتبة سابقة على الأكل والجنس والمعرفة هو السَلطة. يقول: «علاقتي بالسَلَطة تتجاوز العلاقة المعوية العادية وتصبح علاقة شبه جنسية، بحيث لا أشعر بأن هذا الطبق يجب أن يكتفي بمضغه الإنسان بل عليه أن يتمرغ به». أما الأكلة الأثيرة لديه فهي الكبة باللبن، لكنه لا يجيد صنعها. ويضيف: «لست أكولاً بل متوسط الشراهة، لكني أحب الطعام وليس لديّ فيتو على أيّ نوع منه. هناك أيضا العصافير المقلية، أعرف سيقوم ضدي دعاة البيئة وما شابه، لكنْ ثمة سبب في ذلك: في صغري عشت في ريف كان مليئاً دائماً بكروم التين والبطم والتوت، وهي أشجار تستدرج العصافير إليها. كنت مغرماً بـ«صلي العصافير» وهي عادة معروفة عندنا، لكن حظي كان بائساً، إذ لم أكن أعثر وأصطاد إلا عصافير شديدة الهزال والغباء. بينما كان أترابي يقعون على عصافير دسمة. ربما في الأمر ما يشبه الانتقام، إذ حين وجدت أنه من المستحيل عليّ القبض على العصافير انتقمت منها عبر أكلها والتهامها».
لكن ماذا عن مرحلة ما بعد الزواج؟ يجيب بزيع قائلا: «لم أعد أصنع شيئا من كل ذلك لأني وفقت بزوجة هي رنيم ضاهر، حيث طبخها يضاهي شعرها وعندها إتقان للأكل وسرعة تحضيره ويمتلك نكهة مميزة. وهذا ما أبقانا على قيد الزواج».
النوم والجنس والطعام هي الملذات الكبرى، هذا ما يقوله الشاعر يوسف بزي الذي يرى أن إعداد «الطعام هو فن الإقبال على اللذة. لذة التهام المادة الحيّة: النبات واللحوم والحبوب». من هنا يبدو فن الطهو بالنسبة إلى بزي «هو السعي للحصول على النكهة المتخيلة، تلك التي تغلفك بمتعة التذوق ومتعة النظر ومتعة الشم. ومقابل إشباع تلك اللذة، ثمّة سعادة إضافية حين تتمكن من تقديم هذه المتعة للآخرين. فحين تطبخ إنما أنت تهجس بالحصول على رضا الآخرين وعلى امتنانهم».
ذكرى المائدة
يعتبر بزي أن الارتقاء من سوية البحث عن الطعام لسد الجوع إلى سوية طمأنينة وفرة الغذاء، «أتاح تطور العلاقة بالغذاء إلى مستوى فن الطبخ، حيث بات الطعام ممارسة للهناءة والترف والدعة. طقس يرتقي من الحاجة الفيزيولوجية إلى الترف الروحي». أما عن تجربته الشخصية في هذا المجال فيقول: «منذ 15 عاماً تقريباً قرأت كتباً عن الشعراء وفن الطبخ أضاء لي الأفكار المبهمة التي كنت أهجس بها، من مثل أن المطبخ هو العلاقة الثقافية الكبرى للحداثة وأن كوسموبوليتية الطبخ وهواياته الثقافية العابرة للحدود والقوميات هي الممارسة الأرقى لإنجازات عصر الوفرة، خصوصاً بعد الثورة الخضراء المبتدئة في الخمسينيات»، ويضيف: «شخصيا أصف نفسي بأني هاوي طبخ تجريبي مهجوس بالمنكهات الحريفة والحارة. فقدر متوازن من النكهات اللاذعة مع لطافة اللحم والخضار يتيح لي شعوراً شبيهاً بالحسية الجنسية. أستعمل المطبخ لتمكين الصداقات والودّ. حالياً هو إحدى الوسائل لأمضي بعض الوقت النوعي مع ابني مثلاً في إعداد العشاء كنوع لإضفاء شاعرية على الجو الأسري». وينهي بزي كلامه بالقول: «من متعتي أيضاً تجهيز الولائم للأصدقاء وأنت الأخبر بذلك يا صديقي. من أكثر الذاكرات رسوخاً المائدة التي كنت تعدها أنت في بيت أهلك وحميمية الذاكرة مع شبيب الأمين وتفوقه بإعداده الموائد المتطرفة».
بالنسبة إلى الشاعر وكاتب السيناريو علي مطر فإن الطعام هو فن ناجز، لا ينقصه أي شيء، يقول: «شخصياً أجيد هذا الفن.. الطعام فن يندرج ضمن صناعة المتعة بحيث أطرب عندما أقدم لأصدقائي طبقاً وأسمع كلمة «آه».، إذ يشعرني ذلك بالرضا الشديد».
ويجد حول تجربته في إعداد الطعام أنه حين يحضر «الفطور لعائلتي أشعر كأنني أنجز عملاً فنياً يملأني بالرضا والحب. إنه أيضاً فن يرتبط بفن الضيافة كما يدل على تطور المجتمعات وبلوغها، لأن الطعام هو اختراع، فحين نركب طبقة معينة – وأنا بالمناسبة لدي طبختان خاصتان بي – فإننا نخترع بذلك. من الحبوب الحمص مثلاً هو اكتشاف، لكن صناعته وتتبيلته هي اختراع، وبالتالي هي انعكاس لمستوى تطور الفعل مثل أي اختراع آخر».
وينهي مطر كلامه بالقول إنه «تاريخيا لعبت الذائقة المَلَكية الارستقراطية دوراً في الذائقة العامة، بحيث كان الملك أو الأمير أو القيصر يطلب من الطباخين أكلة معينة فيجتمع الطباخون لتحقيق هذه الرغبة الملكية، وبالتالي فإن الطعام كلما تطور وتركب هو محاولة لإرضاء ذائقة عالية الحساسية. «صحتين للجميع»».
الخوف من الجوع
تبدو قصة فن الطبخ، بمثابة حالة مع الشاعر العراقي خالد المعالي، فهو يعيدها إلى قصة «التشرد والمنفى» الذي عرفه خلال حياته، يقول: «تركت عام 1979 العراق بشكل نهائي، عبر بيروت إلى فرنسا ومنها بعد عام إلى ألمانيا حيث أقمت حتى 2008. كنّا في العراق نأكل عادة ما تعده الأمهات والأخوات والجدات أو في المطاعم. في العراق وبسبب الأوضاع والجوع آنذاك تعلمت فقط صيد السمك من السواقي أو خلال الفيضانات، صيد الطيور والجراد، والبحث عن المشروم (الفطر). عادة أجلب الحصيلة إلى البيت. لكن في حالات الجوع، وأكثر في حالات الزعل والهروب من البيت، حيث أمضي اليوم في البرية برفقة الأغنام وأحيانا بدونها، سيكون سلاحي علبة الكبريت والبحث عن الأغصان الجافة والسرجين الجاف والروث والحرز، وهنا بدون ملح ولا خبز يتم الشوي واللهوجة على نار طارئة وفي أوضاع طارئة يتم سد الرمق».
بيد أن تلك الوضعية تغيرت، إذ بعد أعوام «حين قليت البيضة الأولى في فرنسا تعجبت لأني لم أكن أعرف اللوازم المطلوبة... أنا شخص خَبِر الجوع بشكل جيد، في الصغر وفي بغداد وفي الخارج... كنت جائعاً حتى لو لم أكن جائعاً... أحياناً أجوع بسبب الخوف من الجوع... الأعوام تمر بقسوة... العيش من المزبلة لم يكن أمراً يسيراً»...
يستمر الشاعر العراقي في تذكر تلك السنوات، ففيما بعد... «في الملجأ بألمانيا مع المشردين الآخرين تعلمت من الباكستانيين تهيئة العجين وخبز الخبز (الجباتي)، منهم تعلمت أيضاً تقطيع الدجاجة قطعاً صغيرة، مع الكثير من البصل والثوم والبطاطا والكاري والتوابل الحارة، والتي تطبخ حتى تذوب البطاطا في المرق ويتم تناولها بالخبز على شكل غرفات صغيرة... من هنا، من الملجأ، ومع أشدّ الناس فقراً من هنود وباكستانيين بدأت أستعيد ذوقي في الطعام وبدأت أتعلّم الطبخ. في الملجأ أنجزنا طبخات عديدة أتمنى حتى اليوم تناولها وكلّما سافرت إلى الإمارات، عُمان، البحرين والسعودية أبحث عن المطاعم الهندية والباكستانية كي أستعيد تلك الأطعمة، والتي دائماً ما تكون بأسعار زهيدة لكنها متنوعة ومغذية جداً».
بعد خروجه من الملجأ العام 1983، بدأ المعالي في «سير جديدة مع إعداد الطعام. أول وجبة نجحت في استعادتها هي الباميا، حين تستعيد الباميا تكون بهذا قد استعدت العراق، قد استعدت خيال الوالدة وتلك العوالم التي مهما بدت قاسية وبعيدة فهي تثير فيّ الحنين وحضور طبق الباميا يمنحني إمكانية التلذذ بوجودها وباستعادتها كلما أردت. كنت اكتشف البلدان والمطاعم وأقارن، واستعيد الطبخات العراقية، ولم اكتفِ بهذا، بل كنت أضيف طبخات جديدة تروق لي، وأطوّر الطبخات العراقية، فإلى جانب الباميا أضيف اللوبيا والجزر والباذنجان وخضروات أخرى حسب الموسم والمزاج.. وكلما سافرت إلى بلدان أخرى كنت أحرص على زيارة سوق الخضرة وسوق السمك، إنها متعة بصرية لا تضاهى وخيال لا يتوقف»..
يضيف الشاعر العراقي بالقول: «تعلمت الكثير من صديقي القديم عبد القادر الجنابي، فقد كان طباخاً جيداً، لكنه لم يكن ماهراً، المهارة وجدتها عند عادل عاموس، الناشر اللبناني، صاحب دار الخيّال، فقد فتنني قبل أعوام حينما أمضينا اسبوعين سوية في شقة بجدة في المملكة العربية السعودية، إذ تعلمت منه العديد من أساليب طبخ اللحم والخضرة، بطريقة مذهلة... أمامه كنت أشبه بتلميذ صغير».
«حينما شعرت بأنه يمكنني أن أستعيد أي طبخة عراقية... برزت في خيالي الحلوى التي كانت تصنعها أمي من التمر... التمر مع اللبن المجفف، التمر مع الزبدة، التمر مع الزبدة والسمسم... الخ»...
اليوم وحين أعود من السفر وبحسب البلدان التي آتي منها: «تكون معي، بالإضافة إلى الكتب، أكياس من التمر، أو صندوق من السمك أو أكياس من اللوبيا الطويلة، وهي التي تدعى ربما اللوبيا الهندية، الغريب أن هذه اللوبيا غير موجودة في لبنان، لكنها موجودة في قبرص».

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...