محمد دكروب: أغمض عينيه على الحكاية

25-10-2013

محمد دكروب: أغمض عينيه على الحكاية

محمد دكروب: أغمض عينيه على الحكاية
لم يبذل محمد دكروب جهداً كي يكون مع الشعب، فهو ابن الشعب في كل ما فعل وقال وقرأ وكتب. ابن الشعب بحرَفيّته في التعاطي مع الكتابة والتفكير، في تعامله مع الشأن الابداعي، وجمعه بين السياسي والثقافي بعيداً من الجدانوفيّة. بعقلانيّته، وقدرته على الانفتاح والنقد والحوار. ابن الشعب في اجتهاده وبحثه الدائمين، هو الماركسي العارف أن المطلق نسبيّ بامتياز. ابن الشعب بستراته الداكنة البسيطة، بنظارتيه السميكتين لكثرة ما حاول أن يفهم العالم من أجل تغييره، بوعيه الجدلي وقدرته على الاصغاء المهذّب، والسجال الهادئ، واحترام الاختلاف.

ببسمته الطيبة السخيّة، وأسنان تحمل دمغة البروليتاريا. بالبيريه المستعارة من غافروش، صبي فيكتور هوغو السارح بين متاريس كومونة باريس يغنّي للثورة. بلهجته العابقة بزمن كان هناك عاصمة عربية اسمها بيروت، وفي المدينة فضاء عام يتسع للأحزاب والتيّارات والمشاريع والحركات الفنيّة، وفي الفضاء العام شوارع، وفي الشوارع ناس تحلم بالتقدّم والتغيير. تلك اللهجة المنمّقة الواضحة، تطعّمت مع الوقت بلغة المثقفين الذين اصطفوه شيخهم وقدوتهم. دكروب ابن الشعب بشبابه الدائم وانشغاله بالجيل الجديد والتجارب البديلة. ابن الشعب بوفائه للأفكار الكبرى، حين انفضّ عنها كثيرون تعباً أو يأساً أو استلاباً، أو غلبهم في النهاية «الوباء» الذي لم يتلقّحوا ضدّه جيّداً. ابن الشعب شيوعي حتى الرمق الأخير، فيما انصرف بعض الرفاق إلى مساوماتهم الصغيرة، ما إن بدا لهم أن رياح التاريخ غيّرت اتجاهها. مناضل منفتح على العالم، لم يعزله انتماؤه الحزبي في «طائفة» جديدة، ولم تحجب بصيرته غشاوة التزمّت الأيديولوجي… بل اشتغل على اعادة النظر بالدوغما، خارجاً إلى غير رجعة من دائرة العصبيّات العقيمة، والأصوليّات القاتلة.
حياة محمد دكروب على مستوى السيرة الشخصيّة والعامة، والصيرورة الفكريّة، والانتاج الأدبي، والبحث النقدي، والنضال الثقافي، والمعيوش الفكري، تصلح مادة لعمل أدبي أو سينمائي، لأنّها تختصر حكاية جيل مؤسس، وحكاية بلد، وحكاية مُثل سياسيّة كم نحتاج اليوم إلى استيحائها. حارس «السنديانة الحمراء» خير تجسيد لمفهوم «المثقّف العضوي»، لم يتنكّر لحظة لأصوله وطبقته، وقد عاش عمره متماهياً معها، مشتغلاً بأدواتها، معتنقاً قضاياها، مدافعاً عن حقوقها ومصالحها. لم يستسلم يوماً لامتيازات «المثقفين». كدنا ننسى كل شيء عن أبناء الشعب، عن الفقراء والمحرومين وضحايا الاستغلال، عن المساواة والحقوق. «تلك أضغاث أيديولوجية من زمن مضى»، برأي الراقصين على قبورهم، المتسابقين على الامتيازات و«الخيانات» القوميّة والطبقيّة، المتسلّقين على أنقاض المجتمع المدني، الباحثين عن الارتقاء على حساب القيم الانسانيّة، والمصالح الوطنيّة، وكل ما هو أساسي كي يحتفظ الانسان بإنسانيّته وكرامته. بوصلة محمد دكروب لم تضع يوماً جهة الجنوب. لم يغرق في وحول السياسة اللبنانيّة، ولم يقع في مطبّ «العلمانيّة الشيك»، ولم يتردد في الوقوف إلى جانب المقاومة الاسلاميّة في هذه المعركة المصيريّة ضدّ الاستعمار التي يشهدها العالم العربي.
الرفيق دكروب من زمن آخر، من طينة «جان دارك قديسة المسالخ» كما صوّرها برتولت بريخت. فهم أن تحقيق التقدّم والعدالة ثمرة جهد حقيقي وعمل دؤوب، ورحلة طويلة النفس، لا تعبأ بالموضة، ولا تتأثّر بالتحولات الموقتة والمطبات العابرة. «لا يكفي أن يكون الله مع الفقراء»، فاعتناق القضيّة، يقتضي نكران الذات والجرأة على التمرّد والتجديد وكسر القوالب. محمد دكروب أيقونة الزمن السعيد، لكنّه ليس «دقّة قديمة» كما يظنّ أنبياء الليبراليّة. زمن طغيان الفرديّة، وعودة الاصوليّات، وموت الايديولوجيات، لا يغيّر شيئاً، بل بالعكس. هذا المثقف العصامي الذي بدأ حياته سمكريّاً، باق بيننا في الخندق، خلال السنوات المقبلة، حين سيكون على العرب أن يختاروا بين الارتماء على قارعة التاريخ، أو بناء دولة المواطن. الثوار المتشائمون سيتّخذون «تفاؤله الثوري» تعويذة وترياقاً، وسيكون معهم في معارك الحقوق والنضالات الاجتماعيّة والوطنيّة والقوميّة.
اليوم نقف بخشوع أمام النعش المكسو براية الكادحين. ونقول: انتهت مهمّتك أيّها الرفيق، ها قد صرت فرعاً في تلك السنديانة الحمراء.
بيار أبي صعب

الشغّيل الذي حرّر النقد من «الواقعيــة الاشتراكية»
مات محمد دكروب (1929 ــ 2013) أمس. مات شيخ الشباب والكاتب والناقد العصاميّ الذي ثقَّف نفسَه بنفسه. الفتى الذي ترك المدرسة باكراً كي يساعد والده في دكان الفول، ثم في العمل سمكرياً وبياعاً للترمس والورد، لم ينقطع عن شغفه بالقراءة والذهاب إلى صالات السينما في صور. من المدينة الجنوبية، أخذه الراحل حسين مروة إلى دكان لبيع الورق في بيروت، وعرّفه على قادة الحزب الشيوعي اللبناني، وعلى العديد من كتّاب ومثقفي العاصمة.

من تلك العجينة الحياتية والذاتية والماركسية، بدأ دكروب بكتابة قصص واقعية مخلوطة برومانسية تحاكي قراءاته في تلك الفترة من خمسينيات القرن الماضي. المجلات المصرية (وخصوصاً مجلة «الكاتب المصري» التي كان يصدرها طه حسين) والكتب الماركسية لاحقاً، جعلت تلك القراءات تبدأ باكتساب طبقات فكرية وثقافية وسياسية. التأثير المصري، وأثر عميد الأدب العربي بالتحديد، صنعا جانباً أساسياً في مسيرة دكروب، بينما قربه من الحزب الشيوعي اللبناني، ومن صحافة الحزب ومثقفيه صنع الجانب الآخر.
هكذا، ظل الشيخ الثمانيني مديناً لهذه التربية التي تطورت وانعطفت داخل محيطها نفسه وفي جوارها القريب. تربيةٌ يمكن القول إنها منحته انتماءً نهضوياً وتنويرياً، وجعلت جهوده النقدية والثقافية جزءاً مستقبلياً بمفعول رجعي من تراث مفكري النهضة في نهاية القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين.
صاحب «جذور السنديانة الحمراء» هو بالولادة سليل المدرسة اللبنانية التي ضمت بطرس البستاني واليازجي والشدياق، ثم توفيق يوسف عواد ورئيف خوري والعلايلي وحسين مروة وغيرهم. وهو بالميول الثقافية، سليل المدرسة المصرية التي ضمت طه حسين وسلامة موسى ويحيى حقي ويوسف إدريس وغيرهم. لقد استأنف دكروب مناخات هاتين السلالتين، وظلت مقالاته وممارساته النقدية تغرف من الاحتياطي الذهبي لتلك الحقبة النهضوية ومنجزات كتّابها ونبراتهم وأفكارهم التقدمية. عمله في مجلة «الثقافة الوطنية» (1952 ـــ 1959)، ثم في مجلة «الطريق» (تأسست عام 1941) التي ارتبط اسمها باسمه حتى رحيله، كان استمراراً لتلك التربية النهضوية من خلال علاقته بالأجيال اليسارية والتنويرية التي جاءت لاحقاً، والتي تدين بالكثير لـ «الطريق» وثقافة «الطريق» وسياسة دكروب في تحرير المجلة، التي كان يقول إنها «خليّته الحزبية» التي فضّلها على الاجتماعات التنظيمية.
اخترع محمد دكروب نصه النقدي ومزاجه في الكتابة. ومثلما كان «شيوعياً على طريقته»، كان ناقداً على طريقته أيضاً. صحيحٌ أن الميول الماركسية واليسارية ظلت تلمع في الفناء الخلفي لممارسته النقدية، إلا أن ذلك كان جزءاً من كتابة طيِّعة تنفر من التنظير البارد، وتحاول أن تتحرر من التعسّف الذي التصق بالواقعية الاشتراكية في طبعتها السوفياتية. كتابةٌ تنطلق من عناصر وجزئيات واقعية وأدبية وحياتية يجدها (أو يكتشفها ويطوّرها) في النصوص والمؤلفات التي كتب عنها، وفي حياة وسِيَر وأفكار أصحاب تلك المؤلفات. بهذا المعنى، كان دكروب راوياً وحكواتياً بارعاً في النقد، وصاحب «سرديات نقدية» كما وصفته الناقدة يمنى العيد، وكان في شغله شيءٌ من «السمكرة» التي اشتغلها في صباه كما قال عنه الراحل عبد الرحمن منيف. كان دكروب يصنع نوعاً من «الصحبة» مع الكتب والشخصيات التي يتناولها، ويصنع «صحبة» موازية مع القارئ أيضاً. كانت الكتابة عن الآخرين تتجاوز النقد إلى نسج بورتريهات تحضر فيها نصوص ومنجزات هؤلاء إلى جوار وقائع وتفاصيل من الزمن الذي عاشوا فيه، ومن صداقاتهم وتأثراتهم بغيرهم، ومن أسرار وأخبار كان دكروب نفسه شاهداً عليها. بورتريهات تحتمل السرد والحوار والفلاش باك والعودة مجدداً إلى السياق، ومزج ذلك كله بالتوثيق التاريخي والاقتباسات. كأن دكروب كان يعوّض توقفه الإرادي عن كتابة القصة القصيرة بعد صدور مجموعته اليتيمة «الشارع الطويل» (1954)، بتسريب موهبته المطويّة إلى مقالاته وكتاباته النقدية، ومنحها مذاقاً قصصياً وروائياً، مازجاً ذلك بالـ «الإمتاع والمؤانسة» بحسب عنوان كتاب أبي حيان التوحيدي. لقد حصَّل دكروب ثروته النقدية من القراءة ومن الخبرة الحياتية وصداقات مجايليه من المثقفين والمفكرين. ولعل الصداقة هي البطلة الخفية في أعماله، وخصوصاً في كتابيه «شخصيات وأدوار في الثقافة العربية» (1981)، و«وجوه لا تموت» (1999 ــ دار الفارابي). صداقةٌ مؤلفة من الكلمة والموقف والحلم بتغيير العالم والواقع. أغلب هؤلاء الحالمين الذين كتب عنهم دكروب رحلوا قبله، تاركين لديه حكايات معروفة وأسراراً مجهولة. بطريقة ما، يمكننا الحديث عن «شجرة دكروبية» مكونة من أسماء الكتاب والمفكرين والمناضلين الذين عرفهم أو قرأ لهم، إضافةً إلى الذين كتبوا في «الطريق». شجرةٌ يمكن أن تشبه تلك «السنديانة الحمراء» التي أرّخ فيها دكروب لنشأة الحزب الشيوعي اللبناني، لكنها شجرة بثمار مختلفة ومتعددة باختلاف هويات تلك الأسماء الموزعة على خريطة الوطن العربي كلها. شجرةٌ كان دكروب سعيداً بعودة حاضنتها إلى الصدور مجدداً بعد توقفها سنوات. كانت «الطريق» بيته وحلمه و«رفيقة دربه» تقريباً. انشغاله بإعادتها إلى الحياة كان يؤخر مشاريعه المؤجلة أصلاً. في لقاءاتنا الأخيرة معه، كان يتحدث عن وجود خمسة كتب مخطوطة لديه، لكنها تحتاج إلى رتوش وترتيبات بسيطة لتصبح جاهزة للنشر، منها كتاب «على هامش سيرة طه حسين»، الذي نأمل ألّا يتأخر نشره، مع كتبه الأخرى، بعد غيابه.
رحل ابن «الثقافة الوطنية» الذي تربى على فكر النهضة والماركسية، لكنه انضم إلى «وجوه لا تموت». لقد عاش برفقتهم طويلاً في الكتابة، وها هو في صورة نتخيلها بالأبيض والأسود يأخذ مكانه بينهم على مقعد الغياب الفسيح.
حسين بن حمزة


عاش طفلاً ومات طفلاً: الطريق إلى «الطريق»
قال حسين مروة في حواره المشوّق مع عباس بيضون إنّه ولد شيخاً ويموت طفلاً. مات أبو نزار طفلاً وهو يتلقى الرصاص في بيته. أما تلميذه محمد دكروب، فلم يبرح الطفولة مطلقاً، فعاش طفلاً ومات كما يموت الأطفال.
لا أدري لماذا أتى هذا السمكري من صور الى مجلة «الطريق» مصاباً بلوثة الكلمات. اكتشفه أنطون تابت عندما قرأ قصته القصيرة عن الفتى الذي يشعر بالبرد والجوع، فيسمع من خلال باب أحد البيوت صوت بيضة تقلى على النار، فيتدفأ بالصوت، ويشبع من أصدائه التي تغلغلت في روحه.

أتى به مؤسس «الطريق» الى المجلة، كي يكون دكروب أول مولود على يد هذه القابلة الأدبية التي أغنت الثقافة اللبنانية والعربية بروافدها التي لا تنضب. إنه الابن البكر الذي صار رئيساً للتحرير من دون أن يفقد شعوره بالبنوة. كان رئيس نفسه ومرؤوسها في آن. كان الكاتب والقارئ والمصحح والعامل. يشتغل كحرفي لا يرتاح، جاعلاً من أمه طفلته، ومن أبوّته لها شعوراً بأنه لا يزال ابنها الوحيد.
ارتبطت «الطريق» بأسماء كبيرة، أنطون تابت ورئيف خوري وحسين مروة وكريم مروة، لكن الاسم الذي التصق بها حتى نهايته ونهايتها كان محمد دكروب. الرجل الذي تخلى عن كتابة القصة القصيرة تحوّل الى روائي النقد ورفيق الروائيين والكتّاب وأمين سرّ الأدب اللبناني.
في زمن بنيوية مهدي عامل الماركسية، عاش الدكروب في مكان آخر، رأى في النقد باباً الى الحكاية، وفي الحكاية مساراً نقدياً. هكذا قام بقراءة الأدباء من خلال أدبهم. أي أنّه كتب عكس كل النقاد، فهو لم يقرأ النص من خلال حياة الكاتب، بل قرأ الكاتب من خلال حياة النص، فصارت دراساته _ حكاياته مرجعاً للمتعة والمعرفة في آن معاً.
هذا النوع من القراءة الأدبية الذي تفرّد به الدكروب لا تستطيعه سوى عيون الحب، فالرجل الآتي من الطبقات الفقيرة والمسحوقة، تعلّم من تجربته الشخصية والإنسانية معنى الحب الذي يرى في الوجه الواحد تعدده، والذي يكتشف الكاتب من خلال اكتشاف النص، جاعلاً من الروائي بطلاً في حكاياته التي أعاد الدكروب كتابتها.
وكما يفعل جميع الأطفال، فإنّ محمد دكروب لم يتخلّ عن أمه أبداً، كما أنّه لم يتخلّ عن جذوره الطبقية وانتمائه للشيوعية، رغم كل ما جرى في العالم وفي لبنان.
أمس، حين أغمض محمد دكروب عينيه لم يغمضهما على الموت مثلما نظن، بل أغمضهما على الحكاية. اليوم، يصير كاتب الحكايات حكاية لا تبحث عن كاتبها، ويتحول مكتشف المعاني الى معنى يرافق الأحياء ويتحاور مع الموتى.
كانت حكاية هذا الطفل الذي ولد في الطريق الى «الطريق» ممتعة وغنية وحزينة أيضاً، وهي ككل الحكايات الجميلة لا تنتهي حين تنتهي.
إلياس خوري

أحزان الفايسبوك: منمشي ومنكفي الطريق
«هذا الثمانيني كان وهو في الرابعة والثمانين نفسَه: أنسٌ وفكاهة وحضور بديهة والفة، وشباب جسد وروح»، بهذه العبارة وصفه الشاعر عباس بيضون على فايسبوك أمس. استطاع محمد دكروب الحفاظ على روحه الفتية حتى النهاية. «شيخ الشباب» رحل أمس وهمّ الشباب اللبناني على عاتقه.
لدى شباب «اتحاد الشباب الديمقراطي» ما يذكرونه عنه. هم لن ينسوا الدفع الذي كان يمنحهم إياه، والنقاشات والحوارات والمحاضرات التي كان يقيمها على نحو دائم في مقرّ الاتحاد. وبعد حوالى عقد على إغلاق مجلة «الطريق»، لم يكن السبب وراء إعادة إطلاقها انحسار المجلات الثقافية في لبنان فحسب، بل أيضاً إصرار دكروب على إصدار مجلة تتوجه إلى الشباب اللبناني، مخصصاً فيها مساحة لنشر النصوص الشابة.
بالتزامن مع الاحتفال بالعيد الـ 89 للسنديانة الحمراء، صار حزن الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي أمس، حزنين. حزن على ماضي السنديانة الحمراء الجميل، الذي لم يعيشوه، وحزن على أحد آباء هذا الحزب. يختفي هنا المعنى المجازي لكلمة أب بالنسبة إلى هؤلاء الفتيان، ليأخذ معنى حقيقياً وواقعياً لمسوه من الرجل الثمانيني.

هؤلاء الشباب الذين يواصلون جهدهم لاستعادة ماضي الحزب في «زمن الخيبة»، يعرفون التمييز جيّداً. لقد أجمعوا على فايسبوك وتويتر على أنه «الشيوعي الحقيقي وغير المزيف»، قبل أن ينشر البعض صورهم برفقته، وبعض الأغاني لوداع «صبحي الجيز» الشيوعي. أحد الشباب أراد أن يودعه من خلال الأغنية المذكورة، مرفقةً بجملة «محمد دكروب. عم فتش ع واحد متلك.. يمشي.. منمشي ومنكفي الطريق ». التعليقات الشابة بدت متأثرة وحاسمة. غرّدت إحداهن «اليوم سينضم اسمك إلى المبدعين والمثقفين الذين كتبت عنهم لتكون من وجوه لا تموت، وداعاً محمد دكروب». بدوره علّق الموسيقي ريان الهبر على فايسبوك «صاروا قلال اللي عطيوا كتير، محمد دكروب. فلّيت قبل ما نشكرك». وأضاف المدوّن خضر سلامة «المؤرخ الشيوعي والكاتب والصعلوك المشاغب: شوارع صور. مجلة «الطريق». صنارة الأدباء. أسماء الشهداء. الصحف العتيقة وكومة الكتب والعمر الذي لم يكبر يوماً على التغزل بالنساء والضحك. وداعاً يا دكروب». أما صفحة المفكّر الراحل على فايسبوك، فقد تحوّلت مكاناً أخيراً لوداعه، بعدما انتشرت عليها العبارات والأغاني والصور. حتى أيامه الأخيرة في المستشفى، كانت زيارات شباب «الاتحاد الديمقراطي» و«الحزب الشيوعي» تتوالى عليه. يتذكر هاني عضاضة من «اتحاد الشباب الديمقراطي» ما قاله له دكروب في المستشفى: بدا قلقاً على مستقبل الشباب «الذين تخلوا عن الكتابة والقراءة». هكذا، أتت وصيته الأخيرة لتلتقي مع وصية المفكّر الراحل حسين مروة «زيدوا ثقافتكم يا رفاقي، نظّموا أكثر عملية التثقيف، حتى تتزايد شعلة الضياء تأججاً وسط الظلام الذي يريد أن يطغى».
روان عز الدين


انطفأ في عيد الحزب الشيوعي اللبناني
«بدي قللو منحبّو كتير» تقول تاتيانا ابنة محمد دكروب، قبل أن يغلبها البكاء على الهاتف. قبل دقائق، كانت تتحدّث بفرح عن والدها وكيف أنّ ولديها تعلّقا به خلال إقامته في أيامه الأخيرة في منزلها، وكانت حفيدته السمراء هي مدللته لأنّ زوجته الروسية الراحلة سفيتلانا «كانت تحبّ السمراوات، وهو كان يحبّ الماما كثيراً» تقول تاتيانا قبل أن يأخذها الحديث إلى طفولتها ومناخ الحرية الذي عاشته في كنف الوالد.

حتى لحظاته الأخيرة، كان دكروب منهمكاً بتحضير العدد الجديد من مجلة «الطريق». كان ملف العدد عن جريدة «السفير» في ذكرى تأسيسها الأربعين. تقول هناء صافية من أسرة تحرير المجلة: «أرسلنا العدد الجديد إلى الطباعة منذ يومين، لكن سرعان ما أوقفنا الطبع أمس ريثما تقرّر إدارة التحرير ما يجب فعله إثر رحيله المفاجئ». كان دكروب قد دخل «مستشفى الساحل» في أوائل الشهر الجاري، بعدما وقع فأصيب في رأسه «لكنّه ظلّ بكامل قواه العقلية. وبعد عشرة أيام، عاد إلى المنزل قبل أن يعاني من تعقيدات استدعت إدخاله المستشفى مجدداً قبل يومين». صحيح أنّه بدا كمن اختار يوم رحيله في 24 تشرين الأول (أكتوبر)، وهي ذكرى تأسيس الحزب الشيوعي اللبناني الذي نعاه بالأمس، إلا أنّه كان لا يزال يحلم ويخطّط لمشروعه الأحب أي «الطريق». تقول صافية: «كان يحضّر ملفاً خاصاً أيضاً بمئوية الأديب رئيف خوري في المجلة، إضافة إلى الورقة التي سيشارك فيها في الاحتفاء بذكرى رحيل خوري الذي يقيمه «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» و«الحركة الثقافية ــ أنطلياس» في الأونيسكو»الشهر المقبل». لم يلحق دكروب، صار هو مادة التكريم. «الحزب الشيوعي اللبناني» سيوجّه له تحية بعد غد الأحد خلال الاحتفال بالذكرى الـ 89 لتأسيس الحزب في قاعة «أريسكو بالاس» في بيروت. وفي أربعينيته، سيقام مؤتمر في «قصر الأونيسكو» يُدعى إليه أصدقاء الراحل من كتّاب ومفكّرين عرب.


* يوارى في ثرى «مقبرة روضة الشهيدين» في الغبيري عند الحادية عشرة والنصف من صباح اليوم، وتقبل التعازي بين العاشرة والرابعة في قاعة «روضة الشهيدين». كما تقام مراسم العزاء يوم الأربعاء 30 الجاري في قاعة «جمعية خريجي الجامعة الأميركية في بيروت» (ساحة الوردية ــ الحمراء)

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...