مذابح اليوم إعادة تمثيل لمذابح الأمس

14-03-2015

مذابح اليوم إعادة تمثيل لمذابح الأمس

كان مشهداً مروِّعاً ذلك الذي أدّاه، باحترافية عالية، مقاتلو «الدولة الاسلامية» في الحسكة وعلى الشاطئ الليبي معاً؛ لقد جرى ذبح واحد وعشرين مصريًا مسيحياً من الوريد الى الوريد في 15/2/2015. لكن مشهد الذبح هذا لم يكن غريباً أو فريداً بل مقزّزاً، فهو عبارة عن استعادة للمشاهد نفسها التي رأيناها، مرات كثيرة، في العراق وسوريا. المفاجئ في ذلك المشهد هو الكلام الجديد على أن المحطة المقبلة لهؤلاء الذبّاحين هي روما، أي الفاتيكان بالتحديد، وأن مقاتلي «الإسلام الجدد» قادمون لفرض الشريعة الاسلامية على مسيحيي أهم بلد كاثوليكي في التاريخ، أي وارث روما القديمة وبيزنطة من بعدها، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة احتلال الأتراك مدينة القسطنطينية في سنة 1453 التي كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، والعاصمة الروحية للمسيحية المشرقية، ويُعيد التذكير أيضاً بوصول بني عثمان إلى أسوار فيينا في سنة 1683، ما يوقظ غريزة الخوف التقليدية من «البرابرة القادمين من الشرق».
كان مشهد ذبح المسيحيين المصريين راعباً حقاً. لكن مشاهد تحطيم التماثيل واللقى في متحف نينوى بالمطارق والمثاقب في 26/2/2015، وفي نمرود والحضر أيضاً، وإحراق المكتبة الفيصلية في الموصل في 21/2/2015، وصور الأشوريين النائحين التائهين الفارين من قرى الحسكة، تبرهن، للمرة الألف، أن البداوة الجديدة الهمجية تغزو الحضارة القديمة وتمحوها تماماً.
حين قرأ المؤرخ السوري محمد كرد علي كتاب «الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية»، وهو رواية شفوية لشاهد عيان يُدعى حسين أبو شقرا، صاغها يوسف خطار أبو شقرا ـ وصدرت في سنة 1952، هاله ما قرأ عن الاقتتال الذي نشب في سنة 1860، والمظالم التي ارتكبت في تلك الأثناء، والتي تحوّلت عادات أهلية في الكراهية والعنف، فكتب في مذكراته: «لما منَّ الله على بلادنا بنعمة التعلّم بطُلت هذه العادات الوحشية، وأصبح الدروز وسائر الطوائف من أخوانهم السنيين والشيعيين وغيرهم أخواناً يتحابون ويتآلفون، وكذلك مع سائر الطوائف النصرانية».
كتب محمد كرد علي هذا الكلام في خمسينيات القرن المنصرم. ولو عاد إلى الحياة اليوم ماذا كان سيقول حين يرى الأهوال المروِّعة التي تفتك ببلاده؟
 إن فكرة «الدولة الاسلامية» و»الخلافة»، وأفكار «جبهة النصرة» و «القاعدة» والجماعات السلفية المقاتلة تمثل العودة إلى مرحلة الفتح والغزو والأسلاب والنهب والحرق والسبي والجزية، وهي عودة مستحيلة في هذا العصر. وطراز «داعش» على سبيل المثال، ليس جديداً على الإطلاق؛ فقد شهدنا مثيلاً له في أفغانستان مع «حركة طالبان» والمجاهدين المقاتلين، وفي نيجيريا مع «بوكو حرام»، وفي الصومال مع «حركة الشباب المسلم»، وفي الجزائر مع الجماعة الإسلامية المقاتلة». وتحفل النصوص الفقهية بالكلام على الاسترقاق وبيع الرقيق ووطء الجواري والسبايا من غير صداق أو زواج باعتبارهم ملك اليمين. والنصوص الفقهية نفسها واضحة تماماً في قولها: لا يُقبل من المشرك إلا الإسلام، فإن أبى يُقتل وتسبَ نساؤه ويُسترقّ صغاره. ولا يُقبل من أهل الكتاب إلا الإسلام أو الجزية. فإن أبوا يُقتلوا وتُسبَ نساؤهم ويُسترق صغارهم. حتى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز، وهو الخليفة الراشدي الخامس كما يُطلق المؤرخون عليه، أمر ألا يُترك في دار الإسلام بيعة أو كنيسة قديمة أو حديثة.
الوهابية اليوم ومشتقاتها المخبولة يقولون بوجوب هدم جميع «مظاهر الشرك» وإزالتها، ويعتقدون أن الكنائس والأديرة من مظاهر الشرك، وبالتالي فهم لا يفعلون شيئاً إلا ما تأمرهم به النصوص الشرعية المتفق عليها. إنها العبرانية القديمة المتجددة، أي عبرانية يشوع بن نون وقد اكتست حلة متوحشة جديدة.
إن قتل السريان والأرمن والأشوريين والكلدان والمسيحيين عموماً، وتهجيرهم، علاوة على تهجير الإيزيديين والصابئة، وسبي نسائهم واسترقاق فتيانهم إنما هو إعادة تمثيل لمقتلة يهود بني قريظة، ولمقتلة الأمويين التي جرت بأيدي العباسيين الذين لم يتركوا قبرًا لأمويّ إلا نبشوه ومثّلوا حتى بالجثث، ولمقتلة المماليك التي تفنّن بها صلاح الدين الأيوبي، ولجميع المذابح التي عرفها التاريخ العربي منذ 1400 عام.
تروي المصادر أن يهود بني قريظة، وهم عرب في أي حال، صودرت أموالهم وممتلكاتهم، وقُتل جميعُ ذكورهم البالغين وكانوا يراوحون ما بين 700 و900 ذكر، وظلوا يُقتلون بحد السيف طوال يوم ونصف يوم، وبيعت نساؤهم وأطفالهن في الحبشة. أما كيف فرقوا البالغ من غير البالغ، فكانوا يرفعون أذيالهم ليروا هل نبت شعر العانة أم لا. وعلى هذا المنوال يفعلون اليوم بمسيحيي الموصل وبقية أنحاء العراق، علاوة على مسيحيي الحسكة وسائر أنحاء سوريا.
سينتهي مسيحيو العراق وسوريا إلى المنافي البعيدة، تماماً مثل يهود العراق. لكن اليهود غادروا العراق إلى إسرائيل في أوائل خمسينيات القرن العشرين بناء على اتفاق ضمِنَ لهم بيع ممتلكاتهم، ونقل أموالهم، ولم يعتدِ عليهم أحد بعد الاتفاق. أما المسيحيون فيغادرون مهانين بلا أموالهم وممتلكاتهم التي نهبها إسلاميو «داعش» وأوباش القرى ورعاع المدن.
في 14/9/2012 أذاع البابا بنديكتوس السادس عشر في كاتدرائية مار بولس في حريصا في لبنان الإرشاد الرسولي الذي نصّ على أن التطرف يهدد الجميع، ودعا المسيحيين إلى عدم الخوف من المسلمين. لكن الوقائع الجارية وضعت هذا الإرشاد المهم في المحفوظات، وجعلته مجرد نص بلا قيمة.
ليس المسيحيون الأشوريون وحدهم من يتعرض للقتل والسبي والتهجير. الإيزيديون والأرمن والشبك يتعرضون بدورهم للتقتيل. وبسبب أعدادهم القليلة، باتوا قريبين من الانقراض. وبهذا المعنى فإن تهجير المسيحيين من المشرق العربي سيكون إفناءً نهائياً لعناصر التحضر في هذه المنطقة، وسيراً حثيثاً نحو التصحّر وموت الشعوب وحضاراتها. ثم إن هذه العملية كانت بدأت، في شوطها الأخير الذي نشهد فصوله الختامية اليوم، قبل مئة عام حين طُرد السريان والأشوريون والأرمن من تركيا إلى سوريا والعراق. وكانت اسطنبول، أي القسطنطينية، حاضرة المسيحية الشرقية، فصارت مدينة إسلامية خالصة تقريباً تعتاش على إرثها العمراني المسيحي القديم. وفي سياق هذه العملية اندثرت من سجلات التمدّن مدن عظيمة مثل الرها ونصيبين وحران ورأس العين وانطاكيا، وفقد العراق وسوريا جمرة الروح الإنسانية التي غمرت هذه البلاد وجعلتها تنشر على العالم الأبجدية والأساطير الجميلة المدهشة وديانات الأسرار الجميلة.

صقر أبو فخر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...