تاريخ الذاكرة الشفهي.. «لا حكم عليه»

10-04-2009

تاريخ الذاكرة الشفهي.. «لا حكم عليه»

أقف في مقدمة مداخلتي عن الذاكرة والتاريخ الشفهي، وفي ذاكرة الحرب، على وجهين اثنين. الوجه الاول دائم لديّ مقيم. وهو استفهام: لماذا يبدو التاريخ الشفهي، في ذاكرته البعيدة المقدسة، أو في الذاكرة الحية المعيوشة، « ابن خالة» أو « قاروطاً» في أدبياتنا التاريخية، نعقد له في بعض الأندية والمحافل، مجالس لتفسيره والتعريف به والدعاية له، هي أقرب الى مجالس الصدقات. هذا استفهام استنكاري بالطبع. فمجتمعنا سليل مجتمعات ظل تاريخها لمئات من السنين، شفهياً محفوظاً في صدور النخبة من رجالاتها في أبواب الفكر. أو محفوظاً في صدور العامة، حول تاريخ العائلة او القبيلة أو تواريخ القبائل.
الوجه الثاني, وقد طرأ في ذهني، مع مباشرة كتابة هذه المداخلة: ما هي العلاقة بين الذكورة والذاكرة؟ وما العلاقة بين النسوية والنسيان؟ نأخذ قاعدة الإجابة من «الجوهري» في «الصحاح في اللغة». ففي شرحه فعل «ذَكَرَ» نقع على التالي: الذكر خلاف الأنثى. والذِّكر هو «الصيت والثناء». و«القرآن ذي الذِّكر» أي ذي الشرف. سيف ذَكَرٌ أو مذكرّ أي صارم. والذاكرة هي الحافظة. والحَفَظَةُ هم الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم. أما حول فعل «نسا»، فنقع على ما يلي من تفسير: نسا- النِسوة والنُسوة والنساء والنسوان: جمع امرأة من غير لفظها. والنسيان خلاف الذِكْر والحفظ. رجل نَسيّ رجل لا يعدّ في قومه.
أعتذر عن هذا الاستطراد. إذ يكفي النساء ما يصيبهن من نقصان في حظوظهن، لنضيف إلى ذلك نقيصة في نصيبهن من اللغة.
1- لئلا نضيع
«وإذا عراكم حادث فتحدثوا». هذا ما قاله ابو العلاء المعري. والحديث ذو شجون، كما يقول العرب في أمثالهم السائرة. تأخذ منه في طرف، فلا تلبث حتى تكون في آخر، ويعرض لك منه ما لم تكن تقصده فهل كانت درجة التعبئة المأزومة الدائمة، التي لفّت أبا العلاء في محبسيه، هي التي دفعته لأن يلجأ، طلباً للسلوى بعد أي حادث، إلى الحديث؟ أي إلى فطنة البصيرة والذاكرة العميقة؟ يغلب أن يكون الأمر كذلك. فالحديث لدى أبي العلاء، استراحة له في حربه، من طفولته، مع عماه. أما نحن، وقد انقضى علينا في الحرب، جيل بالتمام والكمال، فإن الرواية الشفهية بالنسبة إلينا، هي في جوهرها، طرد للذكريات وتخلص منها. أو، بوجه آخر، تفكيك لدلالاتها من خوف وضعف وحاجة.
كان التاريخ الشفهي، وكانت الذاكرة من قبل. أو، لنجمع المفهومين ونقل كانت مذاكرة التاريخ الشفهي، تعني قصص أنبياء وأغاني وأمثالاً وطرائف ومِلَحاً، وملاحم تمتد من عنتر والزير. وتعني إليّ، زيادة، ظرفاء بلدتنا «علي قاسم وفهمي ومحمد رشيد». كان الأمر كذلك. أما اليوم، فإن مذاكرة التاريخ الشفوي، تكاد تنحصر في أحابيل السياسة وعقابيلها، وفي رعب الحرب وتذكارات الموتى. صار هناك اتحاد لصيق، بين الذاكرة وبين موضوعها، أي الرواية الشفوية. فالرواية تكاد تكون اليوم، هي الذاكرة الحية وحسب، ويصح العكس في ذلك. وهما كذلك متماكنتان متزامنتان. لم يعد الراوي يروي معايشته، وينبش في ذاكرته «لئلا تضيع» الأحداث والطرائف، كما اهتمّ لذلك سلام الراسي، في باكورة عطاءاته. ولم تعد «أحاديثَ قريةٍ» أو «مفكرةً ريفيةً»، كما حلا لمارون عبود وأمين نخله عنونة نتاجهم التراثي الشعبي، أصبحنا اليوم نستذكر ونذاكر ونــسرد ونستــسرد من الأحداث «لئلا نضيع» نحن، وقد بتــنا في سياستنا واجتماعاتنا، ومن قبــل ذلك في حيواتنا، على حافة الهاوية، ننتظر الوقوع فيها ليس إلا.
2ـ الحرب: أيام و دول
أكثر الحروب وجعاً وأهولها، تلك الحروب التي لا تنكشف في نهايتها عن نصر واضح لطرف، أو عن إقرار بهزيمة لآخر. تدوم هذه الحرب سجالاً، تارة لهذا الطرف وتارة عليه. ولا تكون هذه الحرب غيرِ المحسومةِ، إلاّ بين طرفين امتدت بينهما علاقات التاريخ المشترك، من مصالح وقربى وإقامة، بحيث يصير الخروج عن ذلك، خروجاً على أحكام السياسة والاجتماع والثقافة. وهي تمتدّ إلى حياة البشر كلها، ولا تقف عند مقدسات او مقاسات أو تراث أو ممتلكات. إنها الحرب التي تزور دائماً، وحرب القتل فوق الحد.
ولأن الحرب سجال، كما يقول المثل العربي، و«المثل نبي» في عُرف ثقافتنا. كان للحروب عند العرب، اسمُها المستديم: «أيامَ العرب»، أي حروبَهم ووقائعَهم. كانت أعمارهم وأحداثهم تؤرّخ بأيام الحروب. ولم تكن علاقات وأحداث يومياتهم لتخذلهم. اذ كانت مليئة بالصدامات المفتوحة المكرورة، مما أمّن لذاكرتهم مؤونة وخزينة. حتى بات العرب يطلقون تسمية «ابن الأيام», أي «ابن الحروب»، على العارف بأحوال الناس وتقلبّات الدهر. ولا أستبعد مثل تلك العلاقة بين كلمة «حربوق» وبين الحرب، وهي توصيف باللغة العامية للرجل، وقد عركته الأيام وحنّكته. ولما لا نلاحظ هنا كلمة عركته الأيام!
وفي عصر النهضة الحديث، كان التنظيم السياسي الجديد، وكانت الدولة الجامع السياسي الأساسي. والطريف أن هذا الشكل السياسي الهادئ، المسلّك لأحوال الاجتماع الإنساني، اتّخذ تسميته عندنا من فعل «دَوَلَ»، ولا يخرج هذا الفعل في اللغة، عن الدور الذي تحدّد في إطار «الأيام» لدى العرب. يشرح «الصحاح في اللغة» فعل دَوَلَ، فيقول: دول ـ الدولة في الحرب: أي أن تدال إحدى الفئتين على الأخرى. يقال: كانت لنا عليهم الدولة. والجمع دول. وأدالنا الله من عدونا من الدولة. والإدالة: الغلبة. يقال اللهم أدلني من فلان وانصرني عليه.
3ـ الإعلام وإعدام الذاكرة
تبدو العودة إلى الذاكرة حاسمة جداً، إلى الذاكرة الحيّة، ذاكرة الجماعة المجروحة، مع مطاردة وسائل الإعلام لهذه الذاكرات، وقولبتها مع معايير ومصالح، غريبة عنها في الغالب الأعم. فالحروب المحلية منها والخارجية، لم تعد كما رسمتها معاناة الذين عاشوها، ألماً ودماً وموتاً ويتماً وحرماناً ونفياً وهجراناً وغربة، وهي مآسٍ بات مجرد افتكارها وتذكّرها، كافياً لبعث مشاعر الرهبة والخوف. كان يكفي لكل ذلك أن نقول: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم. هذه الحروب باتت اليوم، في عرف وسائل الإعلام، ألعاباً يدور عليها الأطفال لاهين ضاحكين. يبدو «اللعب» فيها حرفتهم الأصلية، وإلى جانبها تبدو ألعاب الطفولة الطبيعية المعروفة، مجرد حركات لا محل لها في جداول اهتماماتهم.
4ـ القلم و الكلم
تقود الكتابة، إلى إعمال العقل في الموضوع المكتوب، أي أنها تقود إلى النقد، فهي أساس النشاط الفكري وتطوره. تستلزم الكتابة مسؤولية الفرد أمام عمله. وذلك بأن تضع مسافة بين المرء وأفعاله اللفظية، «فيستطيع بذلك أن يتمعن في ما يقول بصورة أقرب إلى التجرد والموضوعية. يستطيع (بالكتابة) أن يتباعد بعض الشيء عن نتاج فكره، أن يجعل بينه وبين هذا النتاج مسافة تقيه من الوقوع في الاستلاب... هذه المسافة تمكّنه أيضاً من تنقيح هذا النتاج، ومن تصحيحه، وربما إعادة النظر فيه، بل من نسفه أصلاً باتجاه استبداله بما هو أرقى وأجمل». فليس غريباً والحال هذا أن نسمع عن كثير من المفكرين، ظلوا يراجعون نتاجات لهم طوال سني أعمارهم.
أما «السماع فيتم بالضرورة عبر صلة شخصية بالمتكلم. فيسمح للسامع بملاحظة طائفة من المؤثرات اللفظية والصوتية والحركية والتشويرية والإيمائية التي يضفيها المحدث على حديثه. وذلك عبر حركات الوجه والحاجبين والأصابع وتقطيب الوجه وحدّة النظر وتأثير الصوت».
والثقافة الشفهية ليست باب معرفة مباشرة، وهي في جانب منها كذلك. تعرّفنا بعض تفاصيل الأحداث التي قد لا تستطيع الكتابة المسطورة، صحافة وكتباً أن تنشرها. ولكنّ المشافهة في الأساس، باب من أبواب دراسة الموروث الثقافي والديني، لدى الجماعة المتحدّثة. فالعرافة والكهــانة والتبصير والسحر وما أشبه، هي أشكال منوعة من ثقافة الكلمة اللفظية، وهي لا تقدّم على صعيد المعرفة، ولكنّها تقدّم على صعيد الدلالة الدينية والاجتماعية والثقافية.
5ـ حرب النخبة وذاكرة الجماعة
يعبر الأدب المكتوب أو الأدب الأنيق، كما يسميه الشيخ عبد الله العلايلي، عن الأحاسيس، ولكن ليس عن عفويتها. فما بين العفوية والأحاسيس المعلنة، تطور أسلوبي. من هنا كان التعبير الفرنسي جميلاً جداً، وهو أن الأسلوب هو الرجل.
أما الثقافة الشعبية فأهم ما فيها، أنها تعبر عن أعمق مفاعيل التطور الكامنة، بأكثر مما يعبر عنه الأدب الأنيق، الذي هو أدب افتعالي، إذ أنك تفتعل بعض مقوماته. لأنه يعرضها على العقل. «والعقل ثقافة رفيعة، وليس ثقافة عفوية كالثقافة الشعبية التي تعبر عن نداء التطور...».
يرسم هذا التحديد، حدود الفرق بين «داتا» الكتابة المنشورة والمسطورة، و«داتا» الذاكرة غير المنشورة أو غير المسطورة. لن ندخل هنا بالطبع في قراءة الفروق بينهما، نكتفي هنا بفرق وحيد يدخل في صلب بحثنا. فنحن عندما ندوّن الأحداث في رواية مكتوبة، ندونها أولاً كنخبة. وندونها ثانياً، وفق ما تمليه علينا عقائدنا وايدولوجياتنا واختباراتنا السياسية ومصالحنا، والتي نسعى إلى تكريسها جميعها كتاريخ «علمي» «موضوعي». وهو ما يلاحظه باحث مصيباً «والأرجح أن المؤتمن على هذا «السر» المسطّر، هو الذي كان مسيطراً بالتالي على مقدراتها (الجماعة) المعرفية... إذ من الممكن أن تكون «السيطرة» قد نشأت من هنا بالذات، أي بالاتصال مع الائتمان على «السطر» من خبرات الجماعة». ونحن نذهب أكثر من ذلك، إلى تأكيد العلاقة بين «السطر» الثقافي، و«السيطرة» الاجتماعية والسياسية، مع معرفتنا بعودة الكلمتين إلى جذر لغوي واحد. فالمسيطر في «الصحاح» هو «المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهّد أحواله ويكتب عمله. وأصله من السطر، لأن الكاتب مسـطرّ والذي يفعله مسطّر ومسيطر».
أخذنا بهذا الفرق الوحيد ما بين الكتابة والمشافهة، لأنه يصلنا إلى لبّ النظرة إلى الحرب ومفاعيلها الاجتماعية. فالفئات القائدة، أي مسؤولة الكتابة والرواية، ترى إلى الحرب تاريخاً كاملاً جديداً، أو مرحلة من تاريخ جديد، أو قابلة لتاريخ، أو قدراً محتوماً لازماً، أو طريقاً إلى عزة وكرامة، أو طريقاً إلى دولة، أي إلى حياة أكثر انتظاماً.
أما الرواية الشفهية، فهي من ناحية، باب الفئات الشعبية في تدوين تاريخها، وهي من ناحية ثانية، تروح هباءً منثوراً في فراغ صوتي، أو تبقى حبيسة الذاكرة تدور عليها اجتراراً ما دامت على تفكّرها وانفعالها.
6ـ كلمة الحق سبقت!
التاريخ الشفهي المنفعل المتطرف، هو خير معبر عن هيئة الاجتماع الإنساني المحلي. وأقصى التطرف في التاريخ الشفهي، يروي من أقصى الانفعال والمعرفة المباشرة. المصدر الفصل الحاسم مثلا، في التاريخ الاجتماعي وتاريخ الحياة الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية في لبنان، يؤخذ حالياً صحيحاً ناصعاً من أفواه السريلنكيات والأثيوبيات ومن الفليبينيات. ولم لا من بشر من مراتب قومية أوروبية، أي من مراتب «أعلى» من مرتبة تلك القوميات الآسيوية، والذي تذكّرنا كلمة الجاحظ قبل ما يزيد على الألف عام، ببعض من وجوهها حالياً: «عجبت لمن عرف الجواري كيف يُقْدِم على الحرائر».
وبما أن الذاكرة المستنفرة، تجدّ لإعادة إنتاج مشاهدة ذاتية ومعاناة داخلية، فإنها بهذا المعنى، تتولى دائماً تغليب الحاجات اليومية المباشرة البسيطة والبديهية. ومن فعلها هذا، تشكل الذاكرة مطعناً في مجالين اثنين: الأول، ويتمثل بالايدولوجيات والأطروحات والخطابات السياسية السائدة، والتي لا ترى في واقع ومباشرة البديهيات الآنفة، ما يستحق عناء الافتكار والاعتبار. أما مطعن المجال الثاني، فيتمثل بالتقسيم الاجتماعي ما بين نخبوية، بما تعنيه النخبوية من سلطات اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية أو سياسية، وما بين فئات شعبية، لا تملك من سلطات أعلاه، ما يعتد به أو يحسب له حساب. فقلق الذاكرة، قلق مصير. وبذلك تصير الذاكرة رابطاً عميقاً بين فئات المجتمع وشرائحه وهيئاته الحزبية.
والكائن البشري الذكيّر، أي الجيد الذكر والحفظ، يبقى دوماً طيّ المشكلة والموقف والمجابهة. فالإقامة على الذاكرة، تعني الإقامة على توتر وانفعال دائمين. وهذه أحوال جماعات لبنان ومتحداته، جماعات تقيم على قلقها وخوفها، وكأنها تقيم، ومن تحتها الريح، كما يصوّر المتنبي إقامته القلقة. ولا تنفعنا هنا، تخطئة هذه الجماعات غالباً، في توهمها وتخيلها وسوء ظنها وحسبانها لمدارات الأحوال. باعتبار أن قلق الذاكرة هذا، هو استجابة شرطية لطول معاناة، وطول إقامة مستديمة، على حدّ النزوح والحاجة والجوع والبرد، لا بل على حد الدم وحدّ الموت.
7ـ ولا غير الحرب سبيل!
تستهلك الحرب العمران، وتستهلك حيوات بعض البشر دفعة واحدة بالموت. وتستهلك حيوات آخرين بالمفرق على دفعات، عندما تجعل من أجسادهم عرضة لأمراض تستهلكها على غير موعد، ومن غير علّة أو سبب ممسوك. ومع ديمومتها، تصير الحرب وباء يصيب تاريخ الجماعة و ذاكرتها.
فالحرب المستديمة ليس لها ماض، لها زمن راهن وحسب. على ذلك نحن نعيش الحرب ولا نتذكرها. أو، لا نتذكّر غير اشياء عيشنا المباشر. عنترة وحده في الحرب يتذكر عبلة، ووحده لا يفرّق في تلك اللحظة، بين لمعة سيوف الأعداء وبارق ثغر عبلة ولمى شفتيها. لم تكن هذه حالة الأم الفلسطينية المسكينة، التي لم تفرق بين المخدة وابنها الصغير يوم هربت تحمله ـ تحملها من قوات الهاغانا. ولم تكن هذه حالة ابنة ابن خالي، وقد نسيت أولادها في باص أقلها من بلدتها إلى مكان آمن. نسيتهم بعد ذهول أيام قصف طويلة بلياليها أثناء عدوان تموز الأخير.
ولا شك في أن الحرب، وان مستديمة، تعرف استراحات وانقطاعات. ولكن، وأثناء ذلك، يدور السلم الأهلي بين الأطراف فاتراً أو بارداً. ولكنها تبقى حرباً في كل الأحوال. لذلك نسمح لأنفسنا بالقول: كم هي مشحونة ذاكرتنا الجماعية بالحروب، حتى باتت هذه الذاكرة ممتلئة، بأنصبة كافية من الويلات على أنواعها. وإذا ما كانت ذاكرات القادة والأحزاب ممتلئة من هذه الحروب، بحسابات ومعادلات في السياسة والغلبة والقوة، فإن ذاكرات الجماعات الشعبية، تكون مشحونة بمعاناة قاسية منها، وأحاسيس مضادة تجاهها.
8ـ أسماء على غير مسميات
لقد قاد تبدّل نواحي السياسة والاجتماع والاقتصاد في لبنان، مع الحرب حارة حيناً، وباردة، من بعد، أحياناً، إلى تبدل العديد من تسميات ومعالم، من تراثات هذا الوطن. كذلك قاد تصارع أطراف الحرب اللبنانية، إلى تبادل السيطرة السياسية والعسكرية في مناطق لبنانية عديدة. كانت هذه السيطرة تقود، الى تغيير ما كان التغيير السابق نفسه قد أحدثه. وهنا نستعيد التعبير الشعبي: كلما قامت أمة لعنت أختها. وهكذا أضيف عبث الاقتصاد والسياسة والاجتماع في ذاكرة الوطن وتراثه، إلى عبث الحرب ودماراته. بات العبث بالتراث وبالذاكرة مركباً. وهذا العبث في تغييب الأسماء، أي تغييب بعض التراث والذاكرة، يجد سُعفة وتسهيلاً في لا مبالاة الجماعة الأهلية وعدم اكتراثها. أو يجد سُعفة في احتضان الجمهرة الشعبية لهذا الفــعل التشويهي، فتجعل له وكالة حتى على وسع الــتراث وعلى عمق الذاكرة.
والأسماء هنا، كل اسماء الاشياء، ليست أسماء وحسب إنها أفكار. «أي أنها ليست مجرد صور أو مرايا، بقدر ما هي استراتيجيات معرفية لفهم العالم والتعاطي معه. بهذا المعنى كل فكرة هي عبارة عن قراءة لتفسير واقع أو تأويل حدث، أو صرف لفظ، أو شرح ظاهر. أو تحليل تجربة، أو فك شيفرة، أو تفكيك بنية، أو صوغ مشكلة، أو معالجة قضية أو تحويل علاقة أو ترتيب صلة».
فالأسماء الأم الأصلية الطبيعية، هي مفاصل تنعقد عندها أحداث أو حتى مراحل تاريخه، وهي في جوهرها ذكريات، تشكل صلب هوية للاجتماع الانساني في منطقة أو مدينة معينة، كما تمنح شخصيةً وطابعاً للفرد في آنٍ معاً.
إن معنى الاسم، واضحاً أو غامضاً، وقصة منشئه ووجوده، سليمة كانت أم غير سليمة، كلها أمور ترتبط بجوهر عمليات الذاكرة، ولا يهم ما إذا كانت هذه الذكريات طيبة أم سيئة.
وتستوقفنا هنا، المعالجة الفذة التي طرحها فنانان روسيان، لما دار في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، من ضرورة نبش لينين من قبره وساحته الحمراء في موسكو. يقول الفنانان في هذا الصدد: «إن أي مجهود اليوم لإنقاذ نصب روسيا الواقعية الاشتراكية من الدمار سينظر إليه بالتأكيد على أنه محاولة للحفاظ على تقليد شمولي. ونحن لا نقترح عبادة هذه النصب ولا إعدامها، بل التعاون معها تعاونا خلاّقاً - تركها في أماكنها وتحويلها، من خلال الفن، الى دروس في التاريخ... لقد وفر القدر فرصة فريدة: نستطيع أن نحوّل موسكو الى حديقة من الفن «ما بعد الشمولي زاخرة بخداع البصر. وسيكون من المؤسف تفويت هذه الفرصة التي أخذت تمر بالفعل... وأكثر النصب أهمية عندنا هو ضريح لينين. نحن نقترح إضافة ثلاثة حروف فقط «يّة» ISM الى اسم القائد. وبذلك ننقذ هذه التحفة الفنية من القرن العشرين ونحوّلها الى القبر الرمزي للنظرية والممارسة اللينينيّتين. وربما أمكن السماح لطيور البشروس الوردية بالتسكّع حول المنصّة التي كان القادة فيما مضى يحيّون الشعب منها في العطل الرسمية.
وبعد
تحمل الذاكرة عن الحرب الأهلية، ظلامات الحرب وويلاتها، المباشرة منها أو البعيدة المحصول والأثر. تدوم الحرب في حياتنا. في فؤلنا وشؤمنا، في صخبنا وسكوننا، في حراكنا وتيبّسنا. كل الحرب مودعة هنا، وفي الموقع الأوطأ من الذاكرة. والمواطن نفسه بات مقسّما ما بين ذاكرته وإقامته، وبات أكثر بعداً عن خبزه وعن ملحه وعن أغانيه، أي عن أشياء حياته، وقد انسحبت من تاريخه الخاص. هذا التاريخ الذي راحت تعسّ فيه، وتستملكه بهدوء مريب، نكهة أوطان الهجرة أو النزوح أو اللجوء أو السكن الجديدة. أضرب على ما أريد قوله، مثلا عن «أم محسن» في أميركا، أم محسن العجوز التي طالما تفكر في بلدتها بنت جبيل، وتقول: «سأكتب وصيتي. إنني أريد أن أدفن في بنت جبيل». ويعلّق ابنها، وقد صار أغلب أهالي بنت جبيل في أميركا «أرجو أن توضحي يا أمي، أي بنت جبيل تقصدين. بنت جبيل هنا أم هنالك في لبنان».
ونحن بدورنا نقول لأم محسن، ومن غصص الذاكرة وذمّة التاريخ الشفهي:
وإنّ غداً، وإن اليومَ، رهنٌ
وبعد غدٍ، بما لا تعلمينا

منذر جابر

المصدر: السفر

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...