نزار العاني: عن الترجمة والتعريب

30-05-2024

 نزار العاني: عن الترجمة والتعريب

د.نزار العاني:

مقدمة :
منذ فجر الكتابة الأول ، ومفهوم ( الثثاقف) يفعل فعله لتقريب حيوات البشر بعضها من بعض . وكانت أداة التثاقف الأكثر عمقاً هي الترجمة . 

فالبشر ، لغات وألسن ولهجات ، والفرسان اللغويون الأوائل الذين يتقنون أكثر من لغة ولسان ، كانوا هم بناة جسور الحضارة الإنسانية العظيمة ، عًبرَ قطار الترجمة المتجول بين الأوابد من آثار ومدونات وتواريخ ، وبما في ذلك من أفكار وأساطير وخرافات !

السائد ، أن الحضارة العربية الإسلامية ، حين استقرت جذورها في العصر العباسي ، قامت بترجمة التراث العلمي والفكري والفلسفي للإغريق إلى اللغة العربية ، ومن هذه نهل الأوربيون وترجموا إلى اللاتينية التي كانت عتبة عصر النهضة الباذخ .
الترجمة والأدب :

مجلدان صدرا عن مؤتمر ( الترجمة وتحديات العصر) الذي نظمه المركز القومي للترجمة في مصر بتاريخ 28 مارس 2010 ، ويحتويان ملخصات للأبحاث والأوراق التي قدمت للمؤتمر . وقد نشرت مجلة (أدب ونقد) دراسة للباحث الضليع "أحمد علي بدوي" تلقي الضوء على تجارب ومشكلات الترجمة الأدبية ، ويذكر فيها الباحث هذه المعلومة :

انقضى 19 عاماً من المراسلات المتواصلة بين الشاعر الإنكليزي "ت.س.إليوت" والشاعر الفرنسي "سان جون بيرس" ، لنقل وتنقيح المتتابعات الشعرية للثاني ، وعنوانها "أناباز" Anabase ، من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنكليزية . إذ أصدر ونشر "إليوت" ترجمته الأولى لها عام 1930 , ونشر الترجمة النهائية المرموقة عام 1949 . علماً بأن الشاعرين يتقنان بتعمق اللغتين الفرنسية والإنكليزية ، وكلاهما فازا بجائزة نوبل ، واشتغلا معاً لترجمة قصيدة خلال 19 عاماً ! (1)
هذا الجهد المبذول والمصان بالصبر والتمهل ، هو المعيار الأمثل لمن يرغب في خوض غمار الترجمة ، وأنصح كل مترجم العودة لقراءة الدراسة أعلاه .

ومن ثمار قراءاتي المديدة لترجمة الأدب والفكر الغربي إلى اللغة العربية ، أستطيع ذكر عشرات الأمثلة على صعوبة الترجمة ومحاذيرها وتعقيداتها ، وما الذي يجب توفره عند المترجم من عناد وقدرة وكفاءة .


الترجمة والتعريب :


النقل من لغة إلى لغة كما ذكرت تكتنفه صعوبات جمّة ، ولكنه في الوقت نفسه غاية في السهولة عند البعض ، وتكتنفه السذاجة والتزوير واغتنام الربح التجاري السريع . والتعريب أصعب من الترجمة الحرفية ، لأنه إعادة خلق جديدة للعمل الأدبي ، ولا يقدر عليه سوى ذوي الهمم العالية من المتخصصين الأكاديميين على شاكلة منير بعلبكي صاحب قاموس المورد ، وسهيل إدريس صاحب قاموس المنهل، وزكي نجيب محمود وثروت عكاشة ومن في طبقتهم .

وهنا يكمن السؤال الجدير بالتوقف عنده ، وهو المدخل إلى لب موضوع دراستي هذه ، حول نقل أعمال "غابرييل غارسيا ماركيز" إلى اللغة العربية ، وملأت رفوف مكتباتنا بالعادي والأثير !

الأمانة العلمية والأدبية :

كنت أصدق في مطالع شبابي كل ما ينشر في المجلات الأدبية من مديح وتقريظ للروايات والقصص ودواوين الشعر ، وأسارع إلى اقتنائها . وحدث إنني قرات مقالة تضع رواية ( موبي ديك) للكاتب "هيرمان ميلفيل" في مقدم الأعمال الأدبية الخالدة . 

اقتنيت الرواية وقرأتها . كتاب متوسط الحجم من حوالي 180 صفحة . بعد سنوات ، سألني الناقد الكبير الراحل "محي الدين صبحي" - وقد صرنا أصدقاء متلازمين بعد وساطة بيتنا في زواجه من فنانة تشكيلية صديقة لنا - إذا كنت قد قرأت رواية (موبي ديك) التي ترجمها "د.إحسان عباس" ؟ ونفيت ذلك .

اقتنيت الترجمة الثانية ، وإذا بها تربو على 900 صفحة من القطع الكبير ! وهي الترجمة الأجمل والأكمل والأروع ، وظهر لي أن الترجمة الأولى هي نسخة مختزلة وبائسة ومزورة وغير أمينة من العمل .

فتباين حجم العمل الأدبي المُتَرجَم من قِبَلِ عدة مترجمين ، يشي بأمانة الترجمة الكاملة أو المنقوصة ، أو يثير الارتياب على الأقل ، وهذا ما لمسته بالنسخ الثلاث لترجمات رواية ( مائة عام من العزلة ) ، أيقونة أدب "ماركيز" ، والمتوفرة في رفوف مكتبتي . 

إذ بلغ عدد كلمات ترجمة "سامي الجندي و إنعام الجندي" التقريبي لها حوالي 136 ألف كلمة (4) . في حين بلغ العدد في ترجمة "سليمان العطار" حوالي 125 ألف كلمة (5) . ونقص العدد لحوالي 109 الف كلمة في ترجمة "محمود مسعود" (6) . 

وبعد البحث والاستقصاء لترجمات أخرى ، عَبْرَ غوغل وصديق ، أضيف للإحصاء السابق المعلومات التالية المتممة . 
ترجم الرواية نفسها ايضاً ، شيخ مترجمي ماركيز ، وهو "صالح علماني" ، ووصل عدد الكلمات في ترجمته إلى حوالي 107 ألف كلمة (7) . وآخر إصدار لترجمة الرواية يحمل اسم "معن سليمان الحناوي" ومراجعة " غسان العودة" ، وكان الحجم بعدد الكلمات حوالي 120 ألف كلمة ( . ولا أنفي وجود ترجمات أخرى لم أستطع الحصول عليها .

ولا يخفى على القارئ أن هذا التباين يعزى لأسباب عديدة ، أهمها اللغة التي اعتمدها المترجم للنقل ، إسبانية أو فرنسية أو إنكليزية ، وهل استأنس مترجم بمن سبقه من مترجمين ؟ والحذف والإضافة ، فضلاً عن المزاج الخاص للمترجم وثقافته ودرجة إحاطته ومعرفته باللغتين ، التي يترجم عنها ، والثانية التي يترجم إليها .

وهذا ما يؤكد فوضى وتخبط وبؤس عالم النشر في العالم العربي ، وأن غياب الأمانة ، لا ولم تقف عند التحايل في مشاريع البنية التحتية من طرق وإنشاءات ، بل امتدت إلى مسارب النشر والأدب مثلما يقول ويكتب "محمد عدنان سالم" حول سوء حلقات إنتاج الكتاب في العالم العربي بتعريفات نجملها بما يلي :

(المؤلف هو صانع الأفكار...والناشر هو المخطط والمنظم ... والطابع هو الذي يتسلم المخطوط...والموزع هو الحلقة الأخيرة في صناعة الكتاب ...والقارئ هو المستهلك ) (2) , ويوجه الكاتب نقدا لاذعا للأطراف الخمسة ، ويفرد فصلاً في كتابه بعنوان (أزمة ضمير) للحديث عن قصص التزوير وأساليب القراصنة وذرائع القراصنة (3) , وأنا أضيف للأطراف الخمسة ، طرفاً سادساً هو المترجم ، الذي هو موضع اللوم أحياناً .


الكتاب قبل العلم والنشيد :


في المكان الذي استشهد فيه البطل اليوناني " أكاديموس" أنشأ الفيلسوف أفلاطون أكاديميته بهذا الإسم تيمناً باسم البطل ، ومن هذه الأكاديمية وطلبة العلم فيها وكتبهم أشرقت أنوار الحضارة الأوربية . وأرى أن قيمة الكتاب في حياة الشعوب والأمم ، أعلى قدراً من العَلَم والنشيد .

وبالعودة إلى موضوع الترجمة ، أعترف أن (الإدارة الثقافية التابعة للجامعة العربية) أقدمت على تبنتي مشاريع كبيرة لا يقدر عليها الأفراد في حقول الترجمة ، وأبرزها ترجمة موسوعة " تاريخ الحضارة" بأجزائها الثلاثين للكاتب " وِل ديورانت" ، وهي أثمن ماهو موجود فوق رفوف مكتبتي العامرة .

وحبذا ( لو ) أن "الجامعة العربية" قد أنشأت "إدارة للترجمة"، منذ ولادتها القيصرية المتعثرة ، و(لو) أنها فتحت نوافذ هذه الإدارة المشتهاة لهواء وشمس الفكر والثقافة والأدب ، وأنفقت أموالها الطائلة على ترجمة التراث الإنساني العلمي والمعرفي ، و(لو) أنها أغلقت أبوابها السياسية بالقفل والمفتاح ، وتركت شبابيكها مشرعة لرياح التغيير الحضاري ، لكانت أمتنا المتلعثمة اليوم من أفصح الأمم .

وللحديث تتمة .....
__________________
1- مجلة أدب ونقد ، العدد 321 ، يوليو 2012 , ص 88 - 89 .
2 - محمد عدنان سالم ، هموم ناشر عربي ، دار الفكر المعاصر ببيروت ودار الفكر بدمشق، ط أولى 1994 ، الصفحات 20 و21 .
3 - المرجع السابق ، من الصفحة 65 إلى 90 .
4 - صدرت عن دار الكلمة ، بيروت ، ط أولى 1979.
5 - صدرت عن دار سعاد الصباح ، الكويت ، ط أولى 1993.
6 - صدرت عن دانية . ترجمة، طباعة، نشر، توزيع ، دمشق - بيروت ، ط اولى 1991.
7 - صدرت عن دار المدى ، دمشق ، بيروت ، بغداد ، ط أولى 2005 .
8 - صدرت عن دار العوام للطباعة والنشر ، السويداء ، سورية ، ط أولى 2020 .

 

مجلة البيان الكويتية 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...