«عاشق» مارغريت دوراس... حب على ضفة الميكونغ

03-02-2013

«عاشق» مارغريت دوراس... حب على ضفة الميكونغ

لا تخلو غالبية أعمال القاصة والروائية الفرنسية مارغريت دوراس (1914 ـ 1996) من نبرة حزن هادئة، ومن احساس خفي بالفقد والحرمان. دوراس تنوعت تجربتها بين الكتابة الروائية والنص المسرحي والسيناريو السينمائي، تسرد، غالباً، قصص حب مستحيلة تنتهي بالحزن وبفيض هائل من الذكريات، والآلام على رغم قناعتها بضرورة «ان يكون هناك وجود حقيقي للحب ما دام هناك امرأة ورجل». في روايتها «موديراتو كانتابيل» يقتل الرجل محبوبته تحقيقاً لرغبتها، وفي رواية «الحديقة» ثمة ايهام بوجود حب متكافئ، مرح. لكن سرعان ما نلحظ حالة الاغتراب التي يعيشها كل طرف ما يشي ان امتداد العلاقة يكاد يكون مستحيلاً، وفي رواية «انخطاف لول ف شتاين» تفقد البطلة خطيبها الذي يقع في غرام امرأة أخرى، وفي رواية «هيروشيما... حبيبتي» نتعرف الى الدمار الذي لحق بهذه المدينة اليابانية على خلفية قصة حب استثنائية تنمو بين الحطام، ولا تبشر بنهاية سعيدة.

هذا المنحى التراجيدي يتبدى، كذلك، في رواية «العاشق» (طبعة جديدة صادرة عن دار «أزمنة»، عمان) بترجمة عبد الرزاق جعفر. نالت الكاتبة عن هذه الرواية جائزة «غونكور». وعلى المستوى الشعبي، كذلك، حظيت الرواية بانتشار واسع وترجمت الى لغات عدة، بينها اللغة العربية التي نُقِلت اليها غالبية أعمال الكاتبة.

تستهل دوراً روايتها بفقرة تبدو متخيلة، ومحفزة على البوح: «في أحد الايام اقترب مني رجل، وكنت قد بلغت من العمر عتياً. قدم نفسه، وقال لي: إنني أعرفك منذ زمن بعيد. يقول الناس جميعاً انك كنت جميلة في شبابك. ولقد جئت لكي أقول لك إنني أراك الآن أجمل... وإنني احب وجهك يوم كنت امرأة شابة، ولكن اقل من حبي لوجهك الآن، هذا الوجه الذي حاولت الايام تحطيمه».

هذه الفقرة الافتتاحية المؤثرة تعيد الراوية نصف قرن الى الوراء عندما كانت تعيش في الهند الصينية مع أسرتها الفرنسية، وتحديداً في فيتنام التي كانت خاضعة للنفوذ الفرنسي في ثلاثينات القرن الماضي. لن تخوض دوراس في الجوانب والخلفيات السياسية لتلك الحقبة المعقدة، وانما، ووفقاً لعنوان الرواية، ستختار من تلك الفترات العصيبة المضطربة حكاية حب مستحيلة نشأت بين مراهقة فرنسية «بيضاء»، وبين شاب صيني ثري يملك سيارة ليموزين، بينما والده يعد من اثرياء المنطقة. على ضفاف نهر الميكونغ سيولد هذا الحب بصورة غريبة بين العاشقين، وفي مدينة «سايغون» ستتوالى فصول العشق، كما لو انها حكاية اسطورية من حكايات جنوب شرق آسيا، تلك الأرض المفعمة بالخرافات والأساطير والقصص الشعبية النادرة. ها هي البطلة، وبعدما راكمت خبرات وتجارب وحققت نجاحاً في مضمار الكتابة، تستعيد عبر ذاكرتها الصافية المتدفقة، سنوات طفولتها في تلك البقاع، وسنوات الصبا والمراهقة الأولى، وكيف التقت بشاب راح يقاسمها الأحلام والقلق والأمنيات والعواطف الجامحة. سنتعرف، عبر هذا القص المتشابك، على الأم الشقية، الغريبة الأطوار، وعلى الشقيق البكر الذي يقضي وقته في اللهو واللامبالاة والادمان مستغلاً الحنان الذي تكنه له أمه على نحو خاص. وسنتعرف على الشقيق الاصغر الهش، الذي يتعاطف مع شقيقته العاشقة. لكنه قليل الحيلة، خاضع للتراتبية العائلية بقليل من التذمر. كانت الفتاة ترى في نفسها نضجاً مبكراً، وشغفاً جارفاً للحياة سرعان ما ترجمته الى اهتمامات امرأة صغيرة وراحت ترتدي قبعات من القش الناعم وتنتعل صندلاً ذهبياً مزخرفاً وتضع أحمر شفاه فاقعاً يلفت النظر، وراحت تبحث عن استقلالية عواطفها خارج إطار الأم المنهكة الضجرة، والأخ الكبير الذي «رغبتْ في قتله».

وسط هذه الأجواء في أسرة فرنسية مغتربة فقدت معيلها اثر مرض عضال، تتفتح عواطف العاشقة المراهقة لمعانقة هواء الحياة في تلك البيئة الخانقة. تستسلم بنوع من الغواية والفضول الى أول مغامرة تسنح لها. غير ان هذه المغامرة المتسرعة ستتحول، مع السنوات، الى حب جارف سيكبر مع الزمن، ولن تستطيع سنوات الفراق التي حلت بين العاشقين إثر عودة الاسرة الى بلادها فرنسا، أن تزيل من أعماقها مذاق ذلك الحب الذي ظل غافياً بين الجوارح، خامداً بين حنايا الفؤاد. إنه حب مزمن، مراوغ سرعان ما يتأجج، من جديد، من خلال اشارة بسيطة، أو عبر التمعن في صورة فوتوغرافية، أو لدى سماع مفردة عابرة... بل ومن خلال التأمل في مسارات الحياة الوعرة.

تربط البطلة لحظات الحب البعيدة تلك في سايغون، بلحظات الشيخوخة التي تعيشها الآن في باريس. تتساءل: هل الشيخوخة تحل حينما نكبر في العمر؟ أم ان هذه الشيخوخة تأتي، بغتة، عندما يشيخ القلب حتى وإنْ كان صاحبه في مقتبل العمر؟ لا تعثر البطلة على جواب حاسم لهذه الأسئلة الحائرة، فنراها تمضي في سرد حكايتها وكأنها أضاعت جوهرة ثمينة في تلك البقاع البعيدة التي تفصلها عنها آلاف الكيلومترات. جوهرة لا تكف عن الاشعاع في عتمة النفس.

لا ترتب الكاتبة حكاية بطلتها في شكل تصاعدي، بل يبدو الزمن دائرياً مغلقاً، فهي تنتقل من الشيخوخة إلى الطفولة. ومنها إلى مرحلة الشباب الأولى. رجوعاً إلى الشيخوخة. مروراً بفترات أخرى تخرج من دفاتر الذاكرة بأقل قدر من التكلف والافتعال. تسترسل البطلة مع مشاعرها وعواطفها الجياشة التي مالت الى شاب صيني لم يكتب القدر لحكايتهما الوصال المنشود. ثمة فوراق طبقية وثقافية واجتماعية ولغوية هائلة بين فتاة فرنسية وشاب صيني. وكان من الطبيعي ان تنتهي فصول الحب بالفراق. لكن الحب، وفقاً للرواية، لا يأبه لاختلافات. إنها لحظة إشراق عصية على الفهم تبزغ بين شخصين من دون أن تراعي تداعيات محتملة. تقر العاشقة في روايتها بأنها وفية لحب قديم. لكن ماذا بالنسبة للعاشق؟ هذا ما تخبرنا به الصفحة الأخيرة في الرواية، فبعد سنوات مرت على الحروب والأولاد وحوادث الطلاق والزواج، يأتي العاشق الكهل الى باريس مع زوجته. يتصل بها هاتفياً. عرفته العاشقة من صوته، وهو بدوره يقول: كنت أريد سماع صوتك فقط. كان صوته قد بدأ يرتجف... عبّر لها عن حزنه من أجلها، وأنهى المكالمة بأن أوضح ان الامور كما كانت في الماضي، وانه لن يستطيع، أبداً، ان يكف عن حبها، وسيظل على حبها حتى الموت.

إبراهيم حاج عبدي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...