عصر امبراطورية "أوپيك" أم عصر أمبراطورية بيلدِربيرچ"؟..

03-11-2007

عصر امبراطورية "أوپيك" أم عصر أمبراطورية بيلدِربيرچ"؟..

الجمل- غـازي أبـو عقـل:  قراءة ما كتبه الأستاذ عيد بن مسعود الجهني في "الحياة" يوم 27 تشرين الأول اكتوبر 2007، تثير الحيرة والدهشة معاً. فالكاتب بحكم كونه "رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية" ضليع في الشأن الذي يعالجه، ولا بدَّ من قبول عرضه لتقلبات أسعار النفط منذ تأسيس "أوپيك" في 1960. أما العوامل الفعلية المحركّة لتلك التقلبات فهي غائبة عن البحث لأنها ليست من أهدافه، ربما.
لن أتوقف إلا عند الفقرة التي جاءت في مطلع البحث التي توضح أن أسعار النفط: "بقيتْ تراوح مكانها منذ تأسيس أوپيك حتى حزيران يونيو 1973. لأن الشركات النفطية مدعومة بدولها الصناعية حاصرتْ أوپيك ردحاً طويلاً من الزمن في ميدان الاحتكار الخبيث"! لا يشرح الباحث أسباب تلك المراوحة ودوافع الحصار، لكنه أضاف هذه السطور المحيّرة: "واستمرتْ المياه شديدة الركود حتى هَبَّتْ عاصفة تشرين الأول اكتوبر 1973 وقُطعتْ إمدادات النفط عن الدول التي وقفت مع إسرائيل، وفي مقدّمها أمريكا، فكانت تلك الحرب الشعلة التي أضاءت الطريق لـ "الأوپيك" لتأخذ زمام المبادرة في ميدان سوق النفط العالمية فارتفع سعر النفط باضطراد إلى أن بلغ أكثر من ثلاثة عشر دولاراً للبرميل في تموز يوليو 1977"...
تضمَّنَت هذه الفقرةُ "المفتاحية" معلومات لا تعترف بدقَّتها الوقائع التي أصبحت اليوم في متناول الباحثين وغيرهم، بعد انصرام أكثر من ثلاثة عقود على "الحرب الشعلة التي أضاءت"، كما قال الأستاذ الجهني.
أليس من المفيد أن نعرف لماذا استمرت المياه شديدة الركود من 1960 إلى 1973؟ وأن نُحدّد بالضبط من هو الذي أوقَد تلك الشعلة؟ وهل قُطع النفط فعلاً عن الدول التي وَقَفتْ مع إسرائيل وفي مُقدّمتها أمريكا؟...
لعل قراءة كتاب واحد بهذا الشأن تكفي لتقدم لنا أجوبة عن هذه الأسئلة وعن سِواها، ففي العام 1993 كتبَ ف. و. إينچدال "قَرن من الحرب"(1) قدَّم فيه عرضاً مُكَثَّفاً مُؤثَّقاً لتاريخ الحقبة النفطية منذ بدايتها، هذه الحقبة التي مازالت تعيش أياماً طافحة بالمليارات من جهة وبالمآسي من جهة أخرى.
سأكتفي بالوقوف عند نحو عشر صفحات من الكتاب للاستفادة مما جاء فيها من معلومات تناقض جذرياً ما ذهب إليه الأستاذ الجهني في بحثه عن عصر امبراطورية أوپيك "الذهبي"...
عالج إينچدال مسألة مَن يتحكم فعلاً بأسعار النفط، ودور الحرب الشعلة التي أضاءت في 1973، وألقى ضوءاً على قَطْع النفط عمَّن وقف أو لم يقف مع إسرائيل. جاءت معالجته مركَّزة – موجعة – في الصفحات 180 إلى 190 من الترجمة العربية.
وضعَ إينچدال ثلاثة عناوين فرعية من عناوين الفصل التاسع من كتابه لشرح تلك المسائل المهمة، أولها:
اجتماع استثنائي في سالتسيوبادن:
يُذَكِّرنا المؤلف بخطة وضعها رئيس الولايات المتحدة نيكسون في أواسط آب أغسطس 1971 من أجل تقوية الدولار الذي انخفضت قيمته بنسبة كبيرة، هذه الخطة كانت نقطة الانطلاق، حيث بدأت آثارها بالظهور في أيار مايو 1973، عندما اجتمع أربعة وثمانون شخصاً من كبار المُطَّلعين على دخائل الأمور المالية والسياسية في منتجع Saltsjobaden وهي جزيرة منعزلة في السويد تملكها أسرة ڤالِّنبرج Vallenburg المصرفية حيث استمع المجتمعون إلى وولتر ليڤي وهو يشرح "سيناريو" لزيادة عائدات نفط "منظمة الدول المنتجة للنفط والمصدرة له" بزيادة ثمن البرميل بنسبة أربعمئة بالمئة...
نجد في نهاية كتاب إينچدال ملحقاً تَضَمَّنَ أسماء الذين حضروا ذلك الاجتماع المنعقد بين الحادي عشر والثالث عشر من أيار مايو 1973، ليس بينهم أي واحد من أبناء آدم المنتمين إلى مجموعة "أوپيك" ولو اتسع المجال لنقلتُ أسماء الحاضرين ومنهم من بني روتشيلد وبني ليڤي دون بني قحطان وعدنان، الذين كانوا منهمكين – ربما – بالاستعداد سراً لعاصفة اكتوبر، من غرف العمليات في مونت كارلو أو لاس ڤيچاس، لأن تجهيزات ماربيا ما كانت قد اكتملت بعد، وذلك إمعاناً في خداع بني إسرائيل، وتمهيداً لصنع "المفاجأة الاستراتيجية" التي مازال كَتَبةُ آخر زمن يصدعون رؤوسنا بأهميتها التاريخية.
لن آتي بجديد إذا نقلتُ عن إينچدال تذكيرَه بأن السادة المجتمعين في الجزيرة السويدية ينتمون إلى مجموعة بيلدربيرج – لا إلى أوپيك – التي يعود إنشاؤها إلى شهر أيار مايو 1954، من أشخاص ذوي أهمية "ويحبون الإنكليز"، اختاروا مكاناً لاجتماعهم الأول فندقَ بيلدبيرج قرب مدينة آرنهايم الهولندية.
[يعرف هواة التاريخ العسكري هذه المدينة لأنها كانت مسرحاً لكارثة أصابت المظليين الأمريكيين والبريطانيين والكنديين الذين قفزوا في ضواحيها في أيلول سبتمبر 1944 لفتح الطريق إلى شمال ألمانيا أمام الحلفاء الزاحفين من شواطيء فرانسا، وكان لهم الألمان بالمرصاد.].
ضمَّت مجموعة بيلدبيرچ، ومازالت تضم، كبار نخبة الغرب، للتداول في جلسات سرية حول رسم السياسات البعيدة المدى، من أجل تأمين مصالحهم في هذا العالم المضطرب. يكتب إينچدال في الصفحة 182: "وفي سنة 1973 قرر الرجال الأقوياء – البيلدربيرجيون – شَنَّ هجوم واسع على النموّ الصناعي في العالم من أجل إعادة توازن القوى لخير المصالح المالية الأنكلوأمريكية، فقرروا كي ينجزوا ذلك استخدام أثمن أسلحتهم... أي الهيمنة على تدفقات النفط في العالم. وكانت سياستهم تقوم على خلق حظر نفطي عالمي من أجل إحداث زيادات جذرية في أسعار النفط"...

صدمة كيسّـنجر النفطية في حرب تشرين اكتوبر:
نعرف من هذا العنوان الفرعي اسم مُضرِم "الحرب الشعلة التي أضاءت" مستغلاً الظروف الموضوعية السائدة، وأنقل عن إينچدال: "في السادس من تشرين الأول [الثاني في الترجمة العربية] هاجمت القوات المصرية والسورية إسرائيل مشعلةً ما أصبح يُعرف بالحرب التشرينية أو حرب يوم الغفران اليهودي. وعلى خلاف الانطباع العام لم تكن هذه الحرب نتيجة خطأ بسيط في التقدير أو الحساب، أو خطأ فاضح أو قرار عربي بتوجيه ضربة عسكرية ضد إسرائيل. فمجموعة الأحداث التي أحاطت اندلاع حرب تشرين قد نُسِّقَت سراً من واشنطن ولندن عن طريق استخدام القنوات السرية الدبلوماسية التي طوَّرها هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون. [ ... ] وكانت الدول العربية المنتجة للنفط ستغدو كبش الفداء للسخط العالمي، بينما وقفت المصالح الأنجلوأميريكة المسؤولة عن الأزمة في الخلف... وفي منتصف تشرين الأول 1973، أخبرتْ حكومةُ ويلي براندت الألمانية سفير الولايات المتحدة في بون أن ألمانيا تقف على الحياد في نزاع الشرق الأوسط، وأنها لن تسمح للولايات المتحدة بإعادة إمداد إسرائيل من القواعد العسكرية الأميركية في ألمانيا. فوجَّه نيكسون في الشهر نفسه إلى براندت رسالة احتجاج حادة اللهجة...
لقد رفضتْ واشنطن السماح لألمانيا بإعلان حيادها في نزاع الشرق الأوسط، ولكن من الأمور ذات الدلالة أنها سَمحت لبريطانيا أن تُعلن إعلاناً واضحاً عن حيادها فتجنَّبت بذلك تأثير حظر النفط العربي. إذ أن لندن ناورت ببراعة والتفَّتْ حول أزمة دولية كانت هي ممن عجَّل بحدوثها. وقد كانت إحدى نتائج زيادة 400% في أسعار نفط أوپيك أن شركة البترول اللبريطانية B.P وشركة شلّ الهولاندية الملكية وشركات نفطية أنكلوأمريكية أخرى، لها استثمارات بمئات ملايين الدولارات في بحر الشمال المحفوف بالمخاطر، لم تكن لتعطي لولا تلك الزيادة أرباحاً مجزية. فمن الحقائق العجيبة في هذا الزمن أن ربحية حقول نفط بحر الشمال الجديدة ما كانت لتتم إلا حين حدثت صدمة كيسنجر النفطية...".
هنالك تفاصيل أكثر "بشاعة" للقاريء العربي في صفحات صدمة كيسنجر النفطية أتجاوزها عامداً، إلا أن الطريف ما جاء في الصفحة 184: "لقد أعلنت المملكة العربية السعودية والكويت والعراق وليبيا وأبو ظبي وقطر والجزائر في السابع عشر من تشرين ألأول اكتوبر 1973، عن تخفيض إنتاجها خمسة بالمئة في كل شهر إلى أن يتم الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة في حزيران 1967 واستعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، لقد كانت صدمة النفط الأولى أو "شكوكو" كما يدعوها اليابانيون تأخذ مجراها...".
نحن اليوم في تشرين الأول اكتوبر 2007، وإنتاج النفط يتزايد حتى تجاوز الثلاثين مليون برميل يومياً، وتسجّل أسعاره كل يوم زيادة لم يسبق لها مثيل، والأرض المحتلة في 1967 وحقوق شعب فلسطين كما نرى، لذلك استأذن اليابانيين لاستعادة كلمة "شكوكو" التي لا أعرف معناها باليابانية، التي تُذَكّرني بذلك "المونولوجيست" المصري الخفيف الظل الذي اشتهر في خمسينات القرن الماضي – محمود شكوكو – وهو يغني محاولاً إقناع ليلى مراد في واحد من أفلامها بالزواج منه لأنه "بنى من الفول والطعمية أربع عمارات" ومازلت لم أنس مطلع تلك الأغنية "من حرقة قلبي ونار قلبي"... أليست هي ما نشعر به حين نقرأ بحوث مراكز الدراسات "الاستراتيجية" العربية ونضاهيها بما يُكتب في بلدان أخرى تصنع الاستراتيجيات ولا تتحدث عنها كما في خيالاتها وتصوراتها. مع ذلك لم يُخطيء الأستاذ الجهني التوفيقُ عندما كتب في ختام بحثه عن الارتفاع الحالي لأسعار النفط وتدهور سعر صرف الدولار الأميركي والتضخم السائد ليخرج: "بمحصّلة نتيجتها أن القيمة الفعلية للأسعار تبقى دون المستوى الذي بلغَتْه في نيسان ابريل 1981 عندما كان سعر البرميل 40 دولاراً. ولكي تحقق الدول المنتجة ما يعادل أربعين دولاراً من دولارات 1981 فلا بد من أن يبلغ سعر البرميل اليوم مائة دولار"... هذه رؤية واضحة بلا شك، ويا حبذا لو أضاف إليها ما يَنشره "الممسكون بزمام المبادرة في سوق النفط العالمي"، ومن ذلك ما كتبه جوزف واتسون الأميركي المتابع لهذه المسألة حين أشار إلى أن: "مترنيخ النفط" هنري كيسنجر عضو جماعة بيلدبيرج، ودَيْدَنُها الأساسي العمل بكل الطرق على زيادة أسعار النفط لتحطيم بعض الطبقات المُنهَكة والفاشلة عالمياً، والسعي إلى تحقيق الثورة الثانية ما بعد الصناعية [ ... ] قد اجتمعت في اوتاوا كندا العام الفائت 2006 وقررت ضمن توصيات كيسنجر وخوسيه باروسو أن يزداد سعر البرميل حوالي مئة دولار في نهاية 2008 [إعادة غزو العراق: نحن هنا لأن النفط هنا – طارق الدليمي السفير 13/10/2007]. كيف يمكن النظر إلى: "عصر امبراطورية أوپيك الذهبي" على ضوء ما تقدم كله؟ بصرف النظر عن لعبة المصارف الأنجلوأميريكية في إعادة تدوير عائدات أوپيك نفسها. وأين أخذ زمام المبادرة في ميدان سوق لنفط العالمية، وعاصفة اكتوبر 1973 وقطع النفط عن الذين وقفوا إلى جانب إسرائيل؟
نقلَ طارق الدليمي عن پول وايزمن في كاونتربنتش – 19/9/2007 - : "أن هنري كيسنجر قد أشار إلى أهمية عدم التسرّع في الخروج من العراق، ويجب إفهام إيران بوضوح بأن المفاوضات الثنائية معها عير مقبولة، وأن الحديث الشفاف حول الصراع على النفط هو الصحيح وليس الخلاف حول النشاطات النووية لإيران"...
"في البدء كان الكلمة" أيام كان النفط في جوف الكوكب السارح في الفضاء. واليوم وقد أُطلق المارد من القمقم هل سيقول قائل "في الختام كان النفط"؟ تمنيت لو أن الأستاذ الجهني قد اطلع على أرجوزة طريفة كتبها استاذنا الراحل صدقي اسماعيل في صحيفته النادرة "الكلب" – عدد كانون الأول ديسمبر 1970 - : بدأها بقوله: ما عادت الأحداثُ شيئاً خافياً فكُلُّها تصنَعُها الجغرافيا... ليختتمها بهذه الحكمة التي لم تكن نتيجة دراسات استراتيجية بل حصيلة وضوح "رؤيا" لا رؤية فحسب:

وانظُرْ إلى أوضاعنا بالضبطِ
  من تَحتِنا تَجِدْ عُروقَ النفطِ...


يدرك الباحثون الاستراتيجيون العرب أهمية النفط بلا ريب، ولكنهم لا يقولون لنا لماذا يُمسك غيرنا زمام المبادرة في كل ما يتصل به، مع أن الإجابة الحاسمة موجودة في كلمة واحدة...

* (1) وليام إينچدال: "مائة عام من الحرب" – السياسة النفطية الأمريكية الإنكليزية والنظام العالمي الجديد. ترجمة: محمود فلاّحة – الناشر: دار طلاس – دمشق 1996 – عنوان الكتاب بالإنكليزية:
F. William ENGDHAL: A Century of War – Anglo-Americain Politics Oil and the New World Order – Dr. Bötter Verlags – GMBH – 1993.

خاص الجمل

مقالات أخرى للكاتب:

غازي أبو عقل: مَن أُصَدِّقُ.. مناحم بيجن أم جهاد الخازن ؟

غازي أبو عقل : نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (1 من 4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (2-4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (3-4)

غازي أبو عقل: نقد "النقد الذاتي بعد الهزيمة" (4-4)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...