أرنستو ساباتو وحياته الأرجنتينية ثلاث روايات في قرن

10-05-2011

أرنستو ساباتو وحياته الأرجنتينية ثلاث روايات في قرن

ثلاث روايات فحسب، هي نتاج كاتب عاش قرناً كاملاً. هو الروائي الأرجنتيني أرنستو ساباتو، الذي نال شهرة واسعة من خلال رواية «النفق» (1948) و «أبطال وقبور» (1961) و «أبدون» (1967). هذه الحصيلة كانت كافية لتحقيق مكانة مرموقة له ضمن الآداب الناطقة بالإسبانية. ساباتو، الذي توفي أخيراً، لم يكن كسولاً في الكتابة، بل كان يحرق ما ينجزه. وهو يبرر الأمر على هذا النحو: «إن كان عباقرة مثل ستاندال لم يتركوا لنا أكثر من كتابين، وعبقري مثل سرفانتس قد خلده عمل واحد فقط، فلماذا نطالب كُتّاباً ليس من المؤكد أنهم من ذلك المستوى بروايات عدة؟ أما في ما يتعلق بي فسأكون راضياً جداً إن كنت كتبت رواية واحدة تقاوم الزمن». وكان ناشطاً كذلك في الدفاع عن القضايا العادلة، وعن حقوق الإنسان في بلاده، وعُرف بمحاربته أنظمة الحكم العسكرية.

هذا الكم الشحيح المنشور لهذا الكاتب الاستثنائي، لم يُظهر كل ما يعتمل في دواخله، ولعل هذا ما دفع بالناقد والمسرحي الأرجنتيني كارلوس كاتانيا إلى الإبحار في تجربة ساباتو الفريدة، عبر اللجوء إلى إجراء حوارات معه ونشرها في كتاب حمل عنوان «أرنستو ساباتو... بين الحرف والدم». صدرت الترجمة العربية لهذا الكتاب عن دار المدى - دمشق قبل سنوات بترجمة عبد السلام عقيل. يقوم كاتانيا في هذا الكتاب باستنطاق مواطنه الروائي ساباتو خلال 11 جلسة حوار، فينجح في الوصول إلى أعماق هذا الرجل وانتزاع اعترافات منه حول مختلف القضايا، ليخلق انطباعاً لدى القارئ بأن الاكتفاء بالقول إن ساباتو هو «روائي» فحسب، ينطوي على إجحاف.

ومردّ هذا الانطباع هو مقدرة ساباتو البارعة على التنظير ومناقشة مختلف القضايا المطروحة التي يثيرها كاتانيا. بهذا المعنى، تُطْلِعنا الحوارات على آراء هذا الروائي الأرجنتيني وأفكاره المثيرة للجدل حول الرواية وقضايا اللغة وفعل الكتابة والنقد الأدبي والرسم وكيفية تذوق اللوحة التشكيلية والتربية وأصول التدريس والديكتاتورية والفوارق القائمة بين العلم والأدب والحكم العسكري في بلاده الأرجنتين والفلسفة وغيرها من المسائل الهامة والمعقّدة، لنتعرف على الوجه الآخر لشخصية روائية قلقة ومقلة في الكتابة الإبداعية.

إن الحصيلة الروائية القليلة، قياساً إلى تجربته الإبداعية الطويلة، نابعة من ولع ساباتا بالنار. لقد أقدم على حرق الكثير مما كتب، فهو - كما يقول ساخراً - «مهووس كالأطفال بالنار»! وإذا كانت هذه دعابة، فإن قناعة ساباتو الراسخة في هذا المقام تتمثل في إن الجوهري في الإبداع لا يتمثل في عدد الكتب، «فلو كان الأمر كذلك، فستكون آغاثا كريستي أهم من شكسبير». وهو يرى أن «الكاتب الجيد يعبر عن أمور كبيرة بكلمات بسيطة، ونقيض ذلك الكاتب السيئ الذي يقول أشياء تافهة بكلمات طنانة».

ورغم فوزه بجوائز عدة، منها جائزة سرفانتس، التي تعتبر أرفع جائزة تمنح للآداب الإسبانية، إلا أن الجوائز، في رأيه، لا تشكل معياراً أساسياً للحكم على الإبداع، فقد نال جائزة نوبل للآداب كتّاب عظماء، مثل توماس مان وفوكنر وغيرهما، لكنها لم تمنح لكتاب كبار أيضاً، مثل جيمس جويس ومارسيل بروست. ويوضح ساباتو ضمن هذا السياق قائلاً: «أنا لا اكتب كي أربح مالاً أو جوائز، وليس بدافع من غرور، لكي أرى ما أكتبه مطبوعاً، لكنني كتبت مدافعاً عن وجودي، ولذلك فإن كتبي ليست مشوِّقة، ولا أنصح أحداً بقراءتها».

ولد ساباتو في بلدة روخاس القريبة من العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس في العام 1911، وحصل على الدكتوراه في العلوم الفيزيائية والرياضية من جامعة (لاباتا). عمل في حقل الإشعاعات الذرية في فرنسا ثم في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا في بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية. لكنه وفي عام 1945، هجر العلوم بصورة نهائية ليكرس وقته للأدب، فقد «كان منذ طفولته روحاً تفكر وفناناً ينطوي على دخيلة كئيبة»، كما تصفه زوجته ماتيلدي، التي تضيف: «ولكنه في الوقت ذاته متمرد وصاخب، قيدته العلوم بشكل مريع، فكان أمراً منطقياً أن يبحث عن المنفذ الوحيد الذي يمكن أن يساعده على التعبير عن تقيؤ عذابه الداخلي: الرواية».

انتسب ساباتو في مرحلة الشباب إلى الحزب الشيوعي، لكنه سرعان ما هجره بعد أن اكتشف أن هذا الانتماء يقيد الفن، فالفن ـ في رأيه ـ لا يُصنع بأسباب. يقول شارحا رؤيته: «إن محاولة فهم عمل فني هي، إلى حد ما، كالرغبة في اختزال الكراهية والحرب والحب والأحلام إلى مجرد أسباب خالصة. الفن يشبه الأحلام إلى حد بعيد. تلك الرسائل التي تأتي من أعماق لاوعينا: سخيفة، متناقضة، لاعقلانية»، فهل من المعقول أن نطلب من بيتهوفن أن يفسر لنا إحدى سيمفونياته، أو من كافكا أن يقول لنا بوضوح ما الذي أراد أن يعبِّر عنه بروايته «المحاكمة». تلك الرواية تعبر بالطريقة الوحيدة الممكنة عن الواقع الجهنمي الذي كان كافكا يشعر به». هكذا يفهم ساباتو الفن، ويجادل بأن هناك، في جميع الأحوال، تقدماً في الفكر الخالص، وفي العلوم وليس في الفن. «إن الفن لا يتقدم، والسبب أن الأحلام ذاتها لا تتقدم: هل كوابيس عصرنا أفضل من كوابيس عصر يوسف التوراتي...؟ إن رياضيات آينشتاين تتفوق على رياضيات أرخميدس، ولكن «عوليس» جيمس جويس ليست أسمى من «عوليس» هوميروس».

وتأسيساً على هذا الفهم، فإن ساباتو ينتقد بشدة أدلجة الفن وتسيسه، ويستهجن مقولات وتوجهات مدرسة الواقعية الاشتراكية في الأدب: «لم يكن لأعمال بلزاك أو غوتيه أو شكسبير أو دون كيخوته ولا لسيمفونيات بيتهوفن أو برامز، ولا لآلام باخ أو لوحات رامبرانت ولا لغيرها فائدة تُذكر في إنقاذ طفل من الموت جوعاً في أي مكان في العالم». فمن السخف حقاً ـ كما يشدد ساباتو ـ اعتبار فنان عظيم خائناً أو متواطئاً في قضية الظلم الاجتماعي، لأنه لا يحرض بفنه على الثورة العالمية. وهو، في أغلب ما يقول، يقرن القول بأمثلة للمزيد من الإقناع، فيذكر في هذا المقام الكُتّابَ الثوريين، إذ يقول بأن ثورياً معروفاً مثل كارل ماركس كان معجباً بشكسبير، وكان يعرف الشعر الغنائي الإنكليزي والألماني معرفة عميقة، ويحترم ويقدر غوتيه مستشار البلاط المتطرف في رجعيته، ويعتبر بلزاك مثالاً للروائي الفذ.

لم يكن كارل ماركس إذاً، من أنصار تدمير أعمال أولئك باسم الثورة الاجتماعية، لأنهم محافظون. من هنا، فإن ساباتو يرفض الهبوط بالفن إلى مستوى الدعاية، بل ينبغي أن يسمو بالشعب إلى أسمى المستويات الروحية. لا غرابة إذاً في أن يشبّه الفنانين والمبدعين بالقديسين، «إذ تنتصب أعمالهم فوق هذه البشرية التعيسة وفضلاتها كنُصُبٍ طاهرة ترصد المدى الذي تصل إليه الروح البشرية».

وينظر ساباتو بعين التقدير إلى تلك الثقافات الفطرية البدائية: «سمة ثقافة الكتب هي المبالغة، وقد احتقرنا ثقافات قديمة لم تقم على الأبجدية، وإنما على أسس أخرى أكثر أهمية: أسطورية حكيمة، توازن رائع مع الكون، ألفة مع الموت، إحساس مقدس باللحظات العظيمة لهذه الحياة البائسة... وهو يستشهد هنا بمقولة لسنغور: «عندما يموت شيخ قبيلة، فذلك يكون بمثابة احتراق مكتبة»، كما «أن محادثة مع عالِم حول منضدة أفضل من قضاء عدة سنوات في تعليم يعتمد على الكتاب»، كما يقول لونجفيلو الذي يستشهد به ساباتو.

ولساباتو آراء حول اللغة قد تثير حفيظة اللغويين المعتدلين قبل المتشددين، هو يرى أن اللغات عمليةٌ في حالة تحول أبدي، لأسباب نفسية وتاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية: «اللغات الوحيدة المستقرة هي اللغات الميتة، وكل ما عداها لغات ديناميكية تحفل دائماً بالشوائب... وسيكون ضرباً من الطيش القول إن عمق إبداع أدبي ما يمكن أن يعتمد على تنوع مفرداتي أو صوتي بسيط، ففي حالة كهذه، ستكون معلمة لغة إسبانية تُلِمّ بسائر تفاصيل علم النحو وقواعده ومحظوراته، أجدرَ من ميجيل ارناندس لكتابة عمل أدبي عظيم. إن بنية كل لغة تنبض خِفْيَةً بالطاقة التي ستقود إلى بنية أخرى مختلفة. لست أدري لماذا يثير غيظهم (فقهاء اللغة) أمر بالغ الوضوح كهذا؟».

إبراهيم حاج عبدي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...