«دولة الخلافة» بين «داعش» وابن تيمية

07-07-2014

«دولة الخلافة» بين «داعش» وابن تيمية

أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»ـ«داعش» قيام الخلافة عقب مبايعته لأبي بكر البغدادي وتنصيبه أميرا للمؤمنين، وقد لاقت هذه الخطوة اهتماما واسعا لا بل غير مسبوق من قبل المتابعين، إذ إنهم رأوا فيها تحولا على صعيد طبيعة الصراع الذي يدور في منطقة ما فتئ حلم إحياء الخلافة يراود الإسلام السياسي فيها منذ إلغاء الخلافة العثمانية العام 1924.
لكن الغريب في هذا الأمر هو ان تنظيم «داعش»، الذي يتخذ من ابن تيمية مرجعيته الفكرية العليا ومن العقيدة الوهابية السياسية إطارا لتنظيم حركته، خالف بإعلانه الخلافة تعاليم كل من ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.صورة نشرتها مواقع "جهادية" لعملية تدمير "داعش" لـ"حسينية القبة" في الموصل. ويظهر مجموع الصور المنشورة أنّ التنظيم دمّر عشرة مراقد ومساجد على الأقل في الموصل وفي قضاء تلعفر القريب (أ ب)
وبعكس ما يشاع، لم يشترط ابن تيمية، ومن ثم لاحقا تلميذه محمد بن عبد الوهاب، قيام الدولة الاسلامية بتنصيب خليفة وفقا للشروط التقليدية التي قالت بها مختلف المذاهب السنية، بل وجد أن المعيار هو احترام الشريعة وتطبيقها من قبل ولي الأمر. لقد عاش ابن تيمية في فترة زمنية بالغة الاضطراب بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد العام 1258، وهو كان يدرك أن الخلفاء العباسيين كانوا قد فقدوا كل سلطة فعلية لهم فتحولت الخلافة نتيجة لذلك إلى منصب رمزي يتحكم فيه كل متغلب يسيطر على الأرض بجيشه وقوته الذاتية، كسلالة البويهيين وسلالة السلاجقة.
جراء ما تقدم، لم يتطرق ابن تيمية خلال تنظيره للسلطة السياسية إلى المواضيع التقليدية المتعلقة بشأن الخليفة والتي تزخر بها كتب السياسة الشرعية المتعارف عليها كضرورة انتماء هذا الأخير إلى قبيلة قريش عملا بالحديث المنسوب إلى النبي «الأئمة من قريش»، ولم يناقش مسألة كيفية تعيين الخليفة، وهل هي بالنص أو الاختيار، ومن هم أهل الحل والعقد، وما هي الشروط الواجب توفرها في شخص المرشح لمنصب الإمامة. وقد تجاهل ابن تيمية كل هذه المواضيع كونه أدرك أن الخلافتين الأموية والعباسية، برغم شرعيتهما، كانتا في حقيقة الأمر عبارة عن «ملك عضوض» عملا بالحديث التالي المنسوب للنبي محمد: «تكون الخلافة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكا». ففترة الخلفاء الراشدين (أبو بكر، عمر، عثمان وعلي) انتهت ومعها سقطت الشروط التقليدية لقيام الخلافة. لذلك ميّز ابن تيمية بين خلافة النبوة والملك.
فالأولى، برغم كونها مستحبة، مستحيلة التحقيق نظرا للواقع الذي كان ولا يزال سائدا حتى اليوم: «إن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وإن ذلك لا ينافي العدالة، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل...»(مجموعة الفتاوى، جزء 35).
إذا كانت الخلافة غير ضرورية، ما هو المعيار إذًا من أجل تحديد شرعية الدولة؟ لقد رأى ابن تيمية أن وظيفة السلطة السياسية تكمن تحديدا في تطبيق الشريعة وهي لا تكمن في شكل النظام السياسي القائم ولا بكيفية الوصول إلى السلطة: «ولا يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة. فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إماما» . فالحاكم هو من يملك أسباب القوة التي تجعل من سلطته واقعا وحقيقة لا يمكن ضحدها.
وهكذا يكون ابن تيمية قد أحدث تحولا مهما جدا في الفكر السني إذ إنه نقل هذا الأخير من «دولة الخلافة» حيث الخليفة هو مصدر الشرعية إلى «دولة الشريعة» حيث الالتزام بأوامر الشريعة ونواهيها يشكل المعيار الوحيد لتحديد شرعية السلطة السياسية. لذلك، لم يهدف ابن تيمية ولا تلميذه محمد ابن عبد الوهاب بعد قرون عدة إلى إقامة خلافة عالمية تشمل جميع المسلمين في دولة واحدة، بل كان جل اهتمامهما ينصب على التكيف مع الواقع بحيث تظل أحكام الشريعة مصانة حتى لو كان ولي الأمر مستبدا أو جائرا. فكل حاكم محلي يتمتع بالشرعية ما دام يسهر على تطبيق شرع الله ضمن حدود أراضيه.
وكذلك يتضح لنا أن إعلان «داعش» للخلافة وفق آلية مبايعة أهل الحل والعقد والتأكيد على نسب ابي بكر البغدادي القرشي هو محاولة للعودة إلى خلافة النبوة والتنكر لدول الملك. وبذلك يكون هذا التنظيم قد تخلى عن واقعية ابن تيمية واعتبر أن شروط عودة الخلافة باتت متحققة. إن هذا التحول يؤشر إلى تطور خطير في عقيدة «داعش» الذي يكون بهذه الخطوة، بغض النظر عن نتائجها، قد اعلن عن ثقة كبيرة بقدراته وعن استمراره في مشروعه التوسعي بحيث يشمل بلدانا أخرى غير سوريا والعراق. فدولة الشريعة التي أرادها ابن تيمية كحل ضروري وعملي كانت كافية من إجل إسباغ الشرعية على حكم «داعش» في مناطق نفوذه، ومع انتقال التنظيم إلى مرحلة «دولة الخلافة» يكون هذا الأخير قد أعلن نيته الواضحة والصريحة بعدم قبوله بحكم الواقع ورفضه لشرعية النظم السياسية القائمة في الدول العربية. فمع إعلانه للخلافة، لم يقطع «داعش» فقط مع التنظيمات الإسلامية الأخرى لا سيما تنظيم «القاعدة» بل هو قطع مع نفسه فاختار عالمية المشروع ونهاية زمن الضرورة.

وسام اللحام

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...