«اعترافات» روسو: من الفرد يطلع تاريخ الإنسان

26-12-2011

«اعترافات» روسو: من الفرد يطلع تاريخ الإنسان

لئن قدّم جان جاك روسو كفيلسوف وعالم اجتماع، بفضل كتابه التربوي «اميل» وبفضل كتابه «العقد الاجتماعي»، فإننا إذا نظرنا إليه من خلال «الاعترافات» قد نميل إلى اعتباره أديباً، بل واحداً من أهم المجددين في الكتابة عن الذات، وإن كان غوته مال دائماً إلى المقارنة بينه وبين «فيلسوف خالص» مثل فولتير، إذ قال: «مع فولتير فإن العالم القديم هو الذي ينتهي، أما مع روسو فإن عالماً جديداً يبدأ».

> في اختصار، يمكن القول إن الكتابة الأدبية (والفنية في ركابها) تغلب على كتابات روسو. ومع هذا علينا أن نلاحظ أن كتابيه الأدبيين الرئيسيين «الاعترافات» و«أحلام متنزه وحيد»، لم ينشرا إلا بعد وفاته، وإن كان كتب بداية أولهما قبل رحيله بسنوات عدة.

> و«الاعترافات» يعتبر اليوم، كتاباً أساسياً في مجاله، من ناحية لأن روسو قدم فيه نفسه، من وجهة نظر لا تتراجع أمام البوح وتعرية الذات، ومن ناحية ثانية لأن روسو، في معرض تأريخه لذاته، أرّخ للإنسان ولوجود الإنسان وتكوّن فكره في هذا العالم. بيد أن العنصر الرئيسي الذي يطغى على الكتاب، إنما هو عنصر «البارانويا»، أو عنصر الإحساس برهاب الاضطهاد والمطاردة. وهذا الشعور، الذي وصل مع روسو إلى حدود مرضية خلال فترات عدة من حياته، كان في الواقع في خلفية الكثير من كتاباته. ولئن كان قد انغرس في أعماقه منذ وقت مبكر، بسبب ظروف حياته التي يصفها لنا، راسماً مبرراً مفسراً في «الاعترافات»، فإن شعور الاضطهاد هذا تفاقم لديه منذ خلافه العميق مع جماعة «الموسوعيين»، لا سيما ديدرو وغريم، وهو خلاف تختلط أسبابه الذاتية والموضوعية بعضها ببعض. وروسو يتحدث في «الاعترافات» عن هذا كله، حديثه عن عدد كبير جداً من الأحوال والآراء والمواقف التي تملأ كتاباً عاش، ولا يزال، طويلاً من بعد صاحبه. وهنا قد يكون مفيداً أن نذكر أن روسو حين كتب «الاعترافات» على مدى نحو 12 سنة من حياته، كان يريد له أن يحاط بسرية تامة «ألا يعرف وجوده إلا بعد موته»، لكنه هو بنفسه «أفشى سر» الكتاب، إذ راح يقرأ منه فصولاً هنا وفصولاً هنالك، ويتحدث عنه واعداً مهدداً، ما أثار المزيد من عداء الآخرين له، وزاد من شعوره بالاضطهاد.

> وتعود فكرة روسو بوضع كتاب «الاعترافات»، الذي حمل اسماً كاملاً هو «اعترافات جان - جاك روسو الحاوية تفاصيل أحداث حياته وأحاسيسه الدفينة في جميع المواقف التي واجهته»، إلى العام 1764، حين راح المرض الجسماني والنفساني، يشتدان عليه معاً، وبدأ يخوض صراعاً عنيفاً ضد القساوسة السويسريين الذين ردّ على هجومهم عليه اثر وضعه كتاب «مجاهرة الخوري السافواني بالإيمان» تالياً لـ «إميل» و»العقد الاجتماعي»، رد بكتابه «رسائل مكتوبة من الجبل». غير انه اضطر إلى تأجيل فكرة كتابة «الاعترافات» سنتين بعد ذلك، حيث تمكن من الهرب من مطارديه وطالبي محاكمته، ليصل إلى إنكلترا حيث دعاه للإقامة عنده، فيلسوفها التنويري الكبير ديفيد هيوم. وهناك بدأ روسو يخط فصول «الاعترافات» ولكن هذه المرة ... تحت ضغط الشعور، بأن هيوم بدوره مشاركاً في مؤامرة ضده.

> وهكذا، بعد أن كتب فصولاً من الكتاب، عاد روسو إلى فرنسا متنكراً، وراح يكتب المزيد من الفصول الإضافية. وفي العام 1770، أحس بشيء من الأمان فراح يتجول في الصالونات الباريسية قارئاً فصولاً من اعترافاته، أدهشه أنها لم تثر اهتمام احد، فكتب نصاً ذاتياً جديداً وغريباً هو «المحاورات: روسو يحاكم جان جاك». ولم تكن بقيت له سنوات كثيرة يعيشها، ولا أعمال فلسفية إضافية يدبجها، بل مجرد «مذكرة» تبسيطية وجهها إلى الأمة الفرنسية، ونصاً استكمل فيه اعترافاته، التي كان الكتاب الأول أوقفها عند العام 1766. ولكن ما الذي في تلك الاعترافات؟

> في كل بساطة، حكاية حياة الكاتب كما دوّنها بنفسه. واللافت أن النص، على ما فيه من اتجاهات تبريرية تحاول «فضح الآخرين»، جاء صادقاً إلى حد كبير. ولكأن روسو حين جلس مرّات ومرّات ليدوّن مجريات حياته ويبرر مواقفه، ويشرح خلفيات أخطائه، في حق نفسه وفي حق الآخرين، لم يشأ أن يغلّف الحقيقة بأية زينة أو طلاء. كان يعرف كما يبدو انه حيث سينشر الكتاب سيكون هو قد رحل، ولن يؤاخذه احد على ما اقترف، غير رب السماوات الذي آمن به دائماً خارج إطار الدين. ولعل ذلك البوح، في جيّده وسيّئه، هو الذي جعل نيتشه، يقول إن «روسو، هو ذلك الرجل العصري الأول، المثالي والوغد في شخص واحد، المريض بقرف مسعور من ذاته، ذلك الطرح الذي ضرب أطنابه عند عتبة الأزمنة الحديثة»، فيما قال عنه تين: «كان مشغولاً بنفسه حتى الهوس، ولا يرى في العالم غير ذاته، ويتخيّل الإنسان على منوال ذاته». والحقيقة إن في «الاعترافات» ما يبرر هذا كله.

> يتناول روسو في «الاعترافات»، إذاً، حكاية حياته منذ مولده، حتى العام 1766. ويقول لنا النص انه فرنسي الأصل ولد في جنيف السويسرية وسط بيئة بروتستانتية. ماتت أمه يوم ولادته فرعاه أبوه الساعاتي ذو المزاج الغريب. وهكذا نشأ الطفل متوجهاً نحو الضلال. وكان ذا وعي مبكر، شديد الحساسية والكسل. وحين شبّ عن الطوق التقى براهب كاثوليكي فقال له انه تواق لاعتناق الكاثوليكية. وبعد ذلك التقى بالسيدة دي فارن، التي أحبته ورعته وتقلبت علاقته معها طوال سنوات، يصفها روسو بدقة وبوح مدهشين. وهو صار عشيقاً للسيدة مذ صار في الحادية والعشرين. لكنه إذ توجه يوماً إلى غرونوبل التقى سيدة أخرى هي دي لارناج فوقعت في غرامه. وحين عاد إلى السيدة الأولى وجد أنها تخلت عنه. مع ذلك استمر مقيماً عندها وبدأت اهتماماته الموسيقية التي لم تقنع أحداً، سوى جماعة الموسوعيين حيث طلب منه ديدرو أن يكتب المواد الموسيقية للموسوعة. ثم وسّع من اهتماماته فراح يكتب في فلسفة الفنون ووضع أوبرا، ثم كتب رسالة حول الموسيقى الفرنسية أعطى فيها الصدارة للموسيقى الإيطالية، قبل أن يشرع في اهتماماته الفلسفية ويكتب في «اصل التفاوت بين البشر». اثر ذلك عاد إلى جنيف وإلى البروتستانتية مثيراً حنق الكاثوليكيين. وحين عاد لاحقاً إلى باريس شعر أن عليه الآن أن يواصل رسالته الفلسفية والاجتماعية، فوضع تباعاً كتبه الثلاثة المهمة والأشهر «ايلوئيز الجديدة» و»العقد الاجتماعي» و»إميل». والكتابان الأخيران صودرا فور نشرهما (عام 1762) بل إن «إميل» أحرقت نسخه علناً، فيما كان روسو في طريقه للهرب إلى بيرن وقد ازداد شعوره بأنه مطارد ومضطهد. وفي تلك الفترة بالذات، راح يستكمل كتابة آخر فصول «الاعترافات»، فيما راحت حياته تزداد تعقداً، من ناحية، بسبب علاقاته النسائية والاجتماعية المتتالية، ومن ناحية بسبب صراعاته مع أقرانه من المفكرين. ومن الواضح أن روسو، حين انجز كتابة فصول «الاعترافات» هدأ بعض الشيء، من دون أن تهدأ حياته نفسها.

> كما أشرنا، تغطي فصول «الاعترافات» حياة روسو حتى العام 1766. والنص يتألف من 12 كتاباً، نشرت على دفعتين: 6 كتب في العام 1781، ثلاثة أعوام بعد رحيل روسو، بائساً مستوحشاً حزيناً. والباقي نشر في العام 1788. والحقيقة أن الكتاب، منذ نشره، أثار اهتماماً واسعاً، واعتبر تجديداً في الكتابة عن الذات. أما الذين أرادوا أن يتابعوا ما جرى في حياة روسو بعد العام 1766 وحتى أيامه الأخيرة، فإنهم وجدوا ضالتهم في «أحلام متنزّه وحيد» ذلك الكتاب الذي يقل أهمية وصخباً عن «الاعترافات» مع انه يكمله. وفيه طرح روسو سؤاله الجوهري عما إذا كان قد أصاب في حياته حين اتخذ من الحقيقة شعاراً له. وروسو مات يوم 2 تموز (يوليو) 1778، بعد شهور قصيرة من إنجازه ذلك الكتاب الأخير.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...