الإسلام المحارب وعسكرة المذاهب

20-01-2016

الإسلام المحارب وعسكرة المذاهب

رأى ماكس فيبر (1864-1920) أن المرحلة المدينية دشنت ما أطلق عليه «الإسلام المحارب»، ملاحظاً أن الإسلام قبل الهجرة إلى المدينة، كان مفهوماً توحيدياً نقياً، يمكن أن يكون قد أنتج زهداً دنيوياً. وفي كتابه «علم اجتماع الإسلام: دراسة نقدية لفكر ماكس فيبر» ناقش الباحث البريطاني براين تيرنر فرضية فيبر الأساسية القائلة: إن البروتستانتية ساعدت على تكوين الرأسمالية، بينما بقي الإسلام في بنيته مناهضاً لها، لأنه قائم على «دين المحاربين»، أي الأخلاق العسكرية ولا يملك قاعدة «تزهدية». واعتبر فيبر أن رغبة المقاتلين في هزيمة العالم أعطت الإسلام نظرة مميزة خاصة ومجموعة من النظم.
يساجل تيرنر في مقاله «الإصلاح الإسلامي وعلم اجتماع الدوافع» مقولة عالِم الاجتماع الألماني الذي نظر إلى تبني وحدانية محمد القرآنية للمصالح الاجتماعية والاقتصادية لأسلوب حياة المقاتلين، من زاوية إعادة تفسير طلب الخلاص في ضوء فكرة الجهاد بغية السيطرة على الأرض، فكانت النتيجة تحويل الإسلام إلى «دين قومي للمحاربين العرب» وكـ «دين مقاتلين». وقد انتقد المؤرخ التونسي هشام جعيط في الجزء الثالث من ثلاثيته «في السيرة النبوية: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام» (ترجمة: خليل أحمد خليل، دار الطليعة، 2015) خلاصة فيبر، مشيراً إلى أن مفهوم «النبي المحارب» هو مفهوم منقوص، ربما يكون أكثر قبولاً مفهوم النبوة السياسية: مثلاً، مفهوم محمد «رجل الدولة»، مع أنه يمكن هنا أيضاً النقد على هذا النمط التمثّلي، مثلما يمكن النقد على ذلك الخلط الغامض بين الدِّين والسياسة الذي وصف به الإسلام عموماً». يأتي استخدام مصطلح «الإسلام المحارب» - هنا - بعيداً من الفهم الفيبري لبدايات التاريخ الإسلامي، وإن تطابق في بعض نتائجه مع أحوال «الجهاديين» في الأزمنة الراهنة، لا سيما حين خلص فيبر ـ كما يذكر تيرنر - إلى كيفية تعامل المحاربين مع النساء كـ «غنيمة مشروعة»، لافتاً إلى أن «موضوع الشهوانية كان سائداً في الإسلام المبكر إلى درجة أن فكرة الآخرة في الإسلام هي عبارة عن جنة شهوانية للجندي».
يبرهن السياق العام للإسلام المعاصر على حجم الصدامات المتكررة في المنظومة الإسلامية. وقد أدى التشظي الداخلي إلى بروز نتيجتين: الأولى، الممانعة القوية التي يبديها «الإسلام المحارب» - المقصود إسلام الفقهاء والإسلام التقليدي والإسلام الجهادي والإسلام السلفي الذي يرفض العصرنة - المتحصن في قلاعه إزاء أفكار وقيم الحداثة، كما لو أنه في مواجهة مع العالم كله؛ والثانية، انفجار المذهبية والعصبيات الطائفية وجنوحها نحو أنماط من العسكرة، التي ظهرت بشكلها العلني أقله منذ الاحتلال الأميركي للعراق العام 2003.
أضفى تمدد «الدولة الإسلامية» في أجزاءٍ من الأراضي العراقية والسورية قوة شديدة للمذهبية المعسكرة النامية بفعل التغول الديني الذي تغذيه الدول الإقليمية في أسواق الحروب السياسية والدينية. لم تعد عسكرة المذاهب تقتصر على الأجنحة المسلحة من السلفية السنية الجهادية والشيعية، بل اتخذت طابعاً إيديولوجياً ودينياً وفقهياً يوازي السلاح تحت شعارات طهورية تشيطن الآخر وتقصيه عن الحق في الوجود، فتجعل منه مكوِّناً دينياً هجيناً لا علاقة له بالدين الحنيف.
آلت العسكرة الجهادية بأذرعها السُنيّة والشيعية إلى تفندق المذاهب الإسلامية وتقاتلها على أحقية النطق بالإسلام. ولعبت الصراعات السياسية على بؤر النفوذ في الإقليم دوراً حاشداً وتجييشياً في اصطفاف المذاهب، فترافقت مع تفكك مؤسسات الدولة وانهيارها في أكثر من دولة عربية بينها العراق وسوريا واليمن. وفي ما يتعدى مقولات الحروب الخشنة والناعمة بين المحاور الإقليمية، يكتسب الصراع على السيادة والقيادة السياسية في العالم العربي، بغضاً مذهبياً وطائفياً، لم يشهده الإسلام في تاريخه الحديث، ما من شأنه أن يساهم في تبدل خريطة المنطقة على نحو مأساوي. والحال، إن الحدود التي رسمتها القوى الاستعمارية بعد الحرب العالمية الأولى آيلة إلى إعادة التشكل تحت وطأة حروب المذاهب وقلق الأقليات والانهيارات الدرامية للدولة الوطنية. ولعل الأخطر أن الناطقين باسم الدين والسياسات يعززون ثقافة الكره والتباغض بين المسلمين، وتمارس الوسائل الإعلامية دوراً تحريضياً في «حرب الجهالات» (كما يجترح إدوارد سعيد) فتكرس منابرها للاستقطاب السياسي والديني تحت شعار «إما معنا أو ضدنا». في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، انتشرت في العالم العربي الأفكار الاشتراكية والقومية، وشكلت العروبة بأبعادها كافة إطاراً جامعاً يتخطى الطوائف والمذاهب. وبرغم مما يسجله بعض المحللين والدارسين من انتقادات حول كيفية تعامل الدول التي رفعت لواء العروبة مع الأقليات الدينية والإثنية، إلاّ أنها أعطت للعرب هوية، في حين أنهم اليوم يتقاتلون تحت رايات المذاهب والطوائف في صدام مكشوف بين السُنّة والشيعة. وساهمت عوامل إقليمية بارزة في تذرير هوية العرب الحضارية، حيث اكتسبت الصحوات العصبية الدينية المسلحة التي اشتَدَّ أُوَارُهَا في ظل التعملق الشيعي والمخاوف السُنّية، صلابة، تُفتت كل من يصطدم بها. وعززت التحوّلات في المشهد العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعولمة الجهاد، صعود الأصوليات الدينية واستشراء الحروب الدينية على الساحة الكونية بين الأصولية الجهادية والأصولية الإنجيلية، بين الإسلاميين الجدد والمحافظين الجدد، بين مجانين الله ومجانين المسيح، على حد تعبير المفكر التنويري علي حرب.
يدرج الكاتب العراقي فالح عبد الجبار ظاهرة التسييس وعسكرة الهويات المذهبية المعاصرة، الجديدة، والظرفية، أي الانتقالية، في خانة المتغيرات الكبرى لتاريخ تكوين الدولة الحديثة؛ فالطابع المركزي/الاحتكاري المفرط للدولة الحديثة واختلال بنيتها، أثمر عن فشلها في بناء الأمة ـ الدولة (راجع: فالح عبد الجبار، بناء الأمة ـ الدولة ومشكلة الانشطارات الدينية/ المذهبية من التسييس إلى العسكرة، مقاربة سوسيولوجية ـ سياسية (أنموذج العراق)، موقع الحزب الشيوعي العراقي).
ما يحدث الآن انتصارات دموية للإسلام المذهبي والمحارب، يقودها الجهاد الديني والانقسامات المذهبية واهتزاز الأنظمة السياسية العربية، وسط الفوضى والضبابية غير المسبوقتين في النظامين الإقليمي والدولي. يؤكد التمذهب والتطرف وظواهر عسكرة المذاهب، النفوذ الصلد للدين الذي يفوق سلطة الدولة والقوانين في العالم العربي.

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...