الرقابة الظلامية على الإبداع

06-09-2007

الرقابة الظلامية على الإبداع

لا شكّ في أن الرقابة الدينية على النتاج الثقافي الإبداعي أخطر من رقابة رجل الأمن، لأنها مستمدّة من غيبيات لا تزال فاعلة ومؤثّرة بقوّة في المجتمع العربي. وإذا بدا رجل الأمن موظّفاً «مدنياً» لدى إدارة سياسية بوليسية حاكمة في الدول العربية، لها حساباتها وتوازناتها ومصالحها المختلفة؛ فإن رجل الدين مرتبط مباشرة بسلطة إلهية تفرض سطوتها على المجتمع والناس، بأن تبيح ما يتناسب وموقعها، وتمنع ما يؤذي مكانتها. وهي لا تتردّد عن انتقاء أي نتاج ثقافي إبداعي لتشويهه وتغييبه ومحاصرته بقرارات همايونية، سواء أصدر حديثاً أم قديماً، كي «تُلقّن» المجتمع والناس دروساً في الأخلاق الحميدة، مرتكزة على خطاب ديني متزمّت.
الرقابة الدينية شرسة في تعاطيها مع الثقافة، وقادرة على تعطيل الإبداع. والرقابة الأمنية خاضعة لقراراتها بحجج واهية، لعلّ أبرزها عدم رغبتها في مواجهتها، أو حماية مصالح سلطتها السياسية البوليسية بالتعاون معها. الأخطر منهما أن مثقفين عديدين يمارسون، بصمتهم أو عزلتهم أو انفضاضهم عن أولوية مقارعة الظلامية المتجدّدة في العالم العربي، أبشع أنواع الرقابة المبطّنة، لأنهم ارتضوا أن يكونوا شهوداً على قتل الإبداع. غير أن المسألة ترتبط بهذا الوحش الطالع من الجهل والأميّة لإلغاء حرية إعمال العقل إبداعاً وتحليلاً ونقاشاً، وحرية انتقاء المواضيع كلّها لبحثها والاشتغال الإبداعي عليها.
يعاني المجتمع العربي كَمّاً هائلاً من الأزمات اليومية. لكن مأزق الرقابة الدينية، التي تشارك الرقابتين الأمنية و«الثقافية» في تفريغ هذا المجتمع من محتواه العقلي والثقافي والسجالي والنقدي، يُشكّل أحد أقسى التحديات المفروضة عليه في الفترة الأخيرة. وما حدث في القاهرة وبيروت مؤخراً، من تدخّل ديني وأمني في الشأنين الفني والثقافي، يعكس حجم الانهيار الحاصل في الثقافة العربية، وعمق الانحدار الخطر الذي يأخذ هذه الثقافة وصانعيها إلى أسفل دَرك. فأن تُصدِر أعلى سلطة دينية في القاهرة قراراً بمنع مؤلّفات أدبية وعلمية، وأن يستمرّ تدخّل رجال دين في شأن فني بحت لمنعه بحجّة «الاعتداء على رموز دينية» أو «التحريض على النعرات الطائفية» (آخرها شريط «فيديو كليب» لهيفا وهبي، قال رجل دين مسيحي إنه يتضمّن رموزاً دينية مسيحية!)، فهذا يعني استمراراً واضحاً للإرهاب الأصولي المتفشّي في جسد المجتمع العربي وروحه، واستكمالاً غير مباشر لمشروع إغراق المنطقة في ظلام دامس، عقلاً ووعياً.
إن الثقافة النقدية والإنتاج الإبداعي العربيين محكومان بالقبضة الأمنية البوليسية والتعسف الديني، يُضاف إليهما غياب قوانين حديثة وعصرية تحمي الثقافة والإبداع من هاتين الرقابتين.
لا جديد في هذا. لكن الخلاص من هذا المرض المستشري يتمّ بالمواجهة الديمقراطية اليومية، وبرفع الصوت عالياً، وإن في ظلّ معارك متفرّقة تحاصر الجميع وتدفعهم إلى مزيد من البؤس والقهر والألم.

نديم جرجورة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...